في ظهيرة يوم الجمعة من كلّ أسبوع، يجلس ما لا يقلّ عن 15 مليون جزائريّ في ما لا يقلّ عن 15 ألف مسجد، لسماع 15 ألف خطبة.. هي أرقام تبعث على التفاؤل، وعلى الأمل في أنّ الجزائريين سيحملون من القناعات ما يكون مصطبغا بصبغة الإسلام منحازا لآلام وآمال خير أمة أخرجت للناس، وسيترجمون تلك القناعات إلى واقع يجعل شرائع الدّين وآدابه الموجّه الأوّل لكلّ فرد من أفراد هذا المجتمع المسلم، ولكنّ نظرة عابرة إلى الواقع سرعان ما تجعل صاحبها يوقن أنّ الخطب التي ألقيت في بيوت الله لم تغادر جدرانها إلا عند فئة قليلة من رواد المساجد، تكاد تشكّل استثناءً في مقابل أغلبيةٍ رفعت شعار ((سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِين)). المنابر تبني.. والمسلسلات تهدم سؤال مهمّ يطرحه كلّ غيور لدينه وأمّته، لماذا أصبح حال كثير من الخطباء والوعّاظ كمن يصيح في واد أو ينفخ في رماد؟ نعم، جزء كبير من تبعات هذه المحنة يتحمّله بعض الأئمة والخطباء الذين لم تعد الخطابة بالنسبة إليهم هما ورسالة، بقدر ما أصبحت وظيفة من الوظائف التي تُتقلّد لهدف واحد وأوحد هو الظّفر بالرّاتب. بعض الخطباء يتحمّلون جزءًا مهمّا من تبعات هذا الواقع، ولكنّ السّبب الأهمّ هو هذا المسخ الفكريّ والأخلاقيّ الذي تضخّه وسائل الإعلام عن طريق المسلسلات والأفلام التي أصبحت المؤثّر الأوّل والموجّه الأهمّ في حياة النّاس. كيف تتغيّر حياة رجل مسلم بخطبة لا تزيد مدّتها عن نصف ساعة في الأسبوع، وهو الذي يجلس ما يقارب 4 ساعات كلّ يوم أمام التلفاز، أي ما لا يقلّ عن 28 ساعة كلّ أسبوع، يتابع فيها الأفلام والمسلسلات التي تتنوّع لغاتها ولهجاتها؛ فمنها العربية ومنها البرازيلية والمكسيكية والهندية والكورية المدبلجة، تختلف لغاتها ولهجاتها وتكاد تتّفق غاياتها وأهدافها؟ كثير هم أولئك الذين طالما فكّر الواحد منهم في إصلاح حاله وحال أسرته بعد سماع خطبة مؤثّرة أو قصّة من قصص حسن أو سوء الخاتمة، ولكنّه ما إن يعود إلى البيت ويقلّب ناظريه بين عشرات القنوات، وتقع عينه على بعض المشاهد والسّقطات، ويتابع حلقة جديدة من مسلسله المفضّل مع الزّوجة والأبناء والبنات، حتى يتغيّر قلبه وينسى أنّه فكّر في التّوبة إلى الله ربّ البريات.
المسلسلات تقلب الموازين وتنسف القيم كيف تصلُح حال أسرة أدمن أفرادها متابعةَ مسلسلات لا غاية لها إلا الحرب على قيم الدّين وأخلاقه؟ وكيف تصلُح حال أسرة يحرص أفرادها على مواعيد بثّ حلقات المسلسلات أكثر من حرصهم على أوقات الصّلاة؟ كيف تصلُح حال شابّ مسلم تعلّمه المسلسلات أنّ الشّباب هو مرحلة الحرية والانطلاق والمغامرات العاطفية، وأنّ تديّن الشّابّ والتزامه بدينه يعني التطرّف والتشدّد؟ وتعلّمهم أنّ الصّلاة والذّكر والحديث عن الموت والآخرة سمة خاصّة بالشّيوخ الذي ملّوا الحياة وملّتهم!. كيف تصلُح حال فتاة مسلمة بهرتها أزياء الممثّلات، وأخذت بلبّها كلمات أبطال الشّاشات؟ يأمرها أبوها بالحجاب، ويأمرها بطل المسلسل وبطلته بالتبرّج لتحظى بالإعجاب. المسلسلات التي تعلّم الفتاة المسلمة أنّ النّجاح في الحياة وبلوغ المجد والشّهرة لا بدّ له من تحدّ للأعراف والتقاليد وتمرّد على المبادئ والقيم.. تقول للبنت المسلمة إنّ الحجاب قيد وأغلال، وتصوّر المرأة المحجّبة في صورة المرأة الأمية المتخلّفة، والمرأة المتبرّجة في صورة المرأة المتعلّمة المثقّفة.. المسلسلات التي تعلّم الفتاة المسلمة أنّ الزواج المبكّر وأد للمرأة وقتل لحيويتها، وتسوّل للزّوجة أنّ محبّة الزّوج عبث، وطاعته ذلّ وخنوع وضعف في الشّخصية، وأنّ إنجاب الأبناء عمل غير مجدٍ.. المسلسلات التي تعلّم بنات المسلمين أنّ اتّخاذ الخليل والعشيق علامة على التمدّن والتحضّر، وأنّ العفّة والحياء عادات وأخلاق بائدة لا تصلح لهذا العصر، بل وتغري الزّوجة المسلمة بالتفتّح على الرّجال الأجانب ونسج علاقات صداقة معهم، وتغري الأزواج بقبول هذا الأمر.
المسلسلات والحصاد المرّ بسبب هذه المسلسلات أصبحت أمّهاتٌ في سنّ الأربعين والخمسين وربّما الستّين يتمنّين أن يعود بهنّ قطار العمر إلى الوراء ليعشن تلك الحياة التي يرينها في المسلسلات، فلمّا رأين أنّ ذلك غير ممكن أصبحن يساعدن بناتهنّ على أن يطبّقن ما يرين في المسلسلات من التبرّج والتهتّك واتّخاذ الخلان والأصحاب. لقد أصبح منظرا مألوفا أن ترى أمًا في سنّ الخمسين تلبس الحجاب وإلى جانبها ابنة لها في أبشع صور التبرّج، والسّبب في غالب الأحوال هو تلك الأمّ التي تأمر أو تعين ابنتها على ما هي عليه وتؤزّها إليه أزا. لقد انتهكت الأعراض، وأزهقت الأرواح، وتشتّت كثير من الأسر، وطلّقت كثير من الزّوجات، وهربت كثير من الفتيات من البيوت، وماتت الغيرة في قلوب كثير من الآباء والأزواج، وكسرت حواجز الحياء بين أفراد الأسر، بسبب هذه المسلسلات؛ يجلس الأب مع زوجته وأبنائه وبناته لمتابعة حلقات هذه المسلسلات وتشخص أبصارهم أمام مشاهد وكلمات يكسف لها الحياء خجلا، ويجلس الزّوج مع زوجته ويراها تنظر إلى بطل المسلسل الذي غطّى وجهه بمختلف أنواع المساحيق وهو يتغنّج في كلماته وحركاته؛ تنظر إليه نظرة إعجاب وانبهار ولا يأبه لذلك. بل ربّما تبدي إعجابها بهذا البطل وتعقد مقارنة بينه وبين زوجها وهو يضحك ملء شدقيه.
إلى متى نظلّ لقمة سائغة لأعدائنا؟ ما تضخّه وسائل الإعلام من أعمال يُقال إنّها تعالج الواقع الاجتماعيّ، هي في أكثرها أعمال وُضعت الأفكار الأساسية الموجّهة لها في دهاليز الغرب؛ يقول مدير مكتب البيت الأبيض للاتصالات في تعليقه على مشروع قناة تلفزيونية لجذب الشباب العربي إلى أمريكا: "نحن نخوض حرباً في الأفكار بالقدر نفسه الذي نخوض فيه الحرب على الإرهاب، لذلك وجهة نظري ترى أنّ تخفيف الملابس عبر الإعلام هو أفضل وسيلة للاختراق". هكذا يخطّطون وهذا ما يقولون؛ أفسدوا شبابنا وفتياتنا بل وكثيرا من أمّهاتنا بفكرة تخفيف ملابس الأجساد وكشف لباس التقوى والحياء، عبر المسلسلات والأفلام، فمتى سنستيقظ؟ متى سنمنع هذه المسلسلات في بيوتنا؟ متى ستضبط الشّاشات على ما يرضي الله من القنوات والبرامج الدّينية والعلمية النّافعة والتّرفيهية الهادفة، التي تعين الأسرة المسلمة على السّير في طريق الالتزام والصّلاح والاستقامة؟. متى سيتّقي القائمون على هذه القنوات ربّهم ويوقفوا إفسادهم لشباب وبنات المسلمين؟ إنّ الله يقول وقوله حقّ وصدق: ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُون)) النور.