يعلم العقلاء أنّ الأصل في المنتمين إلى ثقافة واحدة ودين واحدة وبلد واحد التوافق، لهذا فإنّ وضعَ التوافق مقصدا غني بالإيحاءات بل بالإشارات التي تكاد أن تقوم مقام العبارة الدالة على تضييع التوافق في التصورات المتعلقة بالشأن العام، من هنا كان تصريح الذي بيده شأن السلطة بتبني التوافق صريحا في الدلالة على فقده في الواقع الاجتماعي والسياسي بجملة تجلياته في ولايات مفاصل مناصب القرار في الدولة، إذ لو لم يفتقد التوافق، لما كان له أي معنى في جعله هدفا لمشروع سياسي؟ وإذا جُعِل التوافق مقصدا مركزيا في برامج الزحام السياسي من قبل القوى المتزاحمة في تأطير الشأن السياسي بطريق إرادة الشعب، وتبنته الجهة التي بيدها مفاصل القرار أي زمام الأمور( بصرف النظر عن كونها سلطة فعلية أو سلطة شرعية أو سلطة الواجهة، لأنّه ليس من قصدنا تحقيق القول في هذه المسألة)، فإنّ الحديث عن التوافق غني بالحديث عن أزمة ثقة بين جملة المتنافسين في المجال السياسي. التوافق في أصل وضعه تحرير مساحة للمجتمعات لأجل استعادة الانخراط في الحياة السياسية، والحضور فيها بقصد تقرير المصير السياسي للدولة لا السلطة فحسب، لأنّ الدولة الراشدة تقوم على التوافق مع السلطة الحاكمة و توابعها في الموالاة من جهة، والمعارضة بمختلف تشكيلاتها وألوانها من جهة أخرى، ولا أقصد بالمعارضة كل من تسمى أوتظاهر بالمعارضة، كأن يكون معارضا لأجل السلطة لا لأجل المجتمع الذي يدعي التعبير عن آرائه. فقد علمتنا الأيام أن بعض "المعارضة" هم أقرب إلى"المغارضة" وهي تلك الحركات التي تنال تزكية ومددا في الانتخابات والاستحقاقات السياسية من الجهة التي تعارضها، وقصارى ما تتبناه مثل هذه الحزيبات السياسية هو الضغط لأجل الأكل والشرب و...الخلاصة الاستفادة من الريع، لهذا تراهم أزهد الناس تفكيراجديا في التعبير عن التعدد الفكري والمنهجي في النظر إلى المسألة السياسية. التوافق عنوان تَبَنِي فكرة أنّ الممارسة السياسية طريق أساسي لاستعادة جعل السلطة تتويجا حقيقيا لإرادة المجتمع، لأنّها إن لم تكن كذلك لا يمكن أن تكون وسيلة لإحداث تنمية أو مصدر توافق فعلي بين القوى المتنافسة على دواليب السلطة بصفة عامة. التوافق إذا في أصل وضعه تفكير جدي في منع اصطفاف القوى السياسية المتنافسة أو المتزاحمة في الفضاء السياسي على أساس التفكير الريعي، لأنّ جعل الغنيمة هدفا في الاصطفاف السياسي، يجعل متبنيه يخاطر بمستقبل المجتمع لصالح بعض المجتمع ممثلا في بعض القوى السياسية التي يتصور المصطف أنّ بيدها مفاصل القرار، لهذا إذا تصوّرت السلطة المخاطرة بمكاسبها خطا أحمر، بمعنى لا يجوز مناقشتها ولا النظر في شأنها، فإنها تخاطر بالمجتمع وتوافقاته الحقيقية لأجلها، وفي تعريض الأصل للخطر لا يسلم الفرع، لأنّ التوتّر في الأصل توتّر في الفرع ضرورة، وخسارة الأصل يترتّب عليها خسارة الفرع بلا أدنى ريب. وبناءً على ما سلف فإنّ التوافق هو برنامج الجميع للجميع، وليس برنامج جهة لتقرر مصير الجهات الأخرى، لأنّه بوصفه مبدأ ومنطقا له مخرجات توافقية، وإذا عدمنا التوافق بوصفه مبدأ لا معنى للحديث عنه بوصفه منطقا، وإذا عدما الشرطان(التوافق مبدأ ومنطقا) فلا ننتظر مخرجات توافقية. وزيادة في البيان والتفصيل، نستهل تحليل فكرة المقال بوقفة عجلى عند التوافق بوصفه مبدأ، فنتساءل لماذا التوافق؟ هل يمكن أن يفزع الناس إلى التنظير في مسألة التوافق، ما لم يكن التوافق مفقودا في واقع الزحام السياسي؟ أي الإقرار الواقعي بمشكلة ثقة بين الجهات التي تدعوا للتوافق؟ (وللأسف أنّ السلطة السياسية منذ لحظة الوطنية(منذ الاستقلال) تتبنى أفكار المعارضات بعد حين، بالغرم من رفضها لها وقت البوح بها من قبل المعارضة، والأمثلة في الجزائر المستقلة كثير). التوافق صحوة ضمير إن صحّ، التوافق انتباه إلى خطورة المصير إن داومنا على ذات مسالك النظر للمسألة السياسية ومسألة السلطة على التحديد، ويكون روح مبدأ التوافق مانعا من تكرر الانطباع الدال على أنّ التوافق مجرّد ادّعاء لا يثبت أمام الفحص العلمي الرصين، والذي كان من مظاهره –بحسب رواية المعارضة- السعي إلى إقصاء كلّ من سوّلت له نفسه تأييد منافس غير المرشّح "الرسمي"، ولعلّ إنهاء مهام بعض الإطارت التي أيّدت غير المرشّح المعلوم في جملة مفاصل القرار ما يؤكّد هذا التوجّه إنْ صحّت المعلومات المتداولة، كيف يمكن تصوّر توافق والذي يشرف عليها جهة من الجهات غير المتوافقة، إلاّ إذا كنّا محافظين على مسالك العالم القديم في التوافق التي تعني في أجلى صوّرها موافقه المحكوم لرغبة الحاكم، لأنّ كلمة توافق غنية بمعاني الشراكة في التفكير في المصير بعد الشراكة في وضع قواعده المنهجية المفضية إلى مقصد التوافق، ثم شراكة في التدبير، فما مقدمات التوافق. التسليم الواقعي بأنّ السلطة دول بين الناس ليس هناك من جاء إليها وبقي فيها أبد الدهر، فإما أن يذهب بالأسباب المتداولة في العالم الثالث( الانقلاب، والاغتيال، والإرغام على الانسحاب، والهروب من تحمّل المسؤولية، والموت، الذي هو حق على كلّ نفس، مصداقا لقوله تعالى:"كل نفس ذائقة الموت")أو يذهب بالأسباب المتداولة في الدول" المتقدمة" أو الأساليب الحضارية التي تفوقها، هذا حال كلّ من انتهت رحلته مع السلطة، وهو حال من عليها في الحاضر والمستقبل، فهم إلى زوال والدولة المعبّرة في أصل الوضع عن المجتمع باقية عدهم، ومن ثمّ فإنّ التفكير في مستقبل المجتمع والدولة، يجب أن يهيمن على عقول الجميع، ولا يَجْعَلُ التفكير في السلطة أكثر من التفكير في المجموع إلاّ راغب في الاستفادة من الريع أكثر من تفكير في وحدة البلد وتوافق أهلها، ونص التوافق إن خرج عن هذه الروح، لا ينتظر منه أن يكون نصا توافقيا. الإقرار العلمي النظري والعملي التدبيري بأنّ الجزائر ليست ملكا شخصيا و لا فئويا ولا حزبيا، كما أنّها ليست بئرا نفطية أو "خزينة" فلوس، بل هي بلد الجميع وكل خيراتها ملك للمجموع، فلا يتصرف أحد في خيراتها مهما كانت رتبته بغير تفويض حقيقي من صاحب القرار في ولاية المناصب والعزل منها، وهو الشعب طبعا، فإذا شكّك البعض في نزاهة الانتخابات، صبغت كلّ تصرفات الموجود في الحكم بهذا الشك، ولا يقصد في هذا السياق مناقشة شرعية سلطة الواقع، لأنّها ليست من القضايا المركزية في المقال، لأنّنا نريد التفكير مع غيرنا في المستقبل بعد تحييد عناصر التشويش في الحاضر، وهذا لا يمنع من التأكيد على أنّه لا يمكن نقل المشكوك فيه إلى مصاف المقطوع به برغبة فلان أو علاّن، لأنّ هذا المسلك لا يسعف المناوئين لمن بيده السلطة على الاقتناع بفكرة التوافق، بل قد يفضي وضع خطة التوافق وبرنامجه من قبله إلى تأكيد شبهة خلع شرعية على سلطة الواقع، وهو عامل مشوّش على الجهة المناوئة التي قصد التوافق معها، والإصرار على مركزية السلطة في تقرير مصير التوافق سيكون مانعا من انخراط المعارضة الحقيقية من انتاج توافق حقيقي أو المساهمة فيه على الأقل، وهذا أقل القليل في الإقرار بأنّ التوافق مبدأ أساسي للخروج من أزمة الثقة في المجتمع، ولا سيما الفرقاء السياسيين. مقتضى العقل والتحليل الموضوعي أنّ التوافق عنوان أزمة بين الداعين إلى وضع وثيقته، ولا يعقل أن تكون الأطراف المتخاصمة في أصل شرعية السلطة لها اليد الطولى في صياغة نص التوافق، فالمخرج بين الأطراف المتدافعة في شأن التوافق مبدأ ووثيقة ومنطقا ومخرجات، هو أن تشكل هيئة مستقلة للإشراف على تجسيد التوافق أو على الأقل تتقاسم السلطة بتوابعها، والمعارضة بمختلف أطيافها عدد أعضاء اللجنة على أن يكون للمستقلين من رجال الفكر والقانون والعلم عموما ما يزيد عن حجم كلّ من الطرفين المتشاكسين، شخصيات مستقلة تكون محلّ ثقة الجميع، والأحسن أن لا يكون لهم سابق عهد بدواليب السلطة ودهاليزها في مختلف الفترات. يفرض قطع شكوك المعارضة بمساهمة السلطة بإخراج كلّ المؤسسات التي كانت تشرف على العمليات الانتخابية من مجال تأطيرها، فيوسّد أمرها إلى هيئات مستقلة بالفعل لها دور مهيمن وأساسي في العملية، ووضع ضمانات قانونية وآليات واقعية لضمان شفافية العملية الانتخابية، منعا لتكرار الاتهامات بالتزوير، منها على سبيل المثال لا الحصر: التصوير الحي لكلّ العمليات الانتخابية، وتعليق محاضر الانتخابات وصورة من توقيعات المنتخبين في كلّ مكتب، وتعليق قائمة المُنْتَخَبين في البلديات والملحقات البلدية، وتسليم محاضر الانتخابات، و... والجزائريون إن توافقوا على تبني التوافق بمسلك توافقي بالفعل وفق آليات توافقية تجعل من التوافق منطقا ومقصدا، فإنهم سيجنون مخرجات توافقية بالفعل، الجزائريون يملكون هذه القدرة والمهارة إذا صدقت النيات، وتوفّرت العزيمة، فهم كغيرهم من المجتمعات الحيّة لهم من الوسائل ما به يحمون أصواتهم، وتكون السلطة تتويجا لإرادتهم. و الله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. و صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين