تواصل فرق الرحابة والقصبة والبندير بمنطقة الأوراس، صمودها في وجه رياح التغيير الناجمة عن التطور الحاصل في مختلف الطبوع الغنائية المعاصرة، بدليل وجودها المكثف في مختلف جلسات الأفراح، كالأعراس والحفلات العائلية، محدثة أجواء من البهجة والمتعة على وقع لم الشمل بين الحضور. الشيء الملاحظ هو أن أغاني الرحابة والقصبة والبندير تستهوي الوسط الشعبي، وكذا كبار الشخصيات المعروفة، بدليل أن رئيس الجمهورية الأسبق اليمين زروال مولع بأغاني حورية عايشي، فيما سبق لشيخ المدربين رابح سعدان أن رقص على وقع الرحابة والبندير خلال الاحتفالات التي أقامتها الجماهير الجزائرية بعد ملحمة أم درمان. وكاد وزير السكن يسير على نفس الخطى خلال زيارة تفقدية أقامها خريف العام المضي إلى باتنة. فيما أشاد منتصف شهر جويلية المنصرم الوزير الأول، عبد المالك سلال، في تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي تويتر بالفنان الجزائري عيسى الجرموني، موازاة مع زيارته إلى أم البواقي، وقال حينها إن الجرموني كان فنانا مثاليا ومعطاء قدم الكثير للثقافة والفن الجزائري. ولا تكتمل أجواء الكثير من الأعراس الأوراسية، إلا بإحضار فرق فلكلورية خلال السهرة على وقع الرحابة والبارود التي تضفي نكهة تعوّد عليها الأوراسيون على مر السنين. وتؤكد الأستاذة فاطمة عبدلي التي تترأس إحدى الجمعيات التراثية بمنطقة آريس، أن الرحابة لا تزال محافظة على طابعها الأصيل، وهذا بصرف النظر عن التطورات الحديثة التي مست أغلب الطبوع والفرق الغنائية، مؤكدة أن جمعيتها تهدف إلى بعث وإحياء التراث والحفاظ عليه، والعمل على اكتشاف مواهب في مختلف الفنون الأوراسية، حتى تسير على خطى السلف.
عيسى الجرموني أوصل الأغنية الأوراسية إلى العالمية ويجمع الكثير على دور عيسى الجرموني في منح الأغنية الشاوية الأوراسية صدى عالميا في ثلاثينيات القرن الماضي، حين أطرب مئات المشاهدين في مسرح الأولمبيا بباريس، فضلا عن إرثه الغنائي المسجل والشفوي الذي يظل مرجعا لمن خلفه في رفع راية الأغنية الأوراسية، مثل بقار حدة وعيسى قليل وحورية عايشي وعبد الحميد بوزاهر ومحند أبلعيذ الذي توفي مؤخرا وغيرهم، فيما توسعت دائرة فرق الرحابة، وأصبحت معروفة وفقا لاسم المنطقة التي تنتمي إليها، على غرار فرق يابوس وكيمل وآريس ومروانة ونقاوس وغيرها. وتنحصر كلمات وقصائد الأغنية الشاوية الأوراسية بين الألفاظ الثورية الحماسية والدينية الروحانية والعاطفية الحميمة، وإذا كانت فرق القصبة والبندير تتكون من ثلاثة أشخاص (القصاب والبنادري والمغني)، فإن فرق الرحابة تتشكل عادة من 8 أشخاص (أربعة مقابل أربعة) يغنون نفس الكلمات، مشكلين نغمة جبلية موحدة دون أي آلة إيقاعية، فيما تدعم بعض الفرق أداءها بالبندير لإضفاء نوع من الخفة التي تميز الأغنية الأوراسية المعاصرة.
تراث متوسطي اهتم به هيرودوت ويرى الباحث في التراث الشاوي محمد الصالح أونيسي بأن أغاني الرحابة تعود إلى قرون قديمة جدا، وهي حسب قوله جزء من أغاني سكان منطقة البحر الأبيض المتوسط، في صورة أغاني الديكة بسوريا، وأغاني اليونان، ونموذج آخر لأغان كانت تلقى في عصور قديمة خلال فصل الخريف، وسبق للمؤرخ الإغريقي هيرودوت أن وصف خصوصياتها وتفاصيلها حسب محدثنا. في المقابل، يؤكد الشاعر بشير عجرود ل"الشروق"، أن "الرحبية" هي بطاقة تعريف الأوراس وجواز سفره، أما الڨصبة والبندير فهما زاد الشاوي وفخر اكتشافه وانتمائه، معتبرا أن الأوراس دون حنجرته طرقا ودبكا وغناء، لا حدث، فيما انتقد الواقع الحالي للرحابة الذي أصبح حسبه تجاريا محضا، وقال بشير عجرود إن التحديث وبعث روح أكثر غوصا في الموروث القديم بالجديد يقابل بكثير الإهمال والتناسي والتجاوز من متربعي الثقافة على اختلاف المناصب والهياكل والتسميات، مؤكدا أنه بعد عيسى الجرموني لا وجود لحضور مميز من حيث الڨصبة والبندير. كما أن كل الشواهد المقلدة حسبه مجرد ظلال وخيالات، فضلا عن عدم تكريس أسماء معروفة، أما من حيث "الرحبية" فيرى بشير عجرود أنها لا تزال تمارس وظيفتها في الخلف من الأجيال ولو باحتشام (في المناسبات والمواعيد)، في ظل غياب فحولها كبرا وفناء، واصفا مستقبلها بالغامض بناء على واقع وكينونة الثقافة الأوراسية وفلكلورها الشعبي المهدد حسب قوله بالاندثار.