كان عليّ أن أنتظر أكثر من ستة أشهر لأكتب هذا المقال الخاص بالعلاقة بين المثقفين والدبلوماسيين الجزائريين في دولة الإمارات العربيّة المتّحدة، ذلك لأن شهادتي وقتها قد تعتبر ذات دوافع ذاتية ومصلحة خاصة، وإن تعذّر الفصل بين ماهو خاص وماهو عام، لهذا تفاديت الخوض في هذا الموضوع، وتناوله اليوم يأتي من كون كل المعطيات المتوفرة والوقائع ذات الصّلة بتلك العلاقة تتطلب اهتماما ومساهمة منّا نحن المثقفين لإعادة ترتيب علاقتنا بالدولة الجزائرية من خلال قيادتها الدبلوماسية في الخارج.. * أعرف أن هناك سوء علاقة وتوتر وخلافات غير مبررة أحيانا، وقعت خلال السنوات الماضية - خاصة سنوات الدّم - بين المهاجرين من كل الطبقات والفئات، وبين بعض ممثلي الدولة الجزائرية في دول العالم من سفراء وقناصلة وملحقين عسكريين وأمنيين وإعلاميين.. إلخ.. فقد تصرّف هؤلاء في الغالب بدوافع أمنيّة نظرا لما تطلبته حال الجزائر ذلك الوقت، أكثر مما اعتمدوا الأسلوب الدبلوماسي في التعامل، حتّى أن بعضهم لم يفرق بين قوة السّلطة وسلطة القوة، وبين خدمة الجزائر من خلال أهلها في الخارج وعلاقتها بالدول الأخرى، وبين مصالحه الذاتية. * المهم نحن اليوم - وقد ذكرت هذا في مقالات سابقة ننطلق نحو علاقة جديدة، بين الدبلوماسيين وممثلي الدولة الجزائرية الرسميين في الخارج وبين المواطنين - المغتربين - من خلال الدخول في شراكة ثقافيّة، وما يظهر منها في الوطن حاضرا وفاعلا ومؤثرا، ليس فقط عبر انجازاته الراهنة، ولكن أيضا من خلال استحضار التاريخ، بعيدا عن طغيان المناسبة أو التعامل مع الأحداث بالعرض الفلكلوري.. إنه يحضر وبقوة من خلال أحداثه ليتحول إلى قيم ثقافية، وإلى شكل من العلاقة بين الأجيال، ونحن مدينون في كل هذا إلى نساء ورجال سيماهم في أعمالهم، يسعون بجدّية لتحقيق أهداف، تتجاوز الجانب الرسمي أو الحسابات المنفعية. * وبعيدا عن التحليل السياسي لما نراه من سلوك حضاري متميز - دبلوماسيا وثقافيا - من السفير حميد شبيرة، والقنصل العام كمال رزقي، فإن النشاط الثقافي للجزائر في الإمارات آخذ في التبلور، وان اعتماد قنصلية لبلادنا في دبي كان خطوة في الطريق الصحيح تبعث على التفاؤل لجهة توسيع مجال النشاط المنتظر للجزائريين في مختلف المجالات. * لأبيّن هذه المسألة - أقصد هنا مدّ جسور بين الدولة الجزائرية وأبنائها - في المجال الثقافي تحديدا، أذكر هنا وقائع محددة، ولنبدأها من شهر مارس الماضي، فعلى هامش معرض أبوظبي للكتاب وعشيّة اليوم الجزائري في ذلك المعرض جمع سفير الجزائر في مقر إقامته في أبوظبي نخبة من أصحاب دور النشر والكتاب والمثقفين والإعلاميين الجزائريين، احتفالا بالمشاركة وبالإنجازات التي تحققت، وبعدها بأيام قليلة التقى مع ممثلي الجالية، وكرّم أصغر كاتب عربي الطفل الجزائري لؤي خالد، وبعدها بأسابيع احتفى بنجوم في الرياضة، وكان واضحا من كل ذلك أن اجتهاد الدبلوماسين اعتمد هنا على رؤية خاصة، يفهم منها أن سفارتنا في أبوظبي وقتصليتنا في دبي بيتان لكللّ الجزائريين، خاصة النخبة المثقفة. * وفي شهر أفريل الماضي حضرت ندوة في مركز جمعه الماجد بدبي - ذلك الصرح المعرفي الخاص - حول عيد العلم في الجزائر، قدمتها المهندسة الجزائرية "هدى داسة" وشارك فيه الدكتور أنيس صبري رئيس شعبة الإعلام بالمركز، والدكتور عز الدين بن زغيبه ممثلا لمركز جمعة الماجد، والكاتب محمد حسين طلبي، الذي ألقى محاضرة حول عيد العلم، ومدرسة ابن باديس، كما شارك فيها أيضا الكاتب الطّفل لؤي خالد، الذي تم تكريمه من طرف قنصليتنا في دبي بحضور كل من محمد بوطريق وزير مفوّض مكلّف بالشّؤون الثّقافية والإعلاميّة، والهادي مشري نائب القنصل العام في دبي، كما كرّم أيضا من مركز جمه الماجد. * كنا شارك في تلك الندوة - حضورا ومساهمة - جيل جديد من المثقفين يشير بوعي جديد يتجاوز حدود الرسمي إلى ما هو عام ووطني، برز ذلك جليا في نشاط الصحفيات "آسل بادي"، "فتحية شواط"، "ليلى قيري"، كما كان للعمل الإعلامي في جانبه المرئي، تأثير على المشهد الثقافي العام في تلك الندوة، حيث قدم الإعلامي طارق بوساحه، فيلمين تسجيلين أو بالأحرى شريطين وثائقيين الأول حول عبد الحميد بن باديس والحركة الوطنية والتاريخ الجزائري بشكل عام، وقد كان من إعداده وإخراجه وتقديم الصحفية حرية ميسوم، والثاني حول الكاتب الصغير لؤي خالد، ناهيك عن حضور جمع من الأطفال، ساهموا في الندوة من خلال إنشادهم قصائد عبد الحميد بن باديس، وبذلك أعطوا صورة جميلة عن الجزائر مستقبلا، إضافة إلى حضور بعض الصحفيين منهم الصغير سلام، وعدد من أعضاء الجالية، ومسعود توام نائب القنصل في دبي. * عودتي للتذكير بهذا الموضوع بعد شهور من وقوعه كحدث ثقافي سببها ذلك التواصل الظاهر بين الأجيال، إذ أثار انتباهي ما يقوم به الكتب محمد حسين طلبي، الذي يعمل جاهدا من أجل الكشف عن صورة الجزائر الثقافية، كتابة ومشاركة، حتى أنه ساهم بتنشيط ندوة حول المبدع الرّاحل الطاهر وطار في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في الشارقة، وكان المساهم الأبرز فيها. * وفي الأسبوع الماضي تنقل إلى أبوظي، وألقى محاضرة حول الثورة الجزائرية للأطفال وللشباب الأقل من18عاما، ليرسّخ فيهم قيم الثورة، وبالرغم من أنها خاصة بالشباب، فقد كان للكبار حضور فيها، كما عرضت صور بطولات الشعب الجزائري ومعاناته. * محاضرة طالبي افادتنا نحن الكبار أيضا، وبالنسبة لي، فقد أضافت إلى رصيدي المعرفي معلومات جديدة، منها تلك الخاصة بالمجاهدة جميلة أبو باشا، حيث شاهدنا صورة لها رسمها الفنان العالمي بيكاسو، وهذا ما يؤكد البعد الإنساي لثورتنا وأهميتها. * نحن إذن نتّجه نحو تشكيل وعي جديد بأهمية الثقافة في حياتنا.. صحيح أن هذا لا يزال عملا فرديا واجتهادا محدودا، وليس عملا مؤسسيا، لكن بالتأكيد يشي بتطور في المستقبل المنظور، بالرغم من أن توظيفه السياسي أمر وارد، لكن العبرة بالنتيجة. * مهما يكن فإن التفاؤل يحرّكنا جميعا، ويشبع فينا رغبة الأمل، فليست حياتنا في شقها الثقافي سوداوية كما يطرح البعض، بل إنها تتجه نحو اعتراف بمساهمة الجزائريين عربيا - في الثقافة، وما الحضور المكثف للمثقفين العرب في احتفال سفارتنا بالذكرى 56 للثورة الجزائرية في أبوظبي، إلا دليل على ذلك مع اعترافي بوجود قراءات أخرى لما ذكرت. * هناك جسور تمتد بين الدولة الجزائرية ومثقفيها في الخارج - وأنا هنا أتحدّث عن تجارتنا في الإمارات حاليا يلعب فيها الدبلوماسيون دورا بارزا، وعلينا أن نثمّن هذا الدور وندعمه، بغض النظر عن انتماءاتنا ومواقفنا مع قضايا تخص دولتنا في المجال السياسي، فد نكون نحن المثقفين غير راضين عنها، لكننا في النهاية - وأكرر هذا دائما - لسنا حزبا سياسيا معارضا.. إننا الوجه النيّر للدولة الذي يفترض أن يظل مشرقا حتى عندما يعم البلاد ظلام السياسيين أوالإداريين، فنحن أصغر بكثير من الدولة الجزائرية، وأكثر شوقا لقيم ثورتنا، لكننا أكبر من كل الذين يحاولون ارجاعنا إلى الوراء سواء كانوا قادة أو أتباعا، وباختصار علينا ان نذكر المواقف النبيلة في ظل رفضنا المطلق لأنفسنا ولآخرين من القيام بدور الإمعة. *