"ربي لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين".. دعاء نبي الله زكريا عليه السلام يردّده أزواج جزائريون كثر حرموا نعمة الأبوة والأمومة فتمسكوا بحبل الله واستعانوا بكل الوسائل العلمية والتقليدية والدينية، طرقوا باب الأطباء والعلاج الشعبي من مسد ودلك وطرقوا أيضا أبواب الأئمة والرقاة.. لكن بعد سنوات تملكهم اليأس فقرّروا قرع آخر باب وهو باب التلقيح الاصطناعي فكان لهم ما أرادوه بعد 20 عاما من الانتظار لترزق نساء في سنّ الخمسين بقرّة أعين تدب الحياة في بيوت "ميتة".. تحوّل العقم في بلادنا خلال السنوات الأخيرة إلى هاجس يطارد عديد الأزواج، سيما عقب تغير أطراف المعادلة وارتفاع نسبة العقم لدى الرجال، بعد أن استقر ارتفاعه لدى النساء خلال الفترات السابقة، وبلغة أرقام المختصين فإن الرجل مسؤول بنسبة 40 من المائة عن عدم الإنجاب فيما تصل نسبة المرأة إلى 30 من المائة والمسؤولية المشتركة إلى 30 من المائة أيضا. "الشروق" فتحت ملف العقم رغم حساسيته بالنسبة لهؤلاء واستقصت قصصا واقعية أقرب للخيال رفض أغلب أصحابها الإفصاح عن هويتهم، ملتزمين بخصوصيتهم الزوجية، حيث أكدوا أنهم يخفون الأمر حتى على أقرب المقربين منهم، فكانت لنا هذه الشهادات معهم. الانطلاقة مع الدكتور جندر فريد المختص في طب الإنجاب بعيادة بعين طاية ورئيس الجمعية الوطنية للمساعدة على الإنجاب، حيث استعرض معنا واقع العقم في بلادنا.
نصف الذين يعانون تأخر الإنجاب بحاجة إلى تقنيات اصطناعية أوضح المختص في طب الإنجاب جندر فريد أنّ 10 من المائة من الأزواج في الجزائر يعانون عقما ونصفهم أي 5 من المائة منهم يحتاجون إلى التقنيات الاصطناعية للإنجاب. وأضاف المختص أنه كلما كان التدخل في سنّ مبكرة بالنسبة للمرأة كلما كانت الفرص مواتية ومناسبة أكثر. ونصح أنه بعد عام من الزواج إذا لم يكن هناك أولاد وكانت الحياة الزوجية عادية ينصح بمراجعة الطبيب المختص والأفضل أن يبدأ الزوج بالفحص لأنه أسهل من المرأة وبعد ذلك يأتي دور المرأة، غير أنّ الواقع يثبت بأن الرجال لا يتابعون بنفس الدّقة والانضباط واللهفة مثل المرأة وأحيانا يحسّون بأن المسألة انتقاص لفحولتهم فيرفضونها. وبخصوص نسبة النجاح يقول المتحدث إنها تبلغ في المرحلة الأولى 42 من المائة بينما ترتفع في المرحلة الثانية إلى 65 من المائة وتصل في المرحلة الثالثة إلى 83 من المائة، ففي المرة الأولى يكون بطانة الرحم مهيجة بالأدوية التي تتناولها المعنية مسبقا وهو ما يحدث رفض الرحم للبويضة الملقحة لكن الأمر يقل في المرحلتين التاليتين.
أطفال التلقيح الاصطناعي.. السرّ الذي يخفيه الأزواج يخفي أغلبية الأزواج الذين يعانون عقما أو تأخرا في الإنجاب خضوعهم لتقنية المساعدة على الإنجاب، حتى على أقرب المقربين إليهم بحسب ما أكده الطبيب جندر، فغالبا ما يحتفظ الزوجان بسرية الأمر بينهما.. البعض تحت غطاء "العين" والبعض الآخر تجنبا للإحراج وكشف الخصوصيات. وبلغ الأمر بهؤلاء، حسب ما كشف عنه المتحدث، إلى درجة رفض الولادة في هذا النوع من العيادات التي تتوفر على قاعة خاصة مجهزة بأحدث التجهيزات وهذا بسبب اكتشاف الأهل للأمر عند زيارتهم بعد الولادة. واسترجع المختص أوّل عملية تلقيح ناجحة قام بها في ديسمبر 2011 وكانت لسيدة في 93 من العمر بعد 7 سنوات من العقم حيث تابعت في العيادة، لكنها رفضت الولادة في عيادته لأنها معروفة بالتلقيح الاصطناعي وسيكتشف الأهل أمرها عند حضورهم لزيارتها، وهو ما كانت ترفضه تماما. واستطرد محدثنا قائلا "أطلب من النساء في عيادتي تشجيع البقية عندما تكون المرأة حاملا لكنها ترفض وهو ما جعلني أقول في كل مرة لمريضاتي إنني لا أتابع الحوامل إلا اللواتي يحملن بعد تدخل في العيادة".
زوجات يحملن بعد عقم دام 20 عاما... هي حالات قليلة لكنها موجودة لتمنح الأمل في الحياة لبقية الأزواج.. سيدات وأزواج انتظروا 20 عاما ولم يتخلوا عن بعضهم راجين رحمة الله فكان الفرج بأن رزقوا أولادا بعد تدخلات الأطباء بالتقنيات الاصطناعية. ومن هؤلاء السيدة "سمية.م" من غليزان قرّرت بعد 20 عاما من عدم الإنجاب اللجوء إلى عيادة خاصة وتجريب حظّها ومن الصدف الجميلة أن النّجاح كان من المرحلة الأولى ورزقت طفلة تبلغ حاليا عاما ونصف عام. أمّا "حورية.ز" من حي باب الواد فقد عانت من العقم على مدار 19 عاما كاملا من زواجها، حيث تقول "لم أترك عجوزا تدلّك أو تمسد إلا قصدتها حتى أنني ذهبت إلى أقصى الشرق الجزائري في تبسة لأجل هذا الغرض لكنني لم أوفق" ولحسن الحظ تقول المتحدثة أنها تزوجت صغيرة في السن 18 عاما بعد توقفها عن الدراسة فلجأت إلى التلقيح كآخر حلّ وهي في سن ال 37 من العمر. وتضيف "حاولت مرتين وفي الثالثة نجحت ورزقت الآن بطفلين توأمين يملآن حياتنا". وقال جندر إنّ النساء اللواتي بلغن سنّا متقدمة ينصح لهن في مثل هذه الحالات بالولادات القيصرية المبرمجة لتفادي أي مضاعفات أو تعقيدات، بينما يمكن للصغيرات سنا الولادة العادية.
وأخريات ينجبن في سنّ الخمسين.. سيّدة أخرى من ولاية البويرة أنجبت طفلها في سن السابعة والأربعين بعد أكثر من 10 سنوات زواج، حيث انتظرت مدة طويلة جالت فيها وصالت عبر كامل المصالح لتستسلم في الأخير لتقنية التلقيح الاصطناعي التي لطالما حاول إقناعها بها الأطباء، غير أنها بقيت تؤجل وتؤجل إلى أن فقدت الأمل في حدوث المعجزة. أمّا "فاطمة.ع" من القليعة غرب العاصمة فقد أنجبت مولودها في سن ال 49 بمستشفى زرالدة بعد أن انتظرت لتقرّر في الوقت بدل الضائع الاستنجاد بالتلقيح الاصطناعي وهو يستعد لإطفاء شمعته الأولى قريبا.
انتظار سنوات يكلّل بالتوائم.. وكما أن المصائب لا تأتي فرادى، فإن الأفراح والبشائر أيضا لا تأتي فرادى، حيث يبتهج كثير من الأزواج بقدوم توائم بعد طول انتظار، فتتحوّل دموع الحسرة إلى دموع فرحة وابتهاج. "الحسن والحسين" توأم رزق به والداه على كبر في ولاية البليدة بعد انتظار 9 سنوات كاملة، حيث اكتشفت الأم أنّها حامل بتوأم في شهرها الثالث بعد خضوعها للحقن المجهري وهو ما جعلها تطير فرحا. والتزمت الوالدة بمتابعة وفحوصات دقيقة ومنتظمة كما أنها برمجت ولادة قيصرية خوفا من أي مكروه يصيب طفليها اللذين يبلغان 7 سنوات من العمر حاليا ويدرسان في السنة الثانية. وكشفت الأم عن نيتها في إجراء تلقيح آخر لإنجاب بنت إن كتب الله ذلك. نفس التجربة تقريبا عاشتها زينب من ولاية الشلف، حيث رزقت ببنتين "قمر وسمر" في عامهما الثالث وتقول الأم إنه بحسب تفسير طبيبها فإن المنشطات الهرمونية التي تناولتها هي التي أنتجت لها هذا النوع من الحمل. وتؤكد المعنية أنّها عانت من العقم مدة 11 عاما فخلفها الله ببنتين وتأمل أن يرزقها الله شقيقا لهما يكون سندهما في الحياة، سيما وأنها تحتفظ ببويضاتها مجمّدة على مستوى العيادة الخاصة التي أجرت لها العملية.
أطفال أنابيب من الجيل الثالث... استطاع بعض الأزواج تحقيق حلمهم في إنجاب أوّل طفل لهم لكنهم لم يتوقفوا عند الرقم الأول بل أعادوا الكرة مرة ومرتين وهم يرعون حاليا 3 أطفال كلهم من نتاج التلقيحات الاصطناعية والبويضات المجمّدة بعد سنوات طويلة من الانتظار. ويؤكد جندر فريد أنّ "بعض الأزواج الذين مروا عليه استطاعوا إنجاب 3 أطفال منذ العام 2012 بفضل تجميد بويضاتهم الملقحة ومنهم من أنجب توأما ومنهم من ينسى بويضاته في المخبر حتى أننا يقول المختص "نتصل بهم لإخبارهم فيسرون ويعيدون المحاولة ومنهم من لدية 11 بويضة مجمّدة يفضل الاحتفاظ بها". ويؤكد المختص أنّ البويضات المجمّدة قابلة للصلاحية مدة 15 عاما كاملة يسدد تكاليفها المعني وقدّرها ب 20 ألف دج شهريا وهي تكاليف قد يراها البعض باهظة لكنها في الحقيقة تغطي فقط التقنيات المستعملة.
40 من المائة من النساء يقبلن على التلقيح بعد سنّ الأربعين.. وحسب جندر فريد فإن 40 من المائة من النساء يقبلن على هذه التقنية بعد سنّ ال 40 عاما، أملا منهن في إمكانية حدوث الحمل الطبيعي لكن عندما تتضاءل الفرص يسارعن نحو هذه التقنيات وكثيرات من النساء اللواتي يقصدنه في سن 43 و44. وحسب المعني فإن الأمر راجع أيضا إلى تكاليف العملية التي لا تعوضها مصالح التأمين الاجتماعي حيث تصل معدلها إلى 230 ألف دج، منها 100 ألف خاصة بالأدوية وهي معوّضة غير أن البقية غير معوّضة وهو ما طالب المختص بمراجعته واعتبار العقم من الأمراض المزمنة، حيث رفعت الجمعية في مؤتمرها الأخير توصيات وطلبات لوزير الصحة قصد أخذ الأمر بعين الاعتبار وتمكين الأزواج من فرصة وحيدة على الأقل وعدم حرمانهم نعمة الأولاد، سيما الفقراء والبسطاء الذين لا يتحمّلون هذا العبء المادي، مطلب أبدى وزير الصحة حسبلاوي استجابته السريعة له وإدراجه في القوانين اللاحقة في انتظار تقنينه فعليا.