منذ سنوات والشوق يأخذنا إلى زمن كنا نرى الجزائر فيه سحابة ممطرة في أيام جفاف عربية، نهضة في سنوات التخلف، ميراث البشر لثروة قامت من أجل التغيير فأتبعت بثورات ثلاث... حين كان يقودها الرجال ممن فيهم بقية من ديدوش وعميروش وبن بولعيد والحواس وغيرهم، وحين تقدم بنا العمر وجدناها على المستوى السياسي بقيادة أشبه الرّجال مثل سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جئناها وفي سياق عربي عام وجدناها غارقة في الفساد، ليلها كنهارها وما أتعسها من حياة، ويمكن اعتبار ما حدث الأيام الماضية في مؤتمر حزب جبهة التحرير الوطن الذي نعتبره مرجعيتنا التاريخية والسياسية من صراع من أجل توريث للسلطة والقيام بدور الغربان عندما تسود حياة الجيف، واتخاذ أحزاب الحكم الفساد منهجا في الحياة السياسية والترويج لثقافة الضياع على المستوى الاجتماعي أمثلة ناطقة ودالة عن حال الضياع والتيه والزيف التي وصلنا إليها. ومع أن الليل يسلخ منه النهار، فإذا نحن مظلمون، إلا أن فيه نجوما تهتدي بها الخلائق، في ظلمات البر والبحر، وينطبق هذا على ليل الجزائر الثقافي والدبلوماسي، وقد ظهر جليا في يوم الجزائر هكذا أطلق عليه في أبوظبي دولة الإمارات العربية المتحدة، ذلك اليوم الذي بدت فيه الجزائر حاضرة من خلال إبداع أبنائها، وبما أني كنت منشغلا بحفل توقيع "لؤي خالد" لكتابه الجديد "صديقي العراقي" فقد حال الحفل بيني وبين معرفة جزائريين جاءوا من المهجر ومن الداخل لروية قصة الجزائر الأخرى.. قصة يود كثيرون هنا معرفة تفاصيلها. بتلك المناسبة حضرت حفل عشاء أقامه سفيرنا في الإمارات "حميد شبيره"، جمع فيه بعضا من الذين شاركوا في ذلك اليوم وعلى رأسهم الدكتور "حفناوي بعلي" الحائز على جائزة الشيخ زايد للكتاب، والروائي الرائع الذي يبدع بالعربية والإيطالية الدكتور عمارة لخوص والأديب أدريس بوديبه، وأستاذ الأجيال مرزاق بقطاش والأديبة أحلام مستغانمي، والصديق العزيز بشير مفتي ومسؤولين من وزارة الثقافة وبعض أصحاب دور النشر الخاصة، وجمع من الصحافيين الجزائريين وغيرهم كثر، ناهيك على الملحق الإعلامي والثقافي في الإمارات محمد بوطريق. ثمّن السفير حميد شبيره المشاركة الجزائرية في معرض أبوظبي الدولي للكتاب واعتبر المبدعين سفراء للجزائر وبذلك واصل السير على نهج المصالحة بمعناها الواسع.. مصالحة بين الدولة الجزائرية وحركتها في التاريخ، ومصالحة بينها وبين أبنائها، ومصالحة أخرى بينها وبين عصرها.. أتصور أن هناك تغييرا قد حدث في الممارسة المؤسساتية، صحيح أنها ليست عامة، لكن بدايتها تشي بتغير قد يصنع نوعا من العلاقة التي تأخذ طابع الاستمرارية بجانب هذا ألاحظ أن أيدي بعض ممن يشرفون على مؤسسات الدولة الجزائرية ومنها سفارتنا في أبوطبي ممدودة للجميع، فلا يشاهد السفير شبيرة إلا وهو يسجل اهتماما بالمشاركة الجزائرية، وقد جعله الله فأل خير على بلادنا، فخلال السنوات الثلاث الماضية وهو سفير في الإمارات ولا يزال حصدنا ثلاث مرات جائزة الشيخ زايد للكاتب، حيث تحصل عليها كلا من واسيني الأعرج ويوف وغليسي، وحفناوي بعلي. قد أكون منصفا وانطلاقا من تجربة خاصة تجاوزت الربع قرن في الحل والترحال إذا ما قلت أنه لم يتم الجمع بين الدبلوماسية والثقافة لجهتي الاهتمام والمصالحة إلا في فترة السفير حميد شبيرة، فقد عشت سنوات في خلاف مع بعض السفراء وأتباعهم، والسبب هو نظرة كلا منا للوطن، فبعض السفراء يعتقد أن مهمته في الخارج هي حماية الوطن من أبنائه، وفي عصر الإنترنت والفضاء المفتوح لايزال بعض الدبلوماسيين الجزائريين والعرب يعتبر الوطن ملكية خاصة بهم وبمن عينوهم في مناصبهم، وهناك خلط مفضوح بين رغبات الحكّام وهلوستهم وأمراضهم النفسية وبين حاجة الأوطان والتعبير عن مصالحها وقضاياها، مع أن الأوطان أكبر من الجميع وتحتوي الكل، وهي أطول عمرا من الأفراد والحكومات والأحزاب. لا شك أن تجربة الدّولة الجزائرية منذ تراجع مفهوم الوطن ودخولها في فترة المستعمر الوطني، وما مرّت به من أحداث دموية ستعمّر في الذاكرة زمنا طويلا، تساهم اليوم في تغيير النظرة لدى كل الجزائريين في الداخل والخارج، ليس فقط للإجماع عن رأي واحد مشترك ولكن على جملة من الآراء المختلفة أو المتناقضة، وقد كان اليوم الجزائري في أبوظبي حاملا للتنوع والثراء في فضاء جزائري كان للمثقفين فيه دور، وكان وهذا الأهم للدولة الجزائرية حضور فيه، وهذا مبتغانا، لأننا نتمنى أن تكون دائما حاضرة، حتى حين نختف مع أهل الحكم فيها.