بقلم:عزالدين مصطفى جلولي أستاذ جامعي Djellouli73@hotmail.com ينجذب الناس في العالمين العربي والإسلامي بدافع من الفطرة السليمة إلى ما يدور في لبنان من حرب طاحنة معلنة، هدفها اجتثاث البعد المقاوم ممن جاور فلسطينالمحتلة، كي يتمكن الكيان الإسرائيلي من بسط سيطرته على منطقة المشرق الإسلامي بداية، وإخضاع باقي المنطقة لهيمنته انتهاء، تحقيقا للمشروع الشرق أوسطي الكبير، الذي أشرف على إخراجه التحالف الصهيو-أمريكي، والجزائر إحدى أهم نقاط استهدافه، وليست بمنأى عما يحدث بالتأكيد. وما الحرب المفتوحة على لبنان سوى فصلا من فصول ذلك المشروع، بعدما تم احتلال أفغانستان والعراق، وإعادة خلط الأوراق داخل الأراضي المحتلة في فلسطين، لتطول، أخيرا وليس آخرا، المقاومة في لبنان ممثلة في حزب الله، كل ذلك يتم في إطار فوضى »خلاقة«، كما يقول المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية، تمهيدا لإعادة ترتيب المنطقة وفق أجندة معدة سلفا، وموافق على تنفيذها من قبل من بيده القرار في الإدارتين الأمريكية والصهيونية، وبعض المتعاملين من الحاكمين وأصحاب النفوذ في هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف. هذه هي الصورة الحقيقية لخلفية ما يحدث من حروب في منطقتنا، لا بد منها للإضاءة على ما يدفع سنّة لبنان إلى الانكفاء عن مقاومة المحتل الصهيوني، ويدعوهم إلى ترك المجال للشيعة وحدهم للقيام بهذا الواجب المشرّف، رغم أنهم كانوا في الصف الأول من تاريخ الصراع بين الأمة الإسلامية والدولة العبرية. وليس خافيا على أحد أن المقاومة الفلسطينية أيام إقامتها في لبنان كانت ذات لون سنّي، وأن حركة » المرابطون« كانت ناصرية بامتياز، وأن السنّة كانوا قلب لبنان النابض في قضايا الأمة الساخنة، إلى زمن ليس ببعيد، يؤرخ بالاجتياح الإسرائيلي لبيروت في 1982م، سنة إخراج القوات الفلسطينية من لبنان، وهو عام كانت فيه نار الحرب العراقية الإيرانية مستعرة في الخليج، تلك الحرب التي كان من أهم أهدافها إضعاف قوتين عظيمتين كي لا تكونان سندا للفلسطينيين في صراعهم مع الصهاينة. من هنا نفهم كيف نشأ حزب الله وترعرع، في فراغ سنّي واضح داخل لبنان، وبروز لافت للشيعة في الخليج خاصة بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران... لم يجد السنّة بعد إبعاد الفلسطينيين من لبنان غير السعودية، وقد كان رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري أداتها المثلى، التي بها استطاعت أن تكسب ولاءات كثير من اللبنانيين، كيلا أقول الميليشيات المتقاتلة في حرب لبنان الأهلية، هذا البلد الصغير بحجمه وطاقته، الكبير بدوره ومركزه (فمساحته لا تتعدى مساحة ولاية وسطى من ولايات الجزائر الكثيرة)؛ فوجدته المملكة السعودية بعد اتفاق الطائف لقمة سائغة ازدردتها بكل سهولة، وعملت على مد نفوذها في مفاصله، وغدت إبان سنوات رئاسة الحريري للوزارات المتعاقبة لاعبا مهما في سياسة هذه الدويلة، لا يبرم دونها رأي، ولا يبت دونها أمر، وإن كانت تتقاسم وسورية النفوذ والولاءات؛ فاستثمرت المملكة أكثر ما استثمرت في الإعمار لما لها من قدرات مالية هائلة، وتولت سورية تنسيق المواقف السياسة الخارجية مع الحكومات اللبنانية بل فرضها عليها، واحتضنت حزب الله والمقاومة دعما لموقفها التفاوضي مع دولة الكيان... وهكذا كان الأمر حتى وضع مشروع ترتيب المنطقة قيد التطبيق الفعلي، فصغرت مشاريع هذه الدول دونه وتخاصمت وكاد كل واحد منها للآخر، فوقع الحريري ضحية هذه الهرج والمرج، ودخلت لبنان دوامة الفوضى » المنظمة«، ووجد السنة أنفسهم حبيسي القرار السعودي المراهن دوما على حسن العلاقة مع الولاياتالمتحدة والغرب، وكانت منذ أن أغرقت المؤسسات السنية في لبنان بالمال السياسي تعمل على لجم هذه القوة الشعبية الأولى في لبنان، لتترك المجال للشيعة، الذين وجدوا في حمل البندقية الأمل في فرض وجودهم، والمخرج من التهميش التاريخي الذي تعرضوا له في جبل عامل، فقادهم الإمام موسى الصدر إلى الصدر الأمامي من المجتمع، ووجدوا في إيران خير داعم لمشروعهم، وفي معاداة الصهاينة وشعار التحرير أكبر مروج لفكرهم، وإن كان المرء يكبر فيهم الإخلاص لمذهبهم وحرصهم على التضحية الفداء دونه. لكن الذي ينكر عليهم هو استئثارهم بالسلاح وشرف المقاومة دون غيرهم، وألفوا في مصلحة سورية معهم أيام وجودها في لبنان أحسن فرصة لهم، وحالوا دون المقاومة ودون من يريد أن يشاركهم فيها، ولم يسمحوا لأحد بالانضواء تحت راياتهم بحجة أنهم يقاتلون بعقيدة شيعية وولاؤهم الأول للسيد الخامنئي، وهو عين ما يعاملون به فصيلا كبيرا من حزب الله يخضع لتقليد مراجع شيعية أخرى غير الخامنئي كالسيد محمد حسين فضل الله، فمثل هؤلاء لا يمكنهم الوصول إلى مراتب عليا في قيادة الحزب. إقتنع السنّة في لبنان بأن هذا اللون من المقاومين المدعومين دوليا لا يمكن مشاركتهم القتال، فانكفأ أكثرهم إلى دنياهم التي أفسدت عقولهم وأخلاقهم، وبقي قليلون يترقبون الفرصة السانحة لمعاودة الالتحاق بالجبهة الجنوبية من جديد. وكأن الأقدار شاءت أن تعاقب السنّة على انغماسهم في المال السعودي، وترغم أنوفهم في ذل المهانة والتبعية لهؤلاء، فتكبّلت أدوار مؤسسات قيادية كبرى كدار الفتوى مثلا، وهي القيادة الروحية الأولى في لبنان الرسمي، ليخضع مفتي الجمهورية لإملاءات الحريري، لأنه وجلّ مفتي المناطق ومشايخ السنة يتقاضون رواتب من المملكة العربية أو من أحد رجالاتها في البلد، وأصبحت فتاويهم سلطانية يتذمّر منها الناس ولا يجدون عنها بديلا، إلا عند علماء الشيعة وهم ليسوا معهم على ما يرام، لاختلاف العقائد، ولانغلاق اللبنانيين بطبعهم الطائفي على أنفسهم، وإن كان هواهم هوى مقاوم، وتراهم يكادون يحسدون الشيعة على ما آتاهم الله من فضله.