لَم نَتمكن منذ الاستقلال من اعتماد إستراتيجية فعَّالة في البناء السياسي تُمكِّنُنا من تجديد النخبة الحاكمة بما يُناسب مراحل التطور المختلفة التي عرفتها أو ستعرفها البلاد. كل تجربتنا السياسية كانت محاولات تدجينية لعناصر من تيارات سياسية مختلفة يتم لفظها بعد حين من غير مساهمة حقيقية في تجديد البناء الوطني، مما يُنذر بمخاطر كبيرة على المستقبل. كل الذين برزوا في الساحة السياسية من الجيل الجديد انتهوا إما إلى التهميش أو التشويه أو التحطيم أو الوضع في حالة سبات بإحدى الهيئات أو أحد المجالس.. لم تُثمِر مشاركتهم في الممارسة السياسية أو في الحكم في تشكيل نخبة سياسية جديدة تكون بديلا حقيقيا للجيل الأول الذي سبق وأن قاد البلاد، إلى درجة أننا لو أردنا تشكيل أكثر من حكومة افتراضية كبدائل لتطورات قادمة لما تَمكّنا من تشكيل واحدة متكاملة... الذين مارسوا العمل السياسي تم تشويه مسارهم وغالبا ما خرجوا من الباب الضيّق بلا مصداقية، والذين لم يمارسوه استمروا في مواقعهم من غير اكتساب أيّ خبرة ميدانية مما جعلهم غير مؤهلين للقيادة والتسيير بواقعية، ومن غير أن يصدمهم الواقع. والأمثلة كثيرة عن ذلك يمكن استخلاصها من العدد المحدود من الشباب الذي دخلوا الحكومات المتعاقبة وتَحمَّلوا مسؤوليات إلى أن تمت إقالتهم أو أُنهيت مهامهم دون أن يتمكنوا من إحداث انتقال في السلطة إلى الجيل الجديد. لقد استمر الحال على ما هو عليه لعقود متتالية من الزمن، حيث أن دائرة القرار الفعلي لم تخرج من أيدي مجموعات استمرت في الحكم منذ استعادة الاستقلال، كانت في كل مرة تستعين بخبرات شابة ما تفتأ أن تُبعِدها أو تَمنعها من تحمّل كل المسؤولية أو من أن تكون لها كافة الصلاحيات.. وهكذا وجدنا الجيل الثاني ما بعد الثورة والاستقلال يبلغ اليوم مرحلة الشيخوخة دون أن يتمكن فعلا من امتلاك سلطة القرار، في حين كان يُفتَرض أن يقود على الأقل منذ بداية التسعينيات. ولعلنا جميعا نعلم ما حدث في تلك الحقبة، حيث انحرفت تجربة التحوُّل السياسي عن وجهتها، وبدل أن تُمَكِّن التعددية السياسية أبناء الاستقلال من تَولي مقاليد الحكم، أقحمت البلاد في حقبة عنف غير مسبوقة كانت مبررا لتأجيل هذا الانتقال. ومهما كانت الحجج التي تم تقديمُها آنذاك، فإنه تم القضاء على نخبة سياسية كانت قد وصلت إلى قمة العطاء حينها، وإن برز ذلك في شكل موازين قوى غير متعادلة في الساحة بين الإسلاميين والعلمانيين. ولم نُدرك في تلك الحقبة أنه بالقضاء على النخبة ذات التوجُّه الإسلامي من خلال القتل أو السجن أو التهجير القسري باسم مكافحة الإرهاب، والنخبة ذات التوجه اللائكي باسم محاربة "الكفر" أو "الطاغوت"، كانت الجزائر تفقد العناصر التي ستُمكِّنها من الانتقال بسلام نحو القرن الحادي والعشرين وبوجهٍ جديد. لقد تم بالفعل القضاء على الكثير من الرموز الفكرية والسياسية في تلك الفترة، إما بالتصفية المباشرة أو بالتحييد أو بالتخويف والترهيب، ولم يبق بديلٌ للبلاد سوى أن يستمر الاعتماد على الجيل السابق الموثوق فيه وإن انتهت قدرته على الابتكار والعطاء كما هي سُنَّة الحياة، بل أن هذا الجيل طَرَح نفسه كمنقذ جديد للبلاد من الانهيار كما أنقذها من السيطرة الاستعمارية، وبدا طرحه مقبولا في ظل ما عرفته البلاد من فوضى عارمة مع نهاية التسعينيات. وتم الاستنجاد بديكور من الجيل الجديد آنذاك لا لصناعة البديل القادم إنما ليُرمَى بعد حين مشوها وغير قادر على أن يَدّعِي تَميُّزَه أو كفاءته أو نظافته أمام الجيل السابق. وزراء خرجوا متهمين بالاختلاس وآخرون بتبديد المال العام وفئة ثالثة بالانقلاب على المواقف، ورابعة بانعدام المروءة والشجاعة، وخامسة بالافتخار بأداء مهام قذرة أو اتخاذ إجراءات ضد عامة الناس البسطاء. وكل له الشخص الذي يرمز له، ولا يحتاج المتتبع إلى الكثير من العناء لمعرفة هذا أو ذاك أو ليكتشف درجة التشويه التي عرفها كل من حَكَم من هذا الجيل، مقابل محاولة إضفاء نوع من القداسة على الجيل الأول الذي لا يمكن للبلاد أن تستقرّ بدونه، أو لعلّها ستنهار إذا ما غاب... الجيل الذي وُلد مع نهاية الثمانينيات وما بعد، أي أبناء الجيل الثاني يكون اليوم قد وصل إلى المرحلة التي يُفترض أن يتحمل فيها مسؤوليات القيادة خلفا لآبائه الذين باتوا اليوم على أبواب التقاعد. ما الذي سيحدث وهو لا يجد سوى رموز باهتة تمثلهم إنْ في الحكومة أو البرلمان أو مناصب المسؤوليات الأخرى؟ ولعلنا لم نشعر جميعا أن هذا الذي حَدَث سيُشكّل أكبر خطر استراتيجي على مستقبل البلاد، ذلك أن الجيل الذي وُلد مع نهاية الثمانينيات وما بعد، أي أبناء الجيل الثاني يكون اليوم قد وصل إلى المرحلة التي يُفترض أن يتحمل فيها مسؤوليات القيادة خلفا لآبائه الذين باتوا اليوم على أبواب التقاعد. ما الذي سيحدث وهو لا يجد سوى رموز باهتة تمثلهم إنْ في الحكومة أو البرلمان أو مناصب المسؤوليات الأخرى؟ ما الذي سيحدث وهو يراهم لم يَتمكنوا بعد من القرار؟ مِمّن سيستلم مواقع القيادة من أجداده، وبينهما بون شاسع من الاختلافات، أم مِن آبائه وهم إما مُغيَّبون أو مشوَّهون؟ بلا شك سيطرح هذا إشكالا على مستوى انتقال السلطة في السنوات القليلة القادمة باعتبار أن النهاية الطبيعية للجيل الأول قد حلت، ولم يترك بديلا مقبولا من الجيل الثاني ليحل محله. مَن مِن رموز الجيل الثاني يمكنها اليوم أن تُشكِّل إجماعا وطنيا حتى وإن تجاوزت الخمسين من العمر؟ مَن مِن الجيل الثاني اليوم يُمكن أن يكون مجسِّدا لِما ينبغي أن تكون عليه البلاد في المستقبل؟ مَن مِن بين هؤلاء اليوم يجمع بين متطلبات العصر: الكفاءة العلمية العالية، والخبرة السياسية، والنزاهة والإخلاص، وعدم الانتماء إلى دائرة الفساد، والتشبُّع بقيم العدل واحترام دولة القانون؟ لعلنا فعلا سنجد صعوبة في إيجاد مجموعة قيادية تتصف بهذه الصفات، فما بالك لو كنا نبحث عن نخبة أو طبقة سياسية بأكملها؟ وإن وُجدت كيف يمكنها أن تنتصر على طبقة "نوموكلاتورا" هي اليوم مُشكَّلة من مجموعات وزمرٍ نافذة تتصف بعكس هذه الصفات تماما، تجمع بين الجهل والفساد وعدم احترام القانون، ناهيك عن ذلك الانحدار غير المسبوق في مستوى القيم الأخلاقية والسياسية لديها؟ يبدو أن هذا إشكالا علينا أن لا نُخطئ حلَّه في السنوات القليلة المتبقية من هذه المرحلة. وهنا تأخذ المواعيد الانتخابية القادمة أهميتها الإستراتيجية القصوى بالنسبة لمستقبل الدولة الجزائرية. إذ بقدر تَمكُّننا من جعلها مواعيدَ لإحداث تغيير نوعي في طبيعة النخبة التي ستقود الحكومة والبرلمان ومختلف مؤسسات الدولة، نكون قد قُمنا بما ينبغي أن نقوم به، وبقدر ما تركنا المجال فارغا، فستنفَذ من خلاله أسوأ عيِّنات تم تقديمها في العقدين الماضيين كممثلة للجيل الثاني، وستتحالف معها أسوأ العينات من الجيل الثالث، وعندها ستعرف البلاد بالفعل مخاطر إستراتيجية كبيرة مع هذا النوع من القيادة، وذلك ما ينبغي منع حدوثه.