إن تفسير الأحداث وتوجيهها تلك الوجهة السلبية الخلافية، التي كانت لها انعكاساتها السالبة، على الحركة الوطنية والثورة بعد ذلك، هي من صنع الاستعمار الذي أسس لسياسة التفريق منذ بداية احتلاله لبلادنا، واستمر يعمق فكرة التقسيم والتشريد في جميع المجالات، وكلما شعر بالضغط وبدو التأثير على المسار الاستعماري، أحدث من أساليب التمزيق والتشتيت للقوى السياسية والعسكرية. ونحن قد نفسر أمرا على أنه صراع على السلطة، أو خيانة من فرد أو جماع وفق ما نستنتج من الوقائع، ونتفاعل مع تلك الاستنتاجات، وننتصر لظالم أو مظلوم وفق معايير قد حمية أو تعاطفا أو انتصارا لما قد نراه حقا، ولكن الإدارة الاستعمارية بطبيعتها تعمل على إيجاد الخلاف والتمزيق أساسا، وعندما يظهر الخلاف تستثمره بكل ما أوتيت من قوة، والنتائج مهما تكون هي في صالحها، سواء بتقسيم فئة إلى فئتين أو أكثر، أو في انتصار زيد او عمرو...،او بقاء الخلاف الذي يتحول إلى صراع وتقاتل. إن المؤسسة الاستخباراتية التي لا تستغني عن استثمار أحاديث النساء في الحمامات من أجل الوصول فهم المجتمع الجزائري، من خلال تحليل علاقاته ببعضه البعض، واهتماماته اليومية، وأحاديثه التي يتناولها بدوافعها والغراض منها...إلخ، لا يمكن أن تهمل استثمار مشكلات وقعت في الثورة وخلافات وقعت بين الأشقاء، هذا إن لم تكن هي من ورائها. وعندما نسلم بأن الاستعمار يستثمر كل شيء لصالحه، ومنه الخلاف الطبيعي وغير الطبيعي بين الأشقاء، لا نستغرب أن يكون هو من وراء بعض الإشكالات التي وقعت.. فإطلاق سراح عبان رمضان بعد شهرين من اندلاع الثورة، لا يمكن ان يكون بريئا..، كما لا يمكن أن يترك الموقف من هروب بن بولعيد من السجد هكذا بلا رد فعل.. كما لا يستغرب استدراج مجاهدين لإيهامهم بالتفاوض وحسن النية كما في واقعة لعموري..، كل هذا اختلف وفي غير من الأمور المشابهة وهو طبيعي، ولكنهم تفاعلوا مع الموضوع بالمنطق الثوري، الذي لا يسمح بمثل هذه التصرفات ففرضوا على أنفسهم سوء الظن ابتداء..، وتصرفوا وفق سوء الظن الذي أوجب المحاكمات غير العادلة والاغتيالات والمطاردات...إلخ، غفلوا عن الاستثمار الإيجابي لذلك، ولم يفترضوا أن الاستعمار يهدف إلى ما وصلوا إليه من انقسامات وتوترات فرضت على الجميع أن يلجأ إلى الجهوية لحماية نفسه ومجموعات. من هنا بدأ انتقاص الاستقلال، أي ابتداء من سنوات الثورة وبالضبط ابتداء من سنة 1958، عندما قرر ديغول العمل على إيجاد القوة الثالثة، فيما يعرف بدفعة لاكوست أو بإحداث مصطلح "الجزائري جزائرية"، كمصطلح وسط بين "الجزائر الفرنسية" و"الجزائر المسلمة"؛ لأن ضعف المستوى الثقافي منع القيادات الثورية من إدراك أساليب الاستعمار فيما يعرف ب"الصراع الفكري"، و"تزييف الوعي"، و"التلاعب بالعقول"، وزاد الطين بلة استدعاء مشكلات الحركة الوطنية التي كانت قبل الاستقلال، وحكمت البلاد بهذا المنطق بكل أسف، لا سيما في الفترة الأولى 1962/1980، حيث غيبت الكثير من إطارات القوى السياسية، سواء بسبب معارضتها لتوجه الدولة الوطنية يومها، أو بسبب التصنيفات وشخصنة الحياة السياسية، ثم انبنى على هذا التشتيت الذي أضعف الحياة السياسية، الكثير من مآسي الدولة الوطنية التي عانى منها الشعب، سواء بما وقع بين السلطة والمعارضة من حسابات، أو بخياراتها التي لم تكن موفقة في مجملها، وذلك ما قَرَّتْ به عين فرنسا الاستعمارية. إن أعراض المشكلة، ومظاهر الاستقلال المنقوص كثيرة وتفاصيلها تحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت لعرضها تفسير جزئياتها، ولكن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى مسائل نرى أنها تمثل مفاصل هامة في هذا الاستقلال المنقوص، سواء تسببت فيه أو ساعدت على تثبيته. 1. توقف الاطراد الثوري، أي بمجرد الاستفتاء على الاستقلال وتوقيف القتال توقف كل شيء، وكأن استعمار 132 سنة قضي عليه في سنوات الثورة السبع. إن مفهوم الثورة هو التغيير الجذري، أي في حالة الجزائر هو تغيير النظام الاستعماري بنظام وطني تحرري، وذلك بالفعل المسلح الذي كان خلال 1954/1962، ويبقى الجانب الثقافي التربوي الاقتصادي...، وهذا لم يلمس في الواقع بالدقة اللازمة.. صحيح أن خطاب السلطة كان يتكلم على البناء والتشييد، ولكن في الواقع بنى بعض المرافق.. ولكنه لم يهتم ببناء الإنسان بالقدر الكافي، فقد أراد النظام أن يبني لنا مواطنا اشتراكيا، في حين أن المرحلة كانت تقتضي ببناء "المواطن الوطني"؛ لأن المواطنة التي حرص الاستعمار على تثبيتها، كانت بقانون الأهالي –أي مواطن من درجة ثانية-، وهذا وحده يحتاج إلى سياسة واضحة وثقافة عميقة، ولعل عجز النظام عن بناء "مواطن"، بسبب اختفاء الروح الثورية التي لم يبق منها إلا الشكل. 2. تبني الخط الاشتراكي مع بداية الاستقلال، وهو اختيار مبني على الاصطفاف الأيديولوجي، إذ كان يومها الاستعمار لبيراليا، وعداوتنا له تقتضي أن نكون اشتراكيين..، لكن هل هذا الاختيار في صالح الشعب؟ يبدو أن هذا التساؤل لم يكن مطروحا، وقد كان هذا الاختيار من الناحية المنهجية في اعتقادي خطأ فادحا؛ لأن تبني الاشتراكية يصلح في المجتمعات الممزقة التي لا تلتقي على شيء، أما الشعب الجزائري والشعوب الإسلامية عموما يحكمها النظام التراحمي كما يقول عبد الوهاب المسيري، أي أن أعرافه ودينه وأخلاقه كلها تساعد على التلاحم والتعاون والتواد، ثم إن النظام ينبغي أن يكون مبنيا على تصور سابق للموضوع ومضاداته، والشعب الجزائري لم يسبق له أن شبع في حياته حتى يكون له تصور للبرجوازية واللبيرالية..، ولذلك لم يفلح هذا الاختيار في أبسط ممارساته التي عرفها الشعب الجزائري عز المعرفة، وهي الفلاحة.. فالثورة الفلاحية كانت خرابا للجزائر رغم أن الفلاحة في بلادنا هي أنجح المشاريع ولا زالت إلى اليوم؛ لأنها ربح صافي. 3. تشريد المعارضة والخصوم السياسيين ومطاردتهم وسجنهم وتعذيبهم وتقتيلهم، وكان ذلك أيضا من أشنع مساوئ السلطة بعد الاستقلال؛ لأن هؤلاء السياسيين الذين عارضوا السلطة في عمومهم من صناع الحركة الوطنية والثورة، أمثال محمد شعباني، حسين آيت أحمد، محمد بوضياف، كريم بلقاسم ومحمد خيضر وغيرهم كثير، ثم الذين كانوا في السلطة وعارضوها واعتزلوها، أمثال الكثير من أعضاء مجلس الثورة، وأخيرا استبعاد قيادات سياسية هامة من المواقع السياسية الحساسة... كل هؤلاء جاهدوا من أجل أن تستقل الجزائر استقلالا كاملا ينعمون به لا أن يحرموا من التعبير عن آرائهم فيما يقع بالبلاد. 4. مركزية التنمية، حيث بقيت المشاريع الصناعية الكبرى في دائرة ضيقة من المدن المحظوظة، فحرمت الكثير من بقاع الوطن، مما فرض على الشعب ما يعرف بالنزوح الريفي، والهجرة إلى المدن الكبيرة؛ لأن المناطق الداخلية كانت تعاني من البطالة وانعدام الترقية الصناعية والعمرانية؛ بل إن القرى الفلاحية التي شيدت للفلاحين في المناطق الداخلية، واعتبرت مكسبا، قد ساهمت في لافاعلية الفلاح؛ لان الأرض التي سلمت له، كان الكثير منها قد أممته السلطة من مواطنين جزائريين... بغرض تحقيق العدالة الإجتماعية في ظل الخيار الإشتراكي. 5. التحولات الانفعالية للسلطة؛ باعتبارها لم تتبن مشروعا وطنيا جامعا، فكانت اجتهاداتها عبارة عن انفعالات تحكمها قيم أخرى، وهي قيم التكتلات الفئوية والعصب، والجهويات والتوازنات الحزبية والسياسية والنفوذ العرقي القبلي، وترتب عن ذلك، الانغلاق الكامل خلال العهد الاشتراكي، والتفتح الإعلامي الفني خلال الثمانينيات، والإصلاحا الاقتصادية السياسية ابتداء من سنة 1988، التي أفضت إلى الليبرالية المتوحشة التفتح المائع، وكل ذلك انفعالات توهم بأنها مدروسة ومخططة ومبنية على دراسات علمية، بينما كل النتائج تثبت أن ما يقع في الجزائر في الكثير من الأمور، إتجال واهواء لا علاقة لها بالعلم إلا للتغطية عن العيوب، فيقرر الفعل ثم يبحث له عن مبررات.