بعد تمرير مشروع التعديل الدستور، تكون السلطة قد طوت ملفا ظل يراوح مكانه على مدار نحو خمس سنوات.. وخلال تلك المدة، ظلت السلطة تبرر هذا التأخر بالسعي وراء تجسيد "الدستور التوافقي"، فهل تحقق هذا الوعد؟ وهل وصلت الإصلاحات السياسية إلى محطتها الأخيرة، أم أنها ستدخل مرحلة جديدة بعد الإعلان عن تحضير نحو ثلاثين مشروع قانون لتجسيد مضامين المولود الجديد؟ وهل المشاريع المرتقبة ستستدرك النقائص التي تضمنها الدستور المعدل، حسب ما تقول المعارضة؟ أم أنها ستكون نسخة للدستور الجديد في المضمون والآليات؟ هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها "الملف السياسي" لهذا العدد. بين تهليل الموالاة وتقليل المعارضة وعدم اكتراث المواطن هل يضع الدستور الجديد الجزائر على طريق المستقبل؟ بعد حمل دام سنوات، ومخاض عسير استغرق شهورا عديدة، رأى دستور الرئيس بوتفليقة النور في "عيادة" البرلمان، وشهد ممثلو الشعب على شرعية المولود الجديد، بينما غابت المعارضة عن حفل الولادة، وظهر المواطنون غير مكترثين ب"الخبر السعيد"، وهم يكابدون لقمة خبز شديد . وبإعلان دستور 2016، هتفت حناجر الموالاة مبشّرة بعهد جديد، وقذفت برئيس الجمهورية إلى معترك التاريخ السديد، في وقت نأى آخرون بأنفسهم عن أهازيج الفرح، وراحوا يردّدون "لا يؤتمن اللصوص على حراسة النصوص " . وعلى ضفتي المناكفة الساخنة، تساءل العقلاء: هل تكمن معضلة الجزائر في أزمة الدساتير؟ وهل ساسها الحكام قبل اليوم بأسوأ دستور في العالم، حتى تظفر الآن بأفضل "وثيقة سامية"، لم يسبقنا إليها إنس ولا جانّ؟ لا شكّ أنّ الدستور هو أم القوانين، كونه الإطار الناظم لمبادئ المجتمع، والضابط لعمل سلطات الدولة ومؤسساتها المختلفة، ذلك أن القواعد الدستورية هي التي تؤسس للقوانين العضوية التي تحكم الحياة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، غير أنّ المنظومات التشريعية، على سموّها وأهميتها، لا تصنع بمفردها تقدّم الدول وازدهار الأمم، إلا بتوفّر الإرادة في تجسيدها، وعلوّ الهمم في ترجمتها عبر البرامج والسياسات التنفيذية، وماعدا ذلك، فهي حبر على ورق، لا يسمن الشعب ولا يغنيه في سدّ الرمق. وبغض النظر عن مواقف المؤيدين والمعترضين، من حيث الشكل أو المضمون، فإنّ دستور 2016، سيبقى معيبًا بوصمة الإنفراد، وإن كان توافق الجميع غاية لا تدرك، مثلما تميّز بكمّ التعديلات على حساب الكيف شبه الغائب، بعد ما تمّ حشوُ متونه بحواشي القوانين العضوية وحتّى الأحكام التنظيمية، دون فصل بيّن في طبيعة النظام السياسي! ومع ذلك، فإنّ الدستور منذ 1989، لم يكن هو أزمة البلاد الأساسية في الماضي، وبالتالي، لن يحلّ اليوم مشاكل الحاضر، ولا يمكن أن يطمئن المواطنين بشأن المستقبل، لكن يجب التنويه بكلّ ما هو إيجابي إن وُجد، لأن تسويد الواقع أكثر من اللازم لا يقدّم بدائل موضوعية لعجز السلطة، بقدر ما يعكس الفشل في تفكير النخبة! لقد أسدل الستار على دستور الرئيس الحالي، وهو الذي عزم على صياغته منذ اعتلائه سدة الحكم قبل 17 عاما، ولم يُعد مجديًا الآن كثرة الجدل في "القيمة المضافة" التي أتى بها، أو العيوب التي تشوبه، بل المنطق يقتضي البناء على الأمر الواقع، والسعي لتدارك النقائص المسجّلة، من خلال ورشات التعديلات التي ستطال عشرات القوانين العضوية والعادية والتطبيقية، تماشيا مع القواعد الدستورية المستحدثة، بالتغيير أو الإنشاء، وهذا العمل سيكون ساحة نضال وسجال مرتقبة بين الأحزاب والحكومة في المرحلة القادمة، ما يعني أن وضع الدستور حيّز التنفيذ سيأخذ وقتا أطول من الناحية العملية، وستظهر في قادم الأسابيع جديّة الإرادة العليا في تدشين "عهد جديد" بصفة فعلية، وإن كانت العبرة في كل الأحوال تبرز عبر احترام القانون والامتثال لسلطته المطلقة. وعلى هامش الصراع بين السلطة ومناوئيها، يقف المواطن في ضفةّ واد آخر، فهو الآن مهموم بحاجياته اليومية، ينظر للمستقبل بقلق وترقّب، غير أنه يدرك أكثر من الساسة، أن عراك الدستور ليس سوى "ورقة نزال"، وما يهمّه هو انعكاسها على تطلعاته البسيطة، وأحلامه المشروعة، ما يحيل المتابع على خلاصة المقام، وهي أنّ الدولة لا تلبّي انشغالات مواطنيها بالإحالة على الأحكام الدستورية والمدونات القانونية، بل تكفلها بالرؤى الإستراتيجية الشاملة، والسياسات الناجعة، التي ترسمها سلطات منبثقة من رضا الشعب، لتضع البلاد على سكّة المستقبل الآمن، عن طريق الحكم الراشد والاقتصاد العصري، وهو ما عجزت الجزائر عن بلوغه على مدار 54 عاما، فراحت تصنع دساتير سرعان ما تأكلها، مثلما تلتهم عرب الجاهلية أربابها حينما تجوع!
القيادي في حزب جبهة القوى الاشتراكية أحمد بطاطاش الدستور فُرض على الجزائريين وعلى السلطة الاستدراك في القوانين المنتظرة اعتبر تعديل الدستور تتويجا لورشة الإصلاحات السياسية الكبرى التي أطلقها الرئيس بوتفليقة في عام 2011.. ما تعليقكم؟ الإصلاحات لم تبدأ حتى تنتهي، فالدستور الجديد مثلا لم يكن حصيلة توافق بين مختلف مكونات المشهد السياسي من سلطة ومعارضة. نفهم من كلامكم أن الدستور الجديد يفتقد "التوافقية" التي لطالما حرص الرئيس بوتفليقة على تجسيدها في الدستور المعدل؟ بطبيعة الحال، الدستور الجديد يفتقد التوافقية، بل إن هناك من الفاعلين السياسيين من لم يترددوا في تكييفه على أنه عنف دستوري. فالجميع يدرك أن الدستور الذي صادق عليه البرلمان مطلع الأسبوع الجاري، لم يكن حصيلة توافق بين مختلف مكونات الطبقة السياسية من سلطة ومعارضة. ولذلك، فجبهة القوى الاشتراكية تعتبر أن الدستور في صيغته الجديدة، قد تم فرضه على الجزائريين. ولكن الرئيس بوتفليقة لم يتوقف عن مطالبة المعارضة بالانخراط في مسعى تعديل الدستور وتقديم مساهمتها واقتراحاتها، لكن المعارضة قاطعت أكثر من جولة مشاورات، كما تعلمون؟ "الأفافاس" كان واضحا منذ البداية، وقد طالب بضرورة أن تكون المشاورات في غرف مفتوحة أمام الإعلام، وليس خلف الجدران المعلقة، حتى يكون الشعب حكما على المعارضة وعلى السلطة معا. لأنه عندما يطلع الجزائريون على ما دار في المشاورات، فمن الصعوبة بمكان على السلطة أن تفعل ما تشاء بعد ذلك. معنى هذا أن مقاطعة حزبكم جلسات الحوار إنما هي لكونها غير مفتوحة على الإعلام؟ لا يمكن الحديث عن حوار حقيقي إذا كان في السرية، وإلا كان بمثابة "حوار الطرشان"، يضاف إلى ذلك، أن السلطة لا تعترف أصلا بوجود أزمة في البلاد، وهذا يصعب الوصول إلى مخرج توافقي. السلطة تتحدث عن نحو ثلاثين مشروع قانون جديد ستحال على البرلمان قريبا، ألا تعتقدون أن ذلك محاولة لاستدراك ما فات الدستور من توافق؟ إذا كان بنفس الآليات التي تم بها تمرير الدستور، فلا أعتقد أن الاستدراك سيتحقق. السلطة لا تتوفر على نية حقيقية لفتح نقاش حقيقي حول الأزمة التي تمر بها البلاد. لم نسمع تعليقا من حزبكم بخصوص المادة 51 من الدستور التي تتحدث عن حرمان مزدوجي الجنسية من تولي المناصب السامية في الدولة؟ نحن لا نركز على الشكل، وإن كان رفض الشكل يسقط المضمون.. نحن نعتقد أن النقاش السياسي الذي أثير حول المادة 51 كان من أجل إلهاء الرأي العام. ومع ذلك نحن في "الأفافاس" نقول إنه ما كان ينبغي التمييز بين الجزائريين بغض النظر عن جنسياتهم. المشكل في تلك المادة أنها فتحت المجال أمام التشكيك في وطنية من يحملون الجنسية المزدوجة، ثم هل معنى ذلك أن من يحملون الجنسية الجزائرية فقط، هم أكثر وطنية من حاملي الجنسية المزدوجة؟ أعتقد أن ما قدمته الجالية الجزائرية في الخارج خلال الثورة يكفي لتجاوز مثل هذا النقاش الهامشي. ربما سيعاد ترتيب الأمر في القانون العضوي الذي سيحدد المسؤوليات الممنوعة على مزدوجي الجنسية؟ النقاش أعطى الانطباع بأن الدستور حول الاستثناء إلى قاعدة. وأشير هنا إلى أن المادة 51 جعلت أبناء الجالية مواطنين من الدرجة الثانية في موطنهم الأصلي، في الوقت الذي يعتبرون فيه في بلدهم الثاني (فرنسا خاصة) موطنين أيضا من الدرجة الثانية، وهذا الاعتبار من الصعب هضمه من قبل أبناء الجالية. بعد نجاح السلطة في تمرير مشروع الدستور.. هل يمكن القول إن المعارضة خسرت ورقة لطالما وظفتها في أجندتها السياسية؟ أعتقد أن تمرير الدستور الجديد، لم يكن ذلك الإنجاز الذي لطالما راهنت عليه السلطة، كما لم ينقل البلاد إلى الجمهورية الثانية، كما ردد البعض. ولو كان الأمر كذلك لخرج الجزائريون إلى الشوارع مهللين، كما اعتادوا القيام بذلك بعد إنجازات الفريق الوطني لكرة القدم. ما هي الرهانات السياسية بالنسبة إلى السلطة والمعارضة في المرحلة المقبلة؟ الجزائر توجد في منطقة جد متوترة جيوسياسيا، والنظام مجبر على إيجاد الحلول في القريب العاجل. وفي الجهة المقابلة، المعارضة من واجبها أيضا البحث عن الحلول التوفيقية وإيجاد أرضية مشتركة مع السلطة للخروج من الأزمة. أما بالنسبة إلى مشروع "الإجماع الوطني" الذي طرحه حزبنا، فنعتقد أنه لا يزال صالحا وسنعمل على تجسيده.
القيادي في التجمع الوطني الديمقراطي صديق شهاب الإصلاحات مستمرة والمعارضة تسعى للوصول إلى السلطة بأقل جهد هل انتهت آخر ورشات الإصلاح بعد تعديل الدستور؟ في الحقيقة الدستور بحد ذاته سيفتح نقاشا واسعا في مجال التشريع والحوار والنقاش السياسي والاقتصادي والمجتمعاتي، واعتقد انه من الضروري أن يتبع بحزمة من القوانين من شأنها أن تضع نظاما تشريعيا لبعض البنود التي وردت في الدستور ويفتح آفاقا جديدة لقضايا طرحت وتدسترت. وفي هذا الإطار، سيطرح الدستور حوارا ونقاشا بشأن قضايا جديدة كالبيئة مثلا والتي صار لها حيزها الدولي أيضا من الاهتمام والنقاش، وأيضا قضية الثقافة التي تدسترت كعنصر أساسي للهوية، لأننا ركزنا في وقت سابق على بناء الهوية وأغفلنا الحضارة المتجذرة للشعب الجزائري. ولذلك أقول إن الإصلاحات ستستمر باعتبارها مسارا متواصلا ولا تستطيع التوقف اليوم، والرئيس أدخل إصلاحات في كل عهدة وهذا الدستور فتح الآفاق لإصلاحات أخرى. برأيكم هل تحققت التوافقية في الدستور الجديد؟ نعم، التوافقية تحققت إلى حد كبير من خلال نص الدستور الجديد، والتوافقية لا يمكن قياسها بدرجة القبول أو الرفض بقدر ما تقاس بما جاء به الدستور من مضامين جديدة، ينتظر أن تغير في المناخ السياسي وتعزز الحريات وكذلك دور المعارضة الذي سيتعزز هو أيضا. أما بخصوص اتهامات المعارضة المجتمعة في قطبين، بأن الدستور ليس توافقيا، فهذا نابع من أنه لم يتجاوب مع رغبتهم هم، لأنهم يطمحون في الوصول للسلطة بأقل جهد ممكن. والملاحظ أن النقاط العشر التي طرحت من قبل المعارضة في مؤتمر زرالدة، الدستور الجديد تعامل معها بإيجابية كالحريات والرقابة ودور المعارضة والبرلمان وتجديد العمل السياسي وتفعيل الاقتصاد وغيرها. وبرأيي فإن القول بوجود أزمة فهو تشخيص ضيق من طرفهم وفق معايير في رؤوسهم، وهم يرتكزون على شرعية وعدم شرعية النظام وليس وفق معايير يرتكزون عليها ولكن الحقيقة والنظام يفندان ذلك، فهم ذهبوا إلى الانتخابات وفشلوا. وماذا بقي للمعارضة من أوراق بعد تعديل الدستور؟ بقي أمامها العمل في إطار احترام القوانين المعمول بها وعليهم أن يتقدموا باقتراحات بناءة من شأنها استقطاب احترام الشعب، وعليهم أن يتوجهوا بعدها للانتخابات خصوصا ونحن على مقربة من تشريعيات ومحليات عام 2017، وفي الانتخابات وخلال هذا الاستحقاق فلتقم المعارضة بوزن نفسها وهذا هو احترام القوانين وإن قبل بهم الشعب فلهم ذلك. ما هي الرهانات المقبلة بالنسبة للسلطة والمعارضة؟ الرئيس حدد الرهانات في المقاربات المتتالية التي طرحها في كل مرحلة وكل محطة، وتعزيز الجبهة الداخلية لوضع حد أدنى من التوافق. واليوم وللأسف الشديد نحن مقبلون على مواجهة أزمة أمنية على الحدود، وأزمة اقتصادية جراء انخفاض أسعار البترول، وانعكاسات ذلك على الجبهة الداخلية. ولذلك أقول إن هذه هي الرهانات التي بجب أن نواجهها وهنا على المعارضة أن تعي ضرورة التماسك والتضامن الوطني والاجتماعي ونعمل على مواجهة ما هو قادم كلنا جميعا. وأؤكد هنا أن العاصفة إذا هزت البلد لن تبقى لا معارضة ولا سلطة، لذلك يجب أن نعي جيدا مستوى هذا التحدي وهذا الرهان، وعلى المعارضة الكف عن الابتزاز السياسي بوضع مستقبل الجزائر فوق كل اعتبار. برأيكم، هل من رابح وخاسر بعد معركة تعديل الدستور؟ الرابح باعتقادي هو الجزائر والديمقراطية... والرابح هم الجزائريون وخاصة منهم الجيل الناشئ. أما الخاسر الأكبر هو كل من يتربص بنا وبالجزائر ويحاول أن يفخخ الأوضاع ويستغل الظروف ويسعى جاهدا لأن تسقط الجزائر كما سقطت مصر وليبيا وسوريا وكما تعاني تونس.