مع تنظيم الفيفا أمس لقرعة المونديال، ابتلع الإعلام المصري أوهامه وكسر أقلامه، وبحت أبواقه، وطويت صحائف سب الشعوب، ولعن تاريخها، ليكتشف الشعب المصري بعد حين، أن فريق التوريث الملتف حول جمال مبارك، والذي أراد أن يتخذ من أم درمان بالسودان، ميدانا لأم معارك التوريث على عرش أم الدنيا، كان حاله كالذي "ذهب يبحث عن قرنين فعاد مصلوم الأذنين" من منازلة غير محسوبة، مع خصم يجيد فن المناورة بالذخيرة البشرية الحية. * عشرة أيام لم تكن كافية لإخماد النيران التي أشعلها الإعلام المصري، كان وقودها حطام المشاعر البدائية لشعب كبير، وحمالة الحطب فيها نخبة سياسية منحطة، وبقايا منحلة من صفوة فكرية وفنية عبث بها الفريق المكلف بتسويق عملية التوريث القسرية لابن الرئيس مبارك. * لا شك عندي أن الإعلام المصري قد خرق كل الخطوط الحمراء، بما كاله من السباب والشتيمة لشعب، كان وسيظل مصدر فخر للعرب والمسلمين، وللكثير من شعوب العالم، ولا شك أن جانبا من الصحف الجزائرية، أو بعض الأقلام في بعض عناوينها، قد انساق بلا روية إلى وحل الخوص في أعراض الشعوب. ولا شك عندي أن أكثرهم اليوم قد أصبح على مت فعل من النادمين، ويصلح به الإسراع إلى التوبة، وطلب الاعتذار من الشعبين الجزائري والمصري، والاجتهاد في الأسابيع القادمة، في قراءة هادئة وعقلانية لما حدث، ومساعدة الشعبين ونخب الدولتين على استخلاص العبر، وهي كثيرة ومثيرة، واستشراف تداعيات واقعة أم درمان على مستقبل النظامين والشعبين، ومعهما شعوب منطقة شمال إفريقيا، فضلا عن الآثار السلبية والإيجابية التي سوف تتركها في وجدان الشعوب العربية. * * من أم الدنيا إلى أم للدنية * * ولأنه لابد أن يصدر عن كل مقابلة حاسمة خاسر ومنتصر، فإن قدم عنتر يحيى قد حسمت نتيجة المقابلة الكروية، ومعها منازلة لم نحط بعد بكل أبعادها ورهاناتها بين النظامين في مصر والجزائر، ربما يكون أجدر بالإعلام في البلدين أن يعكف على إحصائها ودراستها، بدل الاستمرار في تبادل السب والشتيمة وإهانة ما هو مقدس عند الشعبين، كما دعا إليه رئيس الحكومة أويحيى أول أمس وسائل الإعلام الجزائرية. * على الجانب المصري، لم نسجل حتى الساعة بداية الاستفاقة من الصدمة والترويع التي أعقبت هزيمة الفريق الوطني المصري بالخرطوم، واشتغل الإعلام المصري ومعه جانب من النخبة الحاكمة، على تصوير ما جرى في أم درمان على أنه اعتداء موصوف، قادته الحكومة الجزائرية ضد الدولة المصرية وشعبها. ولم يترك الجانب المصري أي هامش مناورة لتصويب الخطاب الرسمي والإعلامي في اتجاه التهدئة، كما لم يترك أي هامش لمحاولة التخفيف من الاحتقان الشعبي الذي صنعه الإعلام المصري، وإثارته للمشاعر العدائية البدائية ضد الشعب الجزائري، وصل حد التحريض على القتل في بعض الفضائيات. * * مفردات انقلاب أبيض لجمال على مبارك * * هذه الأجواء المحتقنة منعت، وتمنع اليوم الإعلام المصري من التعامل مع الأحداث التي واكبت المقابلات الثلاث بقدر من العقلانية، والنقد الموضوعي، والبحث في الخلفيات السياسية لما جرى، ثم تقييم أداء المؤسسات المصرية الرياضية والسياسية والأمنية، ومعها أداء الإعلام المصري الذي خرق كل الخطوط الحمراء والمحرمات، وأساء إلى مصر قبل أن يسيء إلى الجزائر ومعها إلى شعوب المغرب العربي. * فهزيمة الخرطوم لم تكن رياضية وحسب، بل جاءت كحلقة مترابطة من الهزائم والإخفاقات لمؤسسات الدولة المصرية، تكشف هشاشة النظام المصري، وتفكك مفردات الحكم فيه، بل تشي بوجود ازدواجية خطيرة في السلطة، كانت وراء الفوضى التي ميزت الإدارة المصرية للحدث، والتضارب بين مؤسسات الدولة. وبدا واضحا أن الدولة المصرية منقسمة في إدارة الحدث، وظهرت الحكومة المصرية وكأنها تواجه عملية انقلاب أبيض، يقوده نجلا الرئيس مبارك: علاء وجمال، ومعهما شبكة واسعة من أقطاب النخب المالية والسياسية والفكرية والإعلامية، استولت على الخطاب الإعلامي المصري العام والخاص، وذهبت به إلى مستويات من التهييج الشعبي، أريد له أن يلوي ذراع السلطة، ويدفع بالرئيس مبارك وبالحكومة المصرية إلى اتخاذ قرارات، كانت ستصل حد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وفي الحد الأدنى الاستجابة لطلب طرد السفير الجزائري الذي كان سيقود لنفس الغاية. * * مخابرات مصر تخرب مقاولة التوريث * * واضح أننا تابعنا من الخرطوم فصلا درامتيكيا من فصول مسلسل التوريث المتعثر أصلا، والذي يكون قد مني بهزيمة كبرى في ساحة غير متوقعة، تكون الحكومة الجزائرية والفريق الوطني وأنصاره قد شاركوا فيه من غير قصد أو ترصد، كما كان فيه دور لجهاز المخابرات المصرية، الذي صنع حالة من التعمية على جماعة جمال مبارك، وتركها تتورط في حملة الخرطوم، إن لم يكن قد ساعد في خلق تلك الفوضى العارمة التي رافقت تنقل أبناء مبارك إلى الخرطوم، وعودتهم بخفي حنين. بل إن جانبا من الجهاز الدبلوماسي المصري يكون قد لعب دورا مماثلا، وصدرت تصريحات عن السفير المصري في السودان نسفت بالكامل القاعدة البيانية من الإدعاءات والأكاذيب التي سوقها الإعلام المصري، بإدارة وزير الإعلام الفقي، المحسوب على جمال مبارك. حتى الرئيس مبارك نفسه أظهر قدرا من الاستياء من تصرفات جماعة جمال مبارك، وسعى في أول فرصة أتيحت له أمام مجلس الشورى، ليصوب الخطاب التحريضي الذي كان موجها بالوكالة له وللنظام المصري، وحملهما مسؤولية التقصير في الدفاع عن كرامة المصريين المهانة. * * عيال ضال يقامر بآخر أوراق أم الدنيا * * قد تمضي أسابيع وشهور كثيرة، قبل أن يستوعب المصريون حجم الخسائر التي لحقت بمصر على أكثر من صعيد، لأن الفريق المكلف بإدارة ملف التوريث لصالح جمال مبارك يكون قد ارتكب أكثر من حماقة، وهو يريد إنتاج موجة تعاطف شعبية مع جمال مبارك، على خلفية الرهان الجنوني على تأهل الفريق الوطني المصري لمونديال 2010، وما كان سيوفره كغطاء لحملة تسويق التوريث، عاما قبل الانتخابات الرئاسية سنة 2011 . فقد كاد هذا الفريق يدمر العلاقات المصرية السودانية، بما وجهه من اتهامات للحكومة السودانية بالتقصير والقصور الأمني، بل والتواطؤ مع الجزائريين، لولا التدخل السريع للسلطات المصرية على أعلى مستوى لوقف الحملة ضد السودان وتصويب الخطاب. وسوف تحتاج السلطات المصرية لكثير من الجهد لترميم ما أفسده هذا الفريق في علاقات مصر مع شعوب المغرب العربي، بعد الشتائم التي وصفت شعوب المغرب العربي بالهمج والبرابرة، وكانت محفزا قويا لميلاد حالة غير مسبوقة من التعاطف المغاربي مع أشقائهم في الجزائر داخل المغرب العربي وفي المهجر. ولأن الإعلام المصري كان مندفعا بلا عقال، فقد أثار حفيظة الكثير من العرب في المشرق، وألب ضده أغلبية صحف وقنوات الإعلام العربي الذي نال نصيبه من شتائم الإعلام المصري. * * استفزاز سافر لعفاريت بلاد الجزائر * * غير أن أعظم خطيئة ارتكبها فريق التوريث كانت في حق الجزائر، باستهداف جميع رموز الدولة ومشاعر الشعب الجزائري بحجم من الشتائم والاتهامات، كان أعظمها الاعتداء على شهداء ثورة التحرير، فحتى مع اعتبار تطور العلاقات الاقتصادية بين الجزائر ومصر في السنوات الأخيرة، فإن العلاقات السياسية بين البلدين كانت ملغمة بأكثر من لغم، سواء على المستوى العربي أو المستوى الإفريقي، أو على صعيد ما يشيد اليوم في حوض البحر الأبيض المتوسط. * فعلى مستوى العمل العربي المشترك، كانت الجزائر من الدول العربية القلائل التي لم تقبل بتفرد مصر بأمانة الجامعة العربية، وسيطرتها على الكثير من مؤسساتها، وخاضت في هذا السياق أكثر من مناوشة لتخليص أمانة الجامعة من التفرد المصري، فضلا عن الاستياء الجزائري الغير معلن من إقصاء دول المغرب العربي من إدارة الملف الفلسطيني تحديدا. وعلى المستوى المتوسطي، لم تكن الجزائر مرتاحة لبداية تشكل محور فرنسي مصري سمح لساركوزي بتجاوز التحفظات الجزائرية على بنية الإتحاد ومحتواه. * ما حدث في أعقاب مقابلة الخرطوم، والتهجم السافر للإعلام المصري وأبناء الرئيس على القيادة الجزائرية، سوف تدفع القيادة المصرية عنه أثمانا باهظة، بالنظر إلى ما تمتلكه الجزائر من ثقل سياسي دبلوماسي واقتصادي، وقدرة عالية على التعطيل في الساحات الثلاث: العربية والأفريقية والمتوسطية، وإذا ما أضفنا الآثار السلبية على المصالح الاقتصادية المصرية في الجزائر، فإن مصر تكون قد خسرت أكثر من مقابلة في كرة القدم، وربحت في المقابل خصما عنيدا، أثبت مؤخرا في ملف العلاقات مع قوة كبرى مثل فرنسا، أنه يمتلك أوراقا كثيرة للعقاب، ولا يتردد في استعمالها، كما لا يتردد في رد الصاع صاعين، حين يتعلق الأمر بكبرياء الجزائر، ولا يبدوا أن الجانب المصري قد قيم الموقف كما ينبغي، قبل الاقتراب بذلك الشكل المستفز من عش الدبابير. * * مناورات ناجحة بالذخيرة البشرية الحية * * على الطرف الآخر، ينبغي أن لا يكتفي الجزائريون بالاحتفال بالفوز والتأهل، وصرف النظر عن التداعيات الكثيرة لجملة الأحداث التي رافقت مقابلة الخرطوم، وتجاوزت حدود الرياضة وكرة القدم، لتطال ساحات السياسة والأمن القومي، وإعادة ترميم وتوحيد الوعي الجمعي لمنطقة المغرب العربي. * دعونا في البداية نشارك أشقاءنا المصريين في حيرتهم من ذلك التواجد الجماهيري الحاشد لأنصار الفريق الجزائري، والذي تم في ظروف استثنائية وزمن قياسي، بوسائل وطنية صرفة، وبتدبير من كوادر شركة الخطوط الجوية الجزائرية، وزملائهم من الطيران العسكري. * للأمانة، كنت أول المشككين حيال إمكانية نقل تسعة آلاف مناصر من الجزائر جوا إلى الخرطوم، في زمن قياسي لا يزيد عن 48 ساعة، وفي وقت كان أسطول الخطوط الجوية مجندا بالكامل لنقل الحجاج، فإذا بنا نفاجأ مثل المصريين بامتلاء ملعب المريخ بما يزيد عن عشرين ألف مناصر، لا نعلم كيف تم تأمين نقلهم، وتنظيم ما بين 80 إلى 100 رحلة، كل رحلة تحتاج إلى ترتيبات خاصة لتأمين المسار، واستصدار التراخيص الدولية، وأمور فنية معقدة لا طائل من ذكرها. * * المعركة الجوية التي حسمت منازلة المريخ * * ولن أبالغ إذا قلت أن عملية النقل الكبرى هذه، تكون قد رصدت من أكثر من جهة دولية، وخضعت للبحث والدراسة، خاصة من جهة القدرات التي أظهرها أسطول النقل العسكري الجزائري، الذي يكون قد أنجز في هذه العملية واحدة من أكبر مناوراته، أظهرت كفاءة الإطار، والقدرة على الاستنفار السريع، ومقدار عالي من الجهوزية الفنية، وقابلية الأسطول لتنفيذ مأمورية طارئة، كانت تحتاج لأسابيع من الإعداد والتخطيط والتدريب. فحتى لو سلمنا أن نصيب الأسطول العسكري كان نقل نصف عدد الأنصار، فإن نقل ثمانية أو عشرة آلاف مناصر، يكون قد استدعى من الأسطول الجوي العسكري تنظيم ما بين أربعين وخمسين رحلة، في بحر 48 ساعة، بمعدل رحلة كل ساعة، بأطقم من الطيارين كانت تنفذ أكثر من رحلة ذهابا وإيابا في اليوم على بعد أربعة ألاف كيلومتر. * ولا ينبغي أن نتوقف عند هذه القدرة اللوجيستيكسة التي فاجأنا بها الأسطولان المدني والعسكري، بل يفترض أن نثمن ما رافق عملية نقل عشرين ألف مناصر في بحر يومين، من تجنيد قياسي لعدد من الإدارات الحكومية والجهاز الدبلوماسي، وأطقم السفارة في الخرطوم، كان وراء التواجد المكثف والمنظم لعشرين ألف مناصر، قاموا بمهمة مساندة فريقهم بشكل منظم ونظيف، لم يسمح للطرف المصري باقتناص صورة واحدة يسند بها مزاعمه. * * القوة الناعمة لشباب احتقرته سياسات التهميش * * الرئيس الجزائري، الذي لم يخف سعادته بعودة الفريق بتأشيرة التأهل، يكون بدوره قد دخل مضطرا في مجازفة كبرى، انتهت بذلك الاستقبال الشعبي الغير مسبوق للفريق الوطني وانفجار فرحة شعبية أعادتنا لأيام الاستقلال المجيدة. ولا بد أن الرئيس، وقبل أن يجازف بسمعته وسمعة الدولة والبلد، كان على إلمام، وأيضا على ثقة كبيرة بالأسطولين وبمؤسسات الدولة على تنفيذ المأمورية، قبل أن يتخذ القرار، ولأنه ربما يكون أيضا قد أحس بحاجة الجزائريين إلى رد الاعتبار، بعد الذي جرى في القاهرة، فصدق حدسه، ولم تخيب مؤسسات الدولة ثقته في كسب الرهان. وقد خرج من المجازفة بأوراق رابحة، سواء على مستوى تعاظم أسهم شعبيته، أو على مستوى العوائد السياسية التي لم تكن أصلا في الحسبان، يأتي في طليعتها إعادة اكتشاف قوة وتجذر الروح الوطنية وحب البلد ليس فقط عند الشباب المقيم بأرض الوطن، المطعون في هويته ووطنيته وسلوكه الاجتماعية، حتى أنه لا يذكر إلا ويذكر معه العنف و»الحرڤة« والانقياد للأفكار والمعتقدات الوافدة من الشرق والغرب، بل أيضا عند الشباب في المهجر، الذي كشف عن تعلق بالوطن وبالألوان الوطنية، يكون قد أزعج الكثير من الدول الغربية، وفي طليعتها فرنسا، التي ملأ الجيل الثالث من أبناء المهاجرين شوارعها بالألوان الوطنية وشعار »الوان، تو، تري، فيفا لالجيري« الذي التف حوله كل أبناء المغرب العربي في المهجر. * * في انتظار تأهيل فريق مغرب الشعوب * * وهاهنا مكسب آخر لا يمكن أن نمر عليه مرور الكرام. فقد عبرت شعوب المغرب العربي بما يكفي عن استعدادها لتجاوز الخلافات التي صنعتها النظم، ورأيناها تحتفل بانتصار الفريق الجزائري وكأنه انتصار لعموم الشعوب المغاربية، كما رأيناها في منتديات الانترنيت تشارك على قلب رجل واحد في مواجهة حملة الإعلام المصري، الذي ساعد بحماقاته، واحتقاره لشعوب المغرب العربي، في خلق حالة من التعاطف غير مسبوقة بين شعوب المغرب العربي، تحتاج من ساسة دول المغرب العربي، ومن نخبه إلى مراجعة الذات، والبناء على هذه المشاعر المتأصلة، لمنح شعوب المنطقة فرصا أفضل للتقارب وبناء المصير المشترك. * من جانب الجزائر، يؤمل أن تغتنم السلطة هذه الفرصة، وفرصة الانتهاء من إنجاز الطريق السريع شرق غرب، لاتخاذ قرار إعادة فتح الحدود مع المغرب الشقيق، ثم البحث مع قادة دول المغرب العربي سبل إعادة إحياء مؤسسات الإتحاد المغاربي، بمقاربة جديدة قد تسمح لنا بتجاوز عقبة النزاع المستديم في الصحراء الغربية. لأن إعادة تأهيل الإتحاد المغاربي وبناء فريقه الرسمي والشعبي يفوق ألف مرة الفوز بكأس العالم لألف سنة قادمة.