يتزايد عدد مرضى السرطان يوميا في بلادنا، وتتزايد معه المعاناة في الحصول على فرص العلاج بالنسبة إلى أغلب سكان المناطق الداخلية وأهالي الجنوب، نظرا إلى انعدام المرافق وقلّة المختصين، ما يضطرهم إلى قطع آلاف الكيلومترات للتنقل للعاصمة، أين يصطدمون بانعدام مرافق تأويهم في ظل إمكانياتهم المحدودة التي لا تسمح لهم بالإقامة في الفنادق. وإزاء هذا الوضع الصعب فتحت العديد من العائلات الجزائرية والجمعيات الناشطة في مجال مساعدة المرضى بيوتها لاستقبال الوافدين من أماكن بعيدة ووفّرت لهم كافة احتياجاتهم المادية، كما سهلت عليهم تنقلاتهم إلى المستشفيات التي يعالجون فيها ليرسم هؤلاء صورة جميلة عن أروع أنواع التضامن في بلادنا. ومن بين تلك الصور ما تقوم به جمعية "نور الضحى" لمساعدة مرضى السرطان التي ترأسها قاسمي سامية والموجهة لكل مرضى السرطان رجالا ونساء وأطفالا.
"نور الضحى" حضن دافئ لإيواء المرضى وعن الفكرة تقول قاسمي "تأسست الجمعية بهدف إيجاد مأوى دافئ للمرضى القادمين من ولايات ومناطق بعيدة لتسهيل علاجهم وتواصلهم مع أطبائهم، لا سيما أن الأمر يتطلب وقتا طويلا وترددا مستمرا على المستشفيات". وتضيف المتحدثة "تأسست الجمعية في 26 سبتمبر 2002 داخل مركز بيار وماري كوري ونشطت به مدة 6 سنوات إلى أن أمرت تعليمة وزارية بإبعاد كافة الجمعيات من المستشفيات، حينها جاءت فكرة الدار التي تبرع أحد المحسنين في جانت بمبلغ إيجارها لسنوات معينة وكان مقرها في شارع ديدوش مراد قبل أن تنتقل الدار إلى حي بلكور في الطابق الأرضي وهي تستقبل المريض ومرافقه. وجاءت الفكرة من منطلق عمل رئيسة الجمعية كمساعدة تمريض حيث كانت تقف يوميا على حالات تأتي من الصحراء ولا تجد المبيت أو مكانا ترتاح فيه وأغلبهم مرضى لا يملكون الإمكانات المادية للتكفل بمصاريف الفندقة والنقل لذا فكرت رئيسة الجمعية في طريقة تساعدهم للعلاج براحة وطمأنينة، لاسيما أنّ هناك من يقطع 2800 كلمتر من الجنوب. واستفادت الدار من سيارة إسعاف قدّمها لها مخبر "روش" تنقل بها مرضاها إلى المستشفيات. واستعادت قاسمي سامية ظروف عمل الجمعية في سنوات التسعينات مع خطر الإرهاب وكيف كانت تستقبل مرضى في ساعات متأخرة في المطار.
15 متطوّعا و32 طبيبا لرعاية المرضى.. "الشروق" زارت الدار ودردشت مع بعض المرضى المقيمين فيه ووقفت على يومياتهم التي امتزج فيها الألم بالأمل. الدار مكونة من غرفة لإيواء النساء وغرفة أخرى لإيواء الرجال، بالإضافة إلى مطبخ وحمام ومكتب للإدارة ويناوب فيها يوميا طبيبان للسهر على أي حالات طارئة قد تحدث. دخلنا فوجدنا مرضى نائمين في أسرتهم بعد يوم أجهدوا فيه بين التحاليل والفحوصات وآخرين يراجعون مع أولادهم الدروس ويساعدونهم على حلّ التمارين، بينما فضل آخرون تناول فنجان قهوة أو تناول وجبة خفيفة قبل العشاء. اقتربنا من يونس بن عزوز، طفل في 12 من العمر من مغنية بولاية تلمسان كان رفقة والده بصدد حل تمارين في الحساب سألناه عن يومياته في الجمعية، فقال: إنها لا تختلف كثيرا عن أسرته ماعدا غياب أمه وإخوته. أمّا الوالد فأكّد لنا فقدانه عمله نظرا لتنقله المتكرر مع أولاده الأربعة المصابين بسرطان في الدم، وهو يتردد على جمعية نور الضحى منذ نحو 7 سنوات ووجد فيها يدا ممدودة مسحت عنه جزءا من همه وسهّلت له كثيرا من الإجراءات الإدارية التي ما كان ليقوم بها لوحده. أمّا نسيمة من تيارت فتقول إنها جاءت إلى الجمعية بعد أن سمعت بها من إحدى المريضات عنها رغم أنّ لها إخوة ذكورا، لكنها لا تريد إرهاقهم معها وتغييبهم عن عملهم في كل مرة، وتفضل أن تقود معركتها مع السرطان لوحدها.
جزائريون يطرقون المستشفيات ويعرضون خدماتهم على المرضى فتح جزائريون بيوتهم لبعض المرضى الوافدين من الصحراء أو الولايات الداخلية بعد أن لاحظوا مشقة تنقلهم في كل مرة، سيما أن جلسات العلاج والتحاليل تتطلب ترددا مستمرا على المؤسسة المعالجة. وتروي فتيحة من باب الوادي أنها تستقبل بعض المرضى من حين إلى آخر بحكم ترددها على بعض المصالح في مستشفى محمّد لمين دبّاغين "مايو" بعد استشارة أطبائهم وتثمينهم المبادرة. وتقول فتيحة إنها تسعى من خلال ذلك إلى التخفيف عن المريض وهي تستقبل في العادة النساء المرافقات لأطفالهن المرضى. وبخصوص موقف العائلة تؤكد فتيحة أن أهلها رحّبوا بالفكرة وشجّعوها على المواصلة. ولم يقف الأمر عند فتيحة بل انتقل إلى أحد جيرانها الذي اقتبس الفكرة منها ونفّذها في طبعتها "الذكورية".
أطباء يستنجدون بالعائلات والجمعيات لإيواء مرضاهم يستنجد بعض الأطباء المعالجين بجمعيات ومتطوّعين لإيواء المرضى المعالجين على مستوى مصالحهم نظرا لمحدودية أماكن الاستشفاء وقلة إمكانيات المريض في النزول في فندق. وتقول قاسمي "أستقبل الكثير من المكالمات الهاتفية من قبل بعض الأطباء للتكفل بإيواء حالات قدمت من ولايات بعيدة وتتطلب علاجها المكوث في العاصمة لوقت أطول". وتضيف السيدة ربيعة أنها تترك هاتفها لدى أطباء ثقة تعودوا على عملها الخيري الفردي داخل المستشفى للاتصال بها بالنسبة للحالات المستعجلة والتي تكون محل ثقة الأطباء وكفالتهم.
مرضى يفضلون الغريب على القريب ويرفضون مشاعر الشفقة... هم بسطاء ومعدمون أحيانا لكن كرامتهم هي رأسمالهم هؤلاء المرضى، وحسب ما أكدوه للشروق يرفضون منّ الأقارب ويرفضون إعلامهم بوجودهم لما رأوه من مساس بمشاعرهم وتفاخر أمّا الآخرون بحالاتهم". وفي هذا الصدد تقول زينب "أحيانا نجد الخير في الغريب ولا نجده في القريب.. لدي أقارب في العاصمة لكنني لا أخبرهم أبدا بوجودي للعلاج لأنني جرّبتهم سابقا وخذلوني". وتقاطعها مريضة أخرى قائلة "حتى وإن توجهنا إليهم فهم يستقبلوننا أياما معدودة ثم تنطلق بعدها الرسائل المشفرة بمحدودة إمكانياتهم وتعبهم من الغدو والرواح بين المستشفيات".
.. وآخرون يكتمون مرضهم عن أقاربهم أمّا نسيمة من عين الدفلى فتقول إن لها خالة في ولاية قريبة من العاصمة، لكنها لم تشأ الذهاب إليها لأنها ترفض إخبار الجميع بحالتها ماعدا والداها وإخوتها فهو أمر خاص لا يعني الآخرين، رافضة كل مشاعر الشفقة التي قد يحيطها بها هؤلاء، كما أنّ من بينهم من يتشفى ومن ينفر منها لمجرد سماعه بمرضها لما عايشته من مشاهد مع مرضى سابقين في العائلة. وحتى بعض الرجال يقول أحدهم إنّ العائلة خذلته بعد أن أقام لديها أياما معدودة ولم يتفهّموا طبيعة المرض وأعراضه، ما جعله يبحث عن إقامة في أماكن أخرى وينسحب بشكل غير مباشر.
عائلات تضع ثقتها في الجمعية وتسلّمها بناتها.. ليس سهلا أن تضع عائلة ما ثقتها في الغريب وتسلمه ابنتها الشابة أو زوجتها وابنها للإقامة لديها أياما، لكن السمعة الطيبة التي تحظى بها رئيسة جمعية نور الضحى والصرامة والانضباط المفروض في الدار جعل الجميع يرتاح لديها ويتردد عليها على مدار سنوات كاملة بلغت لدى البعض 10 سنوات كاملة. فتيات في العشرين من العمر وزوجات وحتى أمهات يقمن في الدار ويقضين فيها ليالي عديدة في رعاية ذويهن المرضى، وبهذا الخصوص تقول قاسمي سامية لم نسجل يوما أي تجاوز أو سوء تعامل من أحد فنحن نعيش أجواء عائلية حقيقية نتشارك فيها الأفراح والأحزان.
جنازات ومآتم في الدار يشاء القدر أن ينتقل بعض المرضى إلى جوار ربهم وهم في الدار أو في المستشفى، ونظرا لرغبة بعض العائلات يدفن المرضى في العاصمة ويشيّع جثمانهم من الدار التي آوتهم في آخر أيامهم. وعن هذا تقول السيدة قاسمي "كم هي أليمة تلك اللحظات.. لكن المسيرة تتطلب الاستمرار والمواصلة والصلابة". وتضيف "أحرص شخصيا على متابعة الحالة المتوفية وأقوم بكافة الإجراءات مع الفريق العامل معنا في الجمعية". وبشهادة الجيران ومتطوّعي الجمعية ورئيستها، فإن المأتم لا يقل في شيء عما كانت ستقوم به عائلة المتوفى وكل نفقاته من خير وتبرعات المحسنين الذين تتدفق مساعداتهم بمجرد سماع الخبر.