اعتدنا مع انطلاق السّباق نحو الترشّح للانتخابات على اختلاف أنواعها، أن يكثر الحديث حول نزوع كثير من المترشّحين إلى بذل الأموال والهدايا، ليس للمسؤولين عن المديريات الولائية للأحزاب لأجل الظّفر بترتيب مهمّ في قائمة الترشيحات، فحسب، وإنّما أيضا لعامّة المواطنين، في شكل وعود وعهود! لأجل استدرار ولائهم والظّفر بأصواتهم في الانتخابات، وهو السّلوك الذي أصبح معهودا بين كثير من "المتحرّشين" بالمناصب، خاصّة من أولئك الذين لا يملكون مؤهلات علمية ولا رصيدا كافيا من نظافة اليد والتّاريخ، والعجيب في أمر هؤلاء المترشّحين أنّهم لا ينظرون إلى الأموال التي يبذلونها والعهود الكاذبة التي يطلقونها، على أنّها رشوة، مع أنّه لا يشكّ عاقل في أنّها كذلك، وأنّها من كبائر الذّنوب ومن أعظم المثالب التي يفترض أن تصدّ النّاس عمّن يستبيحها. الرّشوة تزحف على كلّ القطاعات وتعمّ كافّة المجالات ليست الانتخابات هي الموسم ولا المجال الوحيد الذي استبيحت فيه الرّشوة وأضحت أمرا معهودا، فلا يكاد يخلو مجال من المجالات ولا قطاع من القطاعات من وباء الرّشوة، بل لعلّنا لا نكون مبالغين لو قلنا إنّ الرّشوة تحوّلت في أيامنا هذه إلى معاملة هي الأكثر انتشارا في واقعنا، حتى ما عاد أكثر النّاس يلتفتون إلى حرمتها وكونها من الكبائر ولا إلى استحقاق آخذها ومعطيها اللّعن والطّرد من رحمة الله، بعد أن أصبح كلّ واحد منهم يفتي نفسه بنفسه ويختلق الأعذار والمبرّرات ليأخذ الرّشوة أو يعطيها؛ الآخذ يتعلّل بالحاجة الماسّة إلى المال وعدم كفاية الرّاتب أمام كثرة متطلّبات الحياة!، والمعطي يتعلّل بأنّه مضطرّ إلى بذلها لينال مبتغاه أو يتخلّص من عقوبة تسلّط عليه!. استبيحت الرّشوة وعمّت أغلب القطاعات، ولم يعد استحلالها حكرا على كبار المسؤولين وصغارهم، بل إنّ كثيرا من الموظّفين في الإدارات والمصالح العامّة، أصبح الواحد منهم يتباهى بأنّه مستغنٍ عن راتبه الذي يدّخره لمآرب أخرى، بعد أن أصبح يجد كفايته في "الأعطيات" و"الهدايا" التي يأخذها من المواطنين "الأسخياء"! الذين أصبح "عموم البلوى" عذرا كافيا بالنّسبة إليهم لإعطاء الرّشوة، ليس لكلّ من يطلبها فحسب وإنّما أيضا لكلّ من لا يردّها، لتسهيل المعاملات وتذليل الصّعوبات واختصار الأوقات!!!.
حصاد استباحة الرّشوة بسبب استباحة الرّشوة، انتشرت المظالم وضاعت حقوق الفقراء وأصحاب الحاجات، واستأثر الموسرون والأغنياء بالأعطيات.. أصبحت المساكن وقطع الأراضي تُمتلك بالرّشاوى والوساطات، والمناصبُ والشّهادات ورخص السياقة والعطل المرضيّة تشترى بالأموال.. انقلبت الموازين وتقلّد الفاشلون أفضل وأرقى المناصب، وحُرم المتفوّقون واضطرّ من اضطرّ منهم للتّنازل عن شهاداتهم وكفاءاتهم والعمل في وظائف لا تُشترط لها أيّ مؤهّلات.. صار الأبرياء في السّجون يرزخون، والمجرمون المذنبون يسرحون ويمرحون، وغدا من السّهولة بمكان أن يدان بريء وتلبّس له التّهم وتثبت في حقّه، ويُبرّأ المجرم وتسقط عنه كلّ التّهم، مقابل مبلغ يُتّفق عليه بين الرّاشي من جهة وبين المرتشين الذين ربّما يمتدّون لسلسلة طويلة، كلّ واحد منهم له نسبة محدّدة في "الأعطية"، وأصبح من السّهل على كلّ مستطيل بماله أن يقول لمخاصمه مثلا: "سأخسر عليك 20 مليونا وأدخلك السّجن"، وصار بعض الشّباب المتاجرين في المهلكات والممنوعات لا يترددون في إشهار الأسلحة البيضاء لإزهاق الأرواح البريئة، لعلمهم بأنّهم لن يمكثوا في السّجون سوى أشهر أو أيام معدودات؛ فهناك من سيدفع عنهم ما يكفي لإخراجهم من السّجن، كما تخرج الشّعرة من العجين.
بسبب الرّشوة حُرم الأذكياء وأصحاب المؤهّلات من حقّهم في التّوظيف مسابقات التّوظيف أصبحت مسابقات شكلية لذرّ الرّماد في العيون، لأنّ المناصب في كثير من القطاعات وفي كثير من الأحيان، تحجز قبل موعد المسابقة لأصحاب الحظوة الذين يدفعون أكثر، وصار من يَهمّ بالمشاركة في المسابقة يصارَح بأنّه إن لم يبذل ما يطلب منه من مال فلا داعي ليطمع في النّجاح، بل لا داعي لينتظر استدعاء المشاركة في المسابقة!.. هذه الظّاهرة لم تُستثن منها بعض مسابقات الدّخول إلى الدّراسات العليا في الجامعات، بل إنّ بعض الأساتذة الذين أعمت المادّة أبصارهم وطمست بصائرهم يتعمّدون ابتزاز الطّلبة لمساعدتهم في النّجاح مقابل مبالغ أو هدايا معتبرة.
رُخص السّياقة أصبحت تُباع وتُشترى.. والنّتيجة حوادث تتزايد وأرواح تزهق! رخص السياقة بدورها أصبحت تباع وتشترى، وغدت هذه الظّاهرة الخطيرة أمرا مألوفا ومعهودا بين الشّباب الذين يرضخون لابتزازات بعض المدرّبين الذين يتعمّدون منع الممتحنين المسجّلين في مدارسهم حقّهم في النّجاح واجتياز الاختبارات، ويضغطون عليهم لدفع مبالغ من المال "تحت المقود"، بل إنّ كثيرا من هؤلاء المدرّبين ما عادوا يستخفون بطلب الرّشوة، بل صار الواحد منهم يصارح الممتَحَن بالقول: "إن لم تبذل لي ما أطلبه، فعليك أن تنسى رخصة السياقة"!.. لقد رضخ كثير من الشّباب لهذا الواقع وتعلّلوا بأنّه أصبح من غير الممكن الحصول على رخصة السياقة من دون دفع مبلغ من المال تحت الطّاولة، بينما أعجَب هذا الواقعَ كثيرا من الشّباب المتهوّرين، لأنّه يختصر عليهم الوقت والجهد، ويمكّنهم من الاستمتاع بالقيادة من دون الحاجة إلى الانتظار، وهو الواقع الذي دفع المجتمعُ فاتورته أرواحا تزهق في الطرقات بسبب تهوّر هؤلاء الشّباب الذين حصلوا على رخص السياقة بمثل هذه الطّرق الملتوية.
الشّهادات المرضيّة.. حسب الطّلب الشّهادات الطبيّة المرضية أيضا أصبح بعض الأطبّاء يوقّعونها مقابل مبالغ محدّدة، لا يحتاج من يدفعها إلى التمدّد على طاولة الفحص، وإنّما يكفيه أن يقدّم معلوماته ويختار عدد الأيام التي ينوي الغياب فيها عن العمل.
مصالح المراقبة.. هي الأخرى لم تسلم من الوباء من جهتهم، لا يتورّع بعض المكلّفين بالمراقبة والمتابعة، عن طلب رشاوى يسمّونها بغير اسمها مقابل إعفاء السائقين الذين يخالفون قانون المرور، من تحرير مخالفات في حقّهم، وكثير من السّائقين، في المقابل، لا يتأخّر الواحد منهم عن وضع ورقة نقدية بين الوثائق كلّما طُلب منه إظهارها!.. وما قيل عن بعض المكلّفين بمراقبة أمن الطّرق يقال أيضا عن بعض رجال الجمارك الذين يبتزّون التجّار بالتّغاضي عن نوع وكمّ السّلع التي يُدخلونها عبر الحدود أو ينقلونها من مدينة لأخرى، وبعض أعوان المراقبة الذين يغضّون أبصارهم عن السّلع الفاسدة والمغشوشة والسّلع التي تباع بأسعار مضاعفة، مقابل مبالغ تحدّد بحسب أهمية السّلع، يدفعها التجّار متعلّلين بأنّهم اضطرّوا لذلك حتى لا تصادر سلعهم أو تغلق محلاّتهم!.
الرّشوة تغزو المستشفيات والإدارات والمصالح العامّة! في كثير من الإدارات والمصالح العامّة، وصل الأمر ببعض الموظّفين إلى ابتزاز المواطنين والمماطلة في استخراج الوثائق التي يطلبونها، لاضطرارهم إلى دفع الرّشوة، بل وفي بعض مصالح البريد خاصّة، يدفع بعض ضعاف النّفوس من المتعجّلين مبالغ مالية للموظّفين ليسحبوا لهم رواتبهم كلّ شهر حتى لا يضطروا للوقوف في الطوابير، وما يحصل في مصالح البريد يحصل مثله في مصالح الحالة المدنيّة والضّمان الاجتماعيّ وفي البنوك.. بل قد وصلت الرّشوة إلى المستشفيات، وأصبح بعض الممرّضين والموظّفين يتعمّدون تعطيل الأجهزة، وتوجيه المرضى إلى عيادات خاصّة يتعاملون مع مالكيها، كما ينحدر بعض الموظّفين في بعض المستشفيات إلى درك أخذ رشاوى من المرضى لحجز موعد مع طبيب مشهور في المستشفى أو تقديم موعد الكشف بالأشعّة.
... وقطاع الأشغال العمومية قطاع الأشغال العموميّة، لم يسلم بدوره من شيوع الرّشوة وانتشارها، بل إنّ الرّشوة في هذا القطاع عادة ما تكون من الوزن الثّقيل في حجمها وآثارها الكارثيّة؛ كيف لا والمقاول يقدّم الرّشوة للجهات المسؤولة لتمنح له المشاريع، ويدفع الرّشوة للمهندس عند معاينتها، ويدفعها مرّة ثالثة عند إمضاء الفاتورة واستلام المستحقّات، فلا يهمّ أن يكون المقاول كفؤا لإنجاز المشروع بمواصفاته وفي وقته، ولا يهمّ أن يكون المشروع بعد ذلك مطابقا للمعايير، المهمّ أن يدفع تحت الطّاولة ما يُرضي المسؤول والمراقب والمحاسب، ويزيد الطّين بلّة حينما يعمد هذا المقاول إلى الغشّ في نوعية الموادّ المستعملة في المشروع وفي كميتها، ليعوّض الأموال التي دفعها رشاوًى لهذا وذاك!، فلا غرابة بعد هذا حينما نرى عمارات تسقط على رؤوس ساكنيها، وطرقات تهترئ في العام الأوّل لاستلامها.
... وقطاع الجباية والضّرائب! عمّت الرّشوة أيضا قطاع الضّرائب والجباية، وأصبح كبار التّجار والمقاولين وأصحاب الأعمال، يتملّصون من دفع ما ترّتب عليهم من ضرائب برشوة بعض المسؤولين والموظّفين في إدارات الضّرائب، للتّلاعب بالأرقام، وتقليص المستحقّات إلى أدنى حدّ ممكن، وهو ما يكبّد الخزينة العموميّة خسائر هائلة كلّ عام.
المتعفّفون عن الرّشوة موجودون.. لكنّهم في تناقص! ليس كلّ النّاس يأخذون الرّشوة ويعطونها، فهناك في كلّ القطاعات أناس يتّقون الله جلّ وعلا، في القضاء والمحاكم وفي الأمن وفي مصالح الرّقابة وفي الإدارات والمصالح العامّة، لكنّ هؤلاء في تناقص مستمرّ أمام تزايد عدد من يستبيحون الرّشوة ويتفنّنون في أخذها أو إعطائها..
إنّها كبيرة من الكبائر وموبقة من الموبقات إنّ هذا الواقع الذين انقلبت معه الموازين وضاعت الحقوق ودفع الفقراء والمحرومون فاتورته الباهظة؛ هذا الواقع يتّجه بنا إلى الهاوية، بعد أن أوقعنا في سخط الله وغضبه، وجعلنا نحذو حذو اليهود الذين كانوا يتحايلون على الحرام، كما قال الله ((سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْت))، فباؤوا بلعنة الله وحاق بهم عقابه.. هذه المبرّرات الواهية التي يتذرّع بها الرّاشون والمرتشون، ليست ذرائع لاستباحة كبيرة من الكبائر تحيق بمقترفها اللّعنة؛ فالرّاشي والمرتشي ملعونان عند الله، فعند الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي"؛ تحيق بهما اللّعنة في الدّنيا، مع ما ينتظرهما من أليم العقاب يوم القيامة.. إنّه لولا تساهل المجتمع في إعطاء الرّشوة وتذرّع أفراده بالضّرورة، لما تكاثرت الأفواه التي تبلع والبطون التي لا تشبع.
ألا فلنتّق الله جلّ وعلا.. كفانا تهاونا وتساهلا.. كفانا ذرائع ومبرّرات.. إنّ الرّشوة هي الرّشوة ولو سمّاها البعض هدية، أو سمّوها قهوة، فكلّ ما يعطى من مال أو متاع لأجل إحقاق باطل أو إبطال حقّ، هو رشوة محرّمة.. فلنتّق الله، فإنّ الأجل محدود والرّزق مقسوم، ولن يموت الواحد منّا حتى يستوفي رزقه كاملا.. لنتّق الله جلّ وعلا، فإنّ قليلا مباركا في الحلال، خير من كثير ممحوق في الحرام.