الحملة الشرسة التي خاضها روّاد مواقع التواصل الاجتماعي في الجزائر ضدّ مشاركة المسمّى "هواري منار" ضمن الفعاليات الغنائية المخلِّدة لعيد الثورة المجيدة، هي معركة نبيلة بكلّ المقاييس، تكشف عن وعي عميق بقيمة "الحدث الأهم" في مسيرة البلاد، ورمزيّته الحضارية والتاريخية والثقافية، في مقابل ما يمثّله المغنّي المرفوض من شذوذٍ اجتماعي وقيمي لا يتناغم إطلاقًا مع إطلالة الفاتح من نوفمبر، بعيدا عن سجالات الحلال والحرام. هبّة "اللّوبي الأزرق" وضعت السلطات العمومية المؤتمنة على شؤون الثقافة عند حدّها، بل أعادتها إلى جادّة الصواب، بعد ما كشفت سفاهة بعض المسؤولين ومدى استخفافهم بتاريخ الوطن ودماء الشهداء الأبرار، فضلاً عن تجاهلهم لمشاعر الجزائريين، وكأنهم في منظورهم قطيع هائم في فيافي اللهو والمجون، لا يضبطهم عقل ولا منطق ولا ذوق ولا انتماء! سقط الآن "هواري منار" من أجندة الحفلات المقرَّرة لإحياء ذكرى الثورة المظفّرة، لكن المعركة في رأينا ستبقى مفتوحة على جبهات أخرى كثيرة في هذا الاتجاه، لأنّ المشكلة ليست مقصورة على إدراج فلان أو إبعاد علّان من سهرة رقص، لكنها كامنة في تقصير وقصور عام، يشمل مسؤوليّة المؤسسات الرسميّة بالأساس، ثقافية كانت أو تعليمية أو جامعية، ثمّ دور الجمعيات المدنيّة في المجتمع، حيث تحوّلت تواريخ مفصليّة في تاريخنا الباسل إلى مواعيد ساخنة لهزّ البطون والأرداف في ليالي "الشطيح والرديح" على جماجم الأبطال والأحرار، ممّن قضوا لتعيش الجزائر حرّة وشعبها المغوار كريمًا فوق أرضه المفداة. ألم تصبح تلك المحطّات الحاسمة التي ألهمت وألهبت ثورات الشعوب في أرجاء المعمورة ضدّ الاستبداد والاستعمار مجرّد ومضات وملصقات إشهاريّة لناعقين يُنسَبون إلى الفنّ ظلما وعدوانًا في كثير من الأحايين؟ ألم تختزل وزارة الثقافة بهياكلها المختلفة أعيادنا المجيدة في مهازل فلكلوريّة، وربّما كانت موجّهة عن قصد للتنفيس عن الشباب المكبوت تحت وطأة الهموم اليوميّة، فغابت العبر والدرّوس التي يكتنزها موروثنا الروحي والقومي والحضاري، ليطفو العبث واللغو والزّبد، حتّى خارت قوى الشباب وسواعدُه، وأضحى ضعيف الهمم ومشلول العزائم في مواجهة الواقع، بينما تصدّى الآباء والأجداد لجبروت فرنسا الغاشمة ومن ورائها "النيتو" بكلّ عدَّته وعتاده! حتّى وزارة التربية التي عُهد إليها بتنشئة الأجيال على القيم الوطنّية، آثرت منذ سنوات التخلّي عن مسؤوليتها الخطيرة، واختارت أن يكون أول نوفمبر يومًا عاديًا، لا يذكره تلاميذها وهم يمرحون ويلعبون في عطلة الخريف، بعد ما كان في وقت سابق حفلاً سنويّا تتوق إليه النفوس وتشرئبّ إليه أفئدة البراءة، على وقع الأناشيد الثوريّة والمسرحيّات المزلزلة.. أمّا الاحتفاء بعيد الطالب في الجامعة الجزائرية، فإنّ الوفاء لأرواح أولئك العظماء الذين تركوا مقاعد الدراسة لأجل الجزائر يوم 19 ماي 1956، يوجب علينا التنديد بتشويه مهد العلم والمعرفة، في مفارقةٍ عجيبة، باسم الثورة! هذه الانحرافات وغيرها كثير، تفرض على "اللوبي الأزرق" إذن أن يواصل نضال الوعي لأجل الإصلاح والتغيير.