زورا وبهتانا وباسم حقوق الإنسان والديمقراطية والحداثة، لا تتحرج ولا تتردد فرنسا أو الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الغربية عموما في التدخل في الشأن الداخلي للدول، بل وقد تضطر لاستخدام القوة العسكرية لزحزحة استقرار هذه الدول والأنظمة التي لا تخدم مصالحها وتذعن لإرادتها، بل وقد تشعل نيران الفتنة بين أبنائها لتجد الذريعة والشرعية لاحتلالها ومن ثمة استنزاف خيراتها. يحدث هذا في القرن ال21 ونحن الذين كنا نظن بأن عهد الاستعمار قد ولى بعد استعادة الدول العربية استقلالها وسيادتها الوطنية، ولكن ظهر أننا كنا واهمين ولا نحسن قراءة المستقبل، كل هذا يحدث باسم الحرية والمدنية، ومع ذلك يخرج علينا وزير الشؤون الدينية في تعليقه على أحداث "شارلي إيبدو" بالقول إنه "شأن فرنسي يخص فرنسا" متناسيا أنه كان في كل مناسبة يتلقى تقارير من فرنسا وغيرها حول انتهاك حرية ممارسة الشعائر الدينية للمسيحيين بالجزائر الذين يشكلون بضعة أفراد أغلبهم مخبرون، والسؤال المطروح بقوة اليوم هو: هل المسيحيون أضحوا أكثر غيرة على دينهم من المسلمين أو بالأحرى من القائمين على تسيير الشؤون الدينية في بلادنا وهم الذين وُضعوا في هذا المنصب من أجل خدمة الدين والدفاع عنه؟ أم أن الدين الإسلامي أضحى قُطريا عند هؤلاء ولا يجوز الدفاع عنه خارج الحدود؟ وإذا كان الأمر كذلك ما فائدة إقامة وتشييد المرافق الدينية في الدول الغربية؟ وما فائدة مسجد باريس الذي لم نحسن استغلاله دينيا ولا حتى وطنيا، اللهم سوى كمحطة للسياحة لقضاء بعض أيام من الراحة وشم نسيم وعطر باريس لفائدة كبار القوم؟ من المغالطات التي سمعناها هي أن الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم "ليس في حاجة إلى من يدافع عنه، فالله ناصره بقوته"، ولكن أليست إشاعة هذه الثقافة الانهزامية دعوة للاستسلام والذل وكسر الإرادة؟ ألم يدعو الرسول عليه الصلاة ولسلام الشاعر حسان بن ثابت للرد على الكفار الذين تهجموا عليه وعلى رسالته بالقول "اهجوهم وروح القدس معك"؟ أم قال له "لست في حاجة لك ولشعرك فالله ناصري مادام هو الذي بعثني"؟ إذا كانت بعض الشخصيات الرسمية التي جاءت بالصدفة مثل وزير الأديان عندنا لا تجد الجرأة في قول كلمة الحق والنهي عن المنكر الذي هو من صميم اختصاصاته خوفا من ضياع الكرسي، فكذلك بعض "العلمانيين المنافقين" عندنا قد وقفوا الموقف نفسه وهذا خوفا على الامتيازات التي يحظون بها في فرنسا، فبعض الكتاب والروائيين عندنا لا يريدون، بل ولا يستطيعون قول كلمة "أفّ" لأمهم فرنسا، وكيف يكون منهم ذلك وهي التي ترعاهم وتقوم لهم بالدعاية الإعلامية لأعمالهم ونشاطاتهم ولكتبهم التي تطبع في مطابعها وتخصص لهم الجوائز التي يحلمون بها وبها يعتقدون بأنهم قد كسبوا صكوك الغفران والصدارة الأدبية المزيفة التي كثيرا ما نزع عنها ورقة التوت المرحوم الطاهر وطار الذي ترك فراغا كبيرا بعد رحيله. ولكن بالمقابل لا يمكن أن ننكر بأن هناك رجالاً شرفاء في فرنسا ممن وقفوا معنا ضد الكولونيالية الفرنسية ومنهم كذلك بعض المفكرين مثل جاك بيرك الذي ترجم القرآن الكريم إلى الفرنسية وصاحب "الإسلام دين المستقبل" الفيلسوف الفرنسي رجاء غارودي الذي نسيناه وخذلناه ولم نقف معه بالشكل الذي يلزم حينما تعرض للاضطهاد ولضغوط السلطات الفرنسية نفسها بتحريك من اللوبي الصهيوني الذي لم يغفر لرجاء الذي كان يعيش لقضية وليس لجاه أو لمنصب، وقوفه مع القضية الفلسطينية وإدانته للمجازر الإسرائيلية التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني. إن العبارة الشهيرة التي قالها عميد الأدب العربي المرحوم طه حسين حول فرنسا بأنها "بلد الجن الملائكة" تكاد تفقد بريقها وتوازنها، لأن عدد الملائكة بفرنسا بدأ يتقلص لحساب الجن أو بالأحرى الشياطين، وإلا كيف تقبل وتعترف فرنسا في عهد هولاند بالمثليين وب"الزواج المثلي" وبتأجير الأرحام بحجة الحرية الشخصية؟ وهل من يقبل بهذا المنكر المتعارض مع الفطرة البشرية والذي وقف ضده رئيس الوزراء السابق ليونال جوسبان وغيره من النخب السياسية والثقافية نستغرب موقفه العنصري من الإساءة التي لحقت برسولنا الأعظم بريشة شُلت وتبت يد أصحابها من عصابة "شارلي ايبدو"؟ وبالرغم من هذه الإهانة التي لحقت بنا والتي لن تكون الأخيرة، فالعيب كل العيب في من تحملوا أمانة الشؤون الدينية هم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن هذه المهمة المقدسة التي تتطلب رجالا من وزن مولود قاسم رحمه الله والذي لم تكن تأخذه في الله لومة لائم، وبالرغم من إتقانه سبع لغات بما فيها الألمانية، لم يكن في يوم من الأيام متغربا أو طالبا لرضا الغرب على حساب رضا الرب ورضا شعبه وأمته، بل كان يحمل استقالته من منصبه في جيبه وعلى استعداد دون عقدة لمغادرة الوزارة متى كان الأمر يتعارض وقناعته وضميره. ولكن اليوم للأسف الشديد تغير الحال ونوعية الرجال ومعادنهم وحتى مؤهلاتهم في تعاملهم وتعاطيهم مع الأحداث والنوازل التي تتطلب المعرفة النوعية وليست المعرفة الكمية المتخلفة، فلماذا لم يتحرك وزير الأديان دون أن نطالبه بالتنديد والاستنكار الذي هو أكبر من حجمه الحقيقي ليذكر فرنسا والعالم المسيحي بموقف الأمير عبد القادر الذي حمى أرواح المسيحيين من غضبة المسلمين بالشام؟ ولماذا لم يذكّرهم بفضل ابن رشد وابن سينا على الحضارة الغربية عموما؟ ولماذا لم يذكّرهم بالتضحيات التي قدّمها الجزائريون والمسلمون خلال الحرب العالمية الثانية دفاعا عن فرنسا وشعب فرنسا؟ ولماذا لم يذكرهم بالموقف التاريخي لمسجد باريس الممول من الجزائر، الذي تصرف بكل تسامح وإنسانية ودون تعصب لحماية اليهود من متابعة النازية لهم؟ لكن يبدو أن وزيرنا قد تلقى تعليمات من وزير الداخلية الفرنسي الذي التقى به خلال الأسابيع القليلة الماضية وهو لا يريد بالتالي التمرد عليها، لأن الخروج على الحاكم في عرفه من المحرمات والممنوعات، كيف لا وقد جاء في الاتفاق الموقع بينهما شهر ديسمبر 2014 ما نصه "يعلنان رغبتهما في مرافقة بروز ممارسة للدين الإسلامي بفرنسا تتوافق وقيم الجمهورية ومحترمة لمبادئ اللائكية والمواطنة"، وهذا يعني كما قال هولاند ورجال الإعلام والثقافة ممن هم على مذهبه من صناع القرار بأن الاستهزاء بالأديان وبالأنبياء وحتى بالله جائز وحلال، ومن يقول غير ذلك فهو على ضلال ومن المغضوب عليهم، ووزيرنا طبعا مطيع وبالتالي هو لا يريد أن يكون من المغضوب عليهم وإلا ضاعت مشاريعه التي لا تقارن بمشاريع الفيلسوف الفرنسي اليهودي برنار هنري ليفي الذي يجاهد حقا بالنفس والنفيس من أجل أن تنتصر عقيدته في بلاد الإسلام والتي تدخل في شؤونها إلى درجة العبث والدمار كما حصل في ليبيا الشقيقة ولكن لم نسمع منه أن ما يحدث في ليبيا أو في سوريا هو شأن ليبي وسوري لا يخصه ولا يخص بلاده وقومه.
وبهذا ينتهي الدرس الذي يجب أن يتعلمه وزير الأديان والذي عليه أن يستمع لوصية وحكمة نابليون حينما قال "إن الوزير الذي لا يكون كفؤا لوظيفته يؤذي بلده باستخدام قوم في وزارته لا ينظرون إلا بعينه ولا يفكرون إلا بعقله.. ورُبَّ رجل تراه خلف المحراث وهو جدير أن يتبوأ مجالس الوزراء، ورُبَّ وزير جلس يدبّر الأمر وهو حري أن يجري وراء المحراث"، والسلام على من اتبع الهدى.