في نهاية الأسبوع الماضي، 16 و17 جوان 2016، تناقلت وسائل الإعلام أن السفارة العراقية أصدرت بيانا جاء فيه: "تعلن سفارة العراق في الجزائر، للأشقاء الجزائريين من الشيعة والراغبين في التشيع، عن إمكانية التقدم لغرض الحصول على سمة الدخول إلى الأراضي العراقية لأغراض الزيارات الدينية (مزارات الشيعة في النجف وكربلاء). لو صدر هذا البيان في لبنان أو البحرين او حتى اليمن، لوجب تفهم الموضوع؛ لأن في تلك البلاد نسبة من المواطنين اللبنانيينوالبحرينيين واليمنيين معتبرة من الشيعة معترف بها، وانا هنا لا أناقش كونهم أقلية أو أكثرية فذلك أمر آخر، وإنما أعرض الاعتراف بهم كطائفة تمثل جزءا من مكونات تكل المجتمعات.. اما أن يصدر هذا البيان من مؤسسة رسمية تابعة لدولة ومقيمة في دولة أخرى، خاضعة لجملة من الالتزامات الدبلوماسية الدولية، فمعنى ذلك أن هناك "تخلاط" غير مفهوم، لا باسم الديمقراطية، ولا باسم حرية الاعتقاد والتدين، إذ لا نرى لهذا السلوك وجها قانونيا؛ لأن هذه الطائفة ليس لها وجود رسمي، أي أن المجتمع الجزائري ليس من مكوناته الثقافية والدينية المذهب الشيعي، والموجود من الشيعة في الجزائر إلى الآن، هو تشيع سياسي أكثر منه تشيع ديني مذهبي طائفي؛ على اعتبار أن إيران دولة إسلامية تتعرض للضغط الغربي، وعلى المسلمين مناصرتها مهما كان الموقف من خصوصياتها، ولكن مع مر الأيام تحول عند بعض منهم إلى تشيع ديني مذهبي وهم قليلون، وأقصى ما قدم من إحصاءات لم يتجاوز الخمسة آلاف فرد، ومع ذلك يبقى العدد مشكوكا فيه، وهذا العدد وحده لا يشجع الطائفة على الظهور على فرض صحته. لقد بدأت فكرة علاقة الجزائريين بالشيعة التشيع مع انتصار الثورة الإيرانية سنة 1979، حيث كانت هذه الثورة بمثابة الفتح الإسلامي الجديد الذي لم يعرف المسلمون له مثيلا منذ قرون، فزار الكثير من الشباب الجزائريإيران إعجابا بقدرة الشيوخ على قيادة الثورات مستصحبين تجربة آية الله الخميني الذي كان يسوق خطابا جامعا يومها بمثل قوله "انا قائد ثورة إسلامية عالمية"، وقوله "ثورتنا إسلامية لا شرقية ولا غربية"، ولكن مع مرور الأيام اكتشف المسلمون ان التجربة الإيرانية ليست التجربة الإسلامية التي كان يتطلع إليها العالم الإسلامي الذي يعاني من استبداد نظمه البائسة، وإنما هي تجربة وطنية ناجحة، قادها الثوريون على نظامهم الفاسد ونجحوا، فأسقطوا أعتى نظام استبدادي في المنطقة، وكان يسمى "دركي الشرق الأوسط"، ألا وهو نظام الشاه رضا بهلوي الملكي، وألبست الثورة الفتية بقيادة المعممين اللبوس الديني بكل ما تحمل من خصوصيات المذهب، بحيث بدت الطائفية من أول وهلة في النص على المذهب الشيعي الجعفري أو الإثنى عشري الدستور الإيراني وكأن المذهب هو الإسلام المعتمد في الدولة، وقد عبر عن هذا التوجه الطائفي الممزوج بالوطنية الصادقة، الدكتور علي شريعتي رحمه الله في كتابيه، "دين ضد دين"، و"التشيع العلوي والتشيع الصفوي"، وصحب هذا التوجه فكرة تصدير الثورة بنفس المنطق، وكانت البداية بالشروع في تحرير المناطق المقدسة في العراق الذي لا يحكمه الشيعة، ومع ذلك لم تجد إيران من المسلمين عموما والجزائريين خصوصا، إلا المساندة سواء في محاربتها لنظام صدام حسين القومي العلماني أو في دعمها حزب الله اللبناني، بل لم تعير الجماهير الإسلامية اهتماما لما كان يفعله الشيعة بالفلسطينيين في بيروت، ولم يشغلوا بالهم بالعلاقة الدائمة –بدون انقطاع- مع النظام السوري لأصوله العلوية الشيعية، ولا لتدخلها في شؤون لبنان الداخلية، ولا لدعمها للتطرف الشيعي العراقي الذي كان يعمل على إسقاط نظام صدام حسين، ولم تنشغل الجماهير الإسلامية بما كانت تفعل المنظمات الشيعية بالحركات الجهادية الفلسطينية...، ذلك أن المسلم في العالم الإسلامي كان معجبا ومنبهرا بفوز ثورة في وسط راكد مغلوب على أمره، ولم يكن يرى ذلك الطموح المتمدد في المنطقة، كدولة صاحبة قوة إقليمية تريد أن تبسط نفوذها بعقلية طائفية لا تخفيها إلا في بياناتها، أما في الواقع فإيران تتمدد كدولة شيعية في الجسم الإسلامي وليس كدولة إسلامية بكل أسف. نعود إلى بيان السفارة العراقية.. ماذا يخفي وراءه؟ في هذا السياق لا يمكنني فصل هذا البيان عن السياق الإيراني العام، بحثا عن ولاءات إسلامية لها في العالم الإسلامي، وأقصر طريق لذلك هو تشييع المسلمين لمواجهة جميع الخصوم داخل العالم الإسلامي وخارجه، أما بالداخل، فالخطاب الشيعي لم يتخلص بعد من عقدة معاوية بن أبي سفيان وبني أمية وخروقات عائشة وعثمان وعمر...، وهذا الاجترار للتاريخ هو المؤسس الأول لافتراق السنة عن الشيعة، وبمجرد أن يصل المسلم إلى هذا التفريق يجد نفسه تلقائيا شيعي أو على الأقل نصف شيعي أي محيَّد في معركة الشيعة مع غيرهم؛ لأنهم أصحاب قضية ذات تاريخ... ومنطق ولاية الفقيه لا يسمح للعاقل أن يراجع عقله في أموره كلها، ومن ثم فهو مناضل إيراني ولو لم يكن إيرانيا. وكل ذلك في وسط فراغ إسلامي وهوان عربي مزعج، وضعف خطاب إسلامي وسطحية وهابية، لا سيما بعدما ألقت إيران بثقلها في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003. لا أستطيع فصل هذا البيان عن دعوة مقتدى الصدر لشيعة الجزائر العام الماضي إلى الخروج إلى العلن؟ كما لا يمكن فصل هذا البيان عما يجري في الساحة، من تحرك شيعي في الجزائر وحسينيات؟ بل وتسويق تهويني حينا وتهويلي حينا آخر؟ لا ندري مصدره الحقيقي ولا الغاية منه. في تقديري لا يمكن فصل كل هذه الأمور عن بعضها البعض، وإنما ما أنا مستغرب منه هو ما موقف السلطة الجزائرية من هذا البيان؟ الذي هو مخالف للأعراف الدبلوماسية؟ وما أنا متغرب منه أيضا، هو أن العراق اليوم هي إيران، والعلاقات الإيرانية - الجزائرية في وضع لا يسمح بهكذا فعل، أللهم إلا إذا كانت القضية خارجة عنهما.. وهذا يصعب هضمه، لا سيما بالنسبة للسياسة الإيرانية، التي لا تفرط في مصالحها التي هي واحدة في كل العالم، وهي خدمة المصلحة الوطنية بواسطة المؤسسات والنظم الشيعية؛ لأن ولاية الفقيه فوق كل اعتبار. تمنينا لو أن إيران الدولة ذات الثقل وصاحبة التجربة الناجحة في البناء الوطني، ساهمت في النهوض بالعالم الإسلامي، بعيدا عن المنطق المذهبي الضيق؛ لأن المذهب مهما علا وتطور ونضج، لا يمكن إلا أن يكون فهما من الفهوم المعروضة في العالم الإسلامي، وليس هو كل الإسلام الذي يريده الله من البشر. على ما يتعلق بالإسلام فإن الأمة الإسلامية واحدة، وأن الإسلام في العالم الإسلامي هو الدين دستوريا، على ما بين المذاهب الإسلامية من الاختلاف، بما في ذلك السعودية راعية الوهابية في العالم، لم تعتبر المذهب الحنبلي أو الوهابي هو الدستور البديل للكل الإسلامي، إلا في إيران فالمذهب الجعفري أو الإثنى عشري هو الدين دستوريا. أبعد كل هذا يمكن الاعتذار لإيران في سوء نيتها وتوظيفها للمذهب للمصالح الوطنية الإيرانية... ولو كانت الدعوة للتشيع منفصلة عن البعد السياسي للدولة الشيعية في إيران، لهان الأمر واعتبرنا القضية قضية وفاء لقناعات مثلما تفعل جميع الجماعات والأحزاب والأيديولوجيات، أما وإيران تسوق للمذهب الشيعي كدين للدولة وتستقطب له كل من اقتنع به عنصرا فاعلا لبناء الدولة لمواجهة الشيطان الأكبر.. فالأمر فيه ما فيه من الالتواء.. وأبرز وجوه ذلك الالتواء أن الكثير من الشيعة العرب غير مرضي عنهم لأنهم شيعة خارج دائرة الاستغلال الإيراني؛ لأنهم شيعة ولكنهم لا يريدون ان يكونوا ضمن المعادلة الإيرانية ولأنهم يعتبرون أن لهم واجبات وطنية في بلدانهم قد تختلف مع الخيار الإيراني.