ينتفضون بمُجرّد سماعهم صافرة القطار وكأنهم الهنود الحمر، فيهرول كلّ في اتجاه.. هذا يُخرج "المِعقال" ويُثبّت الحجر داخله باحترافية والأخر يلتقط قارورة مكسورة، والثالث كلّ ما يجده أمامه مهما ثقل أو خف وزنه يصلح للتسديد.. ويصيحون "صيّد الزْرزورْ ".. ثم يقذفون بما يحملون في اتجاه واحد.. نوافذ القطارات هي الهدف. هُم أطفال ومُراهقون تسبّب طيشهم، في إزهاق أرواح جزائرييّن، وإصابة آخرين بعاهات وإعاقات، ذنبهم أنهم تواجدوا داخل قطار بات هدفا لحجارة أطفال الضواحي. تتواصل حرب الحجارة التي أعلنها منذ عقود أطفال ومُراهقون عابثون، على نوافذ القطارات، ويتواصل سقوط العشرات من الضحايا، فيما تدفع الخزينة العمومية الفاتورة يوميا وبالملايير، فتخيّل أن إصلاح الزجاج الأمامي لقطار واحد مرشوق يُكلف بين 60 و80 مليون سنتيم، فما بالك بما يحصل من تحطيم يومي لعشرات القطارات على أيدي أطفال الضواحي، والذين لا نخجل من وصفهم ب "الهنود الحمر"، وتقف الدولة وخلفها مصالح الأمن والخبراء النفسانيون والاجتماعيون عاجزين عن إيجاد حلّ للظاهرة التي أثقلت كاهل المؤسسة الوطنية للسكك الحديدية وحيَّرت المجتمع.
جميع القطارات بمحطة آغا مكسورة الزجاج تنقّلنا إلى محطّة السكك الحديدية آغا بالعاصمة، لنتفقد عن قرب حالة القطارات.. وحقيقة ولهول ما رأيناه وقفنا عاجزين عن التعبير، فتخيّل أن جميع القطارات الداخلة والخارجة للمحطة، زجاجها الأمامي ونوافذها مكسورة وكأنها عائدة من منطقة حرب، دون الحديث عن أثار الرشق على الحديد، فمِن وقع الحجارة المرشُوقة، تحوّل حديد القطارات إلى خلية نحل من كثرة الثقوب... حتّى الجديدة منها والتي لم يمض وقت طويل على استيرادها من الخارج، حطّمتها الحجارة. رافقنا في جولتنا بمحطة آغا السائق الميكانيكي ملوي حسام 28 سنة من العاصمة التحق بعمله في 2013، فنقلنا إلى قطار كهربائي استوردته الجزائر ودخل الخدمة في 2009 ، لكنه متوقف عن العمل منذ مدة طويلة، ينتظر دوره في إصلاح زجاجه المكسور.. تفاجأنا من حجم الأضرار التي تعرض لها جراء الرشق بالحجارة، فالزجاج الأمامي مكسور عن أخره، بالكاد يتمكن سائقه من الرؤية، أما المرأة العاكسة، فمن كثرة التحطيم التي تتعرض له كل مرة، تم استبدال زجاجها بلوحة خشبية.... !! تحسّر حسام وهو يشرح لنا الرّعب الذي يعيشه يوميا سائقو القطارات والمسافرون عند وصولهم للمناطق السوداء، المعروفة برشق أطفالها للحجارة. وهذه المناطق، حسب تأكيد حسام عديدة، فبالنسبة لقطار العاصمة العفرون، ارتاح المسافرون من الخطر الذي كان يتربصهم بمنطقة جسر قسنطينة، بعد ترحيل قاطني البيوت القصديرية، فيما بقيت المعاناة بكل من واد السمار، بوليو، المدينة الجديدة بكوريفة الحراش، موزاية، الشفة، بني مَرّاد، خيزرونة ومدخل خميس مليانة، وبالنسبة لقطارات الولايات الشرقية، توجد منطقة الرغاية، بودواو بالعاصمة والأخضرية بالبويرة، العلمة، وعنابة والحجّار، أما بالجهة الغربية، فمنطقة المحمدية بولاية غليزان تُصنف من المناطق الخطرة.
80 مليون سنتيم تكلفة إصلاح الزجاج الأمامي لقطار واحد!! والخطير أن تكلفة إصلاح زجاج القطارات مكلفة للغاية، لأنه من نوعية الزجاج المزدوج، فإصلاح الزجاج الأمامي فقط، يكلف حسب تأكيد حسام 80 مليون سنتيم، ويستغرق أياما. بدخولنا القطار، أظهر لنا مرافقنا حجم الخسائر، وشرح لنا الخطر المحدق بالسائق في حال تحطم الزجاج الأمامي، فيقول "الزجاج يحتوي ذبذبات كهربائية، وعندما يتشقق من كثرة الرشق بالحجارة، يستحيل علينا تشغيل مسّاحات الزجاج أثناء تهاطل الأمطار، مخافة اندلاع حريق بالقطار، فنضطر لمسح الزجاج بأيدينا.. يَدُ تسوق وأخرى تمسح وهو ما يعرضنا والمسافرين للخطر". وعقد محدثنا مقارنة بسيطة للتأكيد على خطورة عملهم، فقال "عندما يرى رجل الأمن زجاج سيارة مكسورة، يتحصل السائق على غرامة وقد تسحب رخصته، لخطورة الأمر، فما بالك بتحطم زجاج قطار يحمل مئات المسافرين...". ومن أخطر الحوادث التي يتذكرها محدثنا بفزع، فأثناء سياقته قطار "ديازال" العائد من وهران نحو العاصمة، هجم عليهم مراهقون عند مدخل خميس مليانة وكأنهم "الهنود الحمر " حسب تعبيره، وقذفوا القطار ب "اللّورْدي"، ولخطورة الأضرار توقف القطار بالمكان لساعتين كاملتين، في انتظار وصول فرق الصيانة.
سائق قطار قتلته رمية حجر بمحطة الحراش تنهّد محدثنا طويلا وهو يتذكر زميلهم السائق الذي قضى نحبه في 2010 بضربة حجر عابث، فالضحية كان يسوق القطار وبوصوله محطة الحراش بالعاصمة، أخرج رأسه من النافذة ليُباغته حجر مرشوق من أعلى الجسر أصابه مباشرة في رأسه، وتوفي في الحال، وبعد التحقيقات الأمنية تبين أن الفاعل من جيران الضحية. لحقنا بعدها بقطار آغا- زرالدة الذي دشّنه رئيس الجمهورية منذ أشهر فقط، وكان يستعدٌّ للمغادرة، فعندما صعدنا، تفاجأنا أنه لم يسلم من التحطيم، فبعض زجاج النوافذ الصلب يكاد ينهار كلية من كثرة الرشق، ورأينا المسافرين يتجنبون الجلوس أمام النوافذ المهشم زجاجها.
عمي أعمر.. سائق كاد يفقد عينه ووالدته أصابها حجر في الرأس والحديث عن المآسي البشرية التي تسبّبت فيها الحجارة المقذوفة على سائقي القطارات والمسافرين ذو شجون، فالقصص التي سمعناها مؤثرة جدا ولا تكاد تٌصدُّق أن السبب فيها مجرد حصاة صغيرة قذفها مراهق على القطار. التقينا عمّي أعمر بن سالم يبلغ 61 سنة، مُتقاعد أمضى 27 سنة كاملة في منصب سائق قطار، لم يسلم لا هو ولا والدته من ظاهرة الرشق، فحجر صغير كاد يتسبب له في العمى لولا ستر الله عز وجل. وعن ذلك يروي لنا "منذ بدأت عملي كسائق، والقطار يتعرض دوريا للرشق بالحجارة عند مرورنا على الضواحي... ويوم الواقعة في 1993، كنت أسوق القطار المتوجه من العاصمة نحو برج أمنايل في فترة الظهيرة، فإذا بحجر يصيبني مباشرة في عيني اليسرى، خضعتُ بعدها لعديد العمليات الجراحية...". وحتى والدته لم تسلم من الرشق، فمرة كان جالسا أمامها بالقطار بالقرب من نافذة مفتوحة، فإذا بحجر صغير يدخل من النافذة بقوة، ولحسن الحظ ارتطم أولا بالجدار قبل أن يسقط على رأس والدته، ولولا الجدار لوقع ما لا يحمد عقباه. وتأسف عمي اعمر، لتحول الظاهرة إلى عادة يومية للأطفال، فصاروا يتنافسون على لقب "صياد النوافذ"، أما لحظة اقتناء قطار جديد، "فذلك يوم احتفالي لهم" حسب تعبيره، لدرجة أطلقوا على القطار السريع "أوتوراي" اقتنته المؤسسة من اسبانيا، اسم "الزرزور الجديد" الذي يصطادونه بالحجارة، ويقول "هم يتدربون على نوافذ القطارات وكأنهم يصطادون زْوَاوش..".
أطفال يلقبون القطار ب "الزرزور" ويتنافسون لاصطياده وعن تعرض المسافرين للرشق، ردّ متحسرا "يا حسراه.. كل يوم توجد إصابات، لدرجة اضطررنا أكثر من مرة لتوقيف القطار في البليدة، لغرض نقل مواطن مصاب إلى المستشفى، من طرف الحماية المدنية"، ويرى بن سالم أن أحسن حلّ بعد فرض الغرامات المالية، هو ترحيل جميع السكان القاطنين على حواف السكك الحديدية. ومن الحوادث التي لا تزال راسخة في أذهان سائقي القطار والمراقبين، تعرض مراقب قطار العاصمة وهران في 2007 لضربة حجر في عينه تسببت له في إعاقة دائمة، وفي رحلة القطار السريع أيضا العاصمة وهران، إصابة رضيع بحجر وتوقف القطار استعجاليا لإسعاف الضحية بعد إصابة والدته بصدمة... حجر طائش مقذوف على قطار الضواحي الجزائر- الثنية يصيب طالبة جامعية على مستوى شاربها ويحدث لها جرحا ونزيفا، تعرض مسافر كان نائما في قطار "ديازال" بين العاصمة وتيزي وزو، لضربة حجر على الرأس أيقظته فزعا مصدوما من شدة الدماء المنهمرة.
الفدرالية الوطنية للسّكك الحديدية: التّكتم على الفاعلين يُعرقل التحقيقات القضائية... التقت "الشروق" سائقي قطارات ومُراقبين، يشتغلون على مختلف الخطوط انطلاقا من العاصمة، فبدأنا حديثنا مع المكلف بالتنظيم لدى نقابة القطارات، الهادي شمون، فأكد لنا أن ظاهرة الرّشق بالحجارة لم تتوقف يوما، وذهب ضحيتها الكثير من السائقين والمسافرين، ومؤكدا أن هاته الجرائم يعاقب عليها القانون، ولكنّ صعوبة التعرف على الفاعلين في ظل التكتم عليهم، يُعرقل مسار التحقيقات القضائية. وأكد شمون، أن الظاهرة لن تجد طريقها إلى الحل، إذا لم نطبق عقوبات ردعية على المتورطين، حيث اقترح أن يُغرًّم جميع سكان الضاحية التي رٌشقت منها الحجارة ماليا وبمبلغ معتبر، على غرار ماهو معمول به في فرنسا، وحسب تعبيره "عندما تمدّ يدك لجيب المواطن يرتدع تلقائيا"، وحسبه المبلغ المحصل يساعد الخزينة العمومية ولو بجزء يسير في إصلاح ما أفسده العابثون. وناشد محدثنا أئمة المساجد ومصالح الأمن والجمعيات المدنية المتواجدين في البؤر السوداء، بتكثيف الحملات التحسيسية لتوعية الأهالي بخطورة الظاهرة.
حجرة طائشة تُجهض حاملا وتُخصي سائقا.... وبدوره أكد عضو فدرالية السكك الحديدية، زوبير بلمان أن الظاهرة أخذت منحنيات خطيرة، "الأطفال والمراهقون يعتبرونها عبثا ومُزاحا، وهم لا يدرون بأنهم يحطمون دولتهم، خاصة في ظل التقشف، ويصيبون أشخاصا بعاهات وإعاقات"، وتأسف بلمان، كون حصاة صغيرة مقذوفة، تسببت في مقتل سائق، وإحداث عاهات بعيون آخرين، وجرح مسافرين، وكشف محدثنا أن أحد السائقين تعرض ل "الأخصاء" بعدما تلقى حجرا في منطقة حساسة، ومسافرة أجهضت جنينها بعد حجر أصابها في بطنها. والخطير حسبه أن "أطفال الحجارة" صاروا يحفظون توقيت وزمن مرور القطارات، فينتظرونه "مسلحين" بالأحجار والقارورات الزجاجية.
مدير المفتشية التقنية للسلامة السككية، عبد المالك حمزاوي: نتعرض لخسائر مادية كبيرة عند تحطم القطارات الحديثة المستوردة أكد مدير المفتشية التقنية للسلامة السككية، عبد المالك حمزاوي ل "الشروق" ، أنه بمجرد وقوع حادث رشق، تودع المؤسسة الوطنية للسكك الحديدية شكوى لمصالح الأمن، وتتنقل مصالح الدرك أو الشرطة إلى مكان قذف الحادث "لكن للأسف يبقى الفاعل مجهولا". و- حسب تصريحه - غالبية الحوادث التي تخلف إصابات بين السائقين والمسافرين، تحدث داخل القطارات القديمة، والتي يغيب فيها التكييف، فيضطر المسافرون لفتح النوافذ، أما في القطارات الجديدة المكيفة، فالأضرار تتمثل في تحطيم الزجاج وإحداث تشويه بحديد العربات، وهو ما يكلف الخزينة العمومية خسائر مادية باهظة.
المدير المنتدب لأمن السكة الحديدية، يَنطرْن حكيم: 43 سائقا ومراقب قطار و 44 مسافرا أصيبوا بجروح خلال 3 أعوام الأخيرة وبلغة الأرقام، كشف لنا المدير المنتدب لأمن السكة الحديدية، ينطرن حكيم، أن أكثر من 140 قطار يربط العاصمة بضواحيها، يتعرض يوميا لعملية رشق بالحجارة، سواء كان قطار "الديازال" المخصص لنقل السلع والبضائع، أو القطار الكهربائي "أوتوموتريس" للضواحي، أو القطار السريع "أوتوراي". وسجلت مؤسسة السكك الحديدية 705 جريمة رشق بالحجارة على قطارات نواحي العاصمة وعنابةوقسنطينةووهران، خلال الأعوام 2014، 2015 و2016، ما خلف جرح 43 سائقا ومراقب قطار و44 مسافرا، وأكثر عمليات قذف الحجارة تسجل في العاصمة وضواحيها، تليها ناحية وهران، ثم قسنطينة وأخيرا عنابة. وبالعودة للخلف، ففي العام 2008 تم تسجيل 476 جريمة رشق، خلفت جرح 115 ضحية من مسافرين وعامل، وفي 2009 سجلت 157 اعتداء بالحجارة أسفر عن جرح 51 شخصا، وفي 2010 تم إحصاء 109 حالة اعتداء بالرشق خلفت 14 جريحا. واعتبر ينطرن أن قذف حصاة صغيرة لا يتسبب فقط في كوارث بشرية ومادية، وإنما يُعطل رحلات القطار ويشلها أحيانا، ويوضح "عند تعرض القطار للرشق وحدوث أضرار بالزجاج أو لمسافر، يتحتم على السائق توقيف الرحلة وانتظار قدوم أعوان الرقابة، فتتعطل الرحلة وينزعج المسافرون، وعند تضرر عربة واحدة في القطارات الجديدة تتوقف وحدة كاملة عن العمل (الوحدة تضم ثلاث عربات ملتصقة ببعضها)، وهو ما يسبب اكتظاظا للمسافرين في بقية العربات، والعربة تبقى في التصليح لقرابة 3 أيام كاملة، وعند إصابة السائق نضطر لتعويضه والموضوع أيضا يأخذ وقتا...".
إمام مسجد الفتح بالشراقة، محمد الأمين ناصري: ربّوا أولادكم .. لأنكم ستحاسبون عنهم يوم القيامة اعتبر الإمام ناصري، أن ظاهرة رشق القطارات بالحجارة، ظاهرة "غير مرضية وسلبية" تعوّد عليها أطفال بعض المناطق، مُحملا مسؤولية ذلك للأولياء. وحسب قوله "الطفل الصغير غير مكلف، وسيتحمل والديه تبعات وسيئات أعماله، التي تضر بالمجتمع". وتأسف المتحدث، لأن الظاهرة وزيادة على تسببها في إزهاق أرواح سائقي قطارات، تواجدوا في القطار تأمينا للقمة عيش أبنائهم، فتعرضوا للقتل، ومسافرون تكبدوا عناء السفر الشاق، فاستقبلهم الأطفال بالحجارة، فهي تبذير للمال العام، وهو ما ينهى عنه رسولنا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فقال "إن الله ينهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال"، وناشد محدثنا الأولياء بالسهر على تربية أبنائهم التربية الصحيحة التي تجعل الطفل مفيدا لنفسه ومجتمعه، لأنهم سيحاسبون على ذلك يوم القيامة، كما دعا القائمين على شؤون التربية إلى التوعية من خطورة هاته الظاهرة بالمدارس، "لأن الطفل غير واع بخطورة ما يقوم به، إذا لم ينصحه الكبار".