عندما سقط جدار برلين، في نوفمبر 1989، تضمن ذلك السقوط رمزا عالي الدلالة على نهاية الحرب الباردة، وبلوغ الاتحاد السوفياتي من الضعف، وهوان الشأن، حدا لم يعد معه أحد في الدنيا يتوقع له شيئا آخر غير الانهيار الوشيك! والنهاية المحتومة. وكذلك كان الأمر.. إذ ما لبث هذا الكيان الذي كان يحفظ توازن العالم، بوصفه أحد العملاقين الأعظمين فيه، أن أفل نجمُه بسرعة مذهلة؛ وبدا لكل الناس عاريا بلا غطاء، في هيئة المتفرج الذليل، وهو يرى أقوى وأهم حلفائه في المشرق العربي، النظام العراقي، (بقطع النظر عن أخطائه الفادحة..) تُنكل به القوة الأمريكية الطاغية، وتتخذ منه عبرة للعالم الثالث قاطبة، وبلاغا محتواه الصريح هو، من كان يعوّل على حماية الاتحاد السوفياتي، فإن الاتحاد السوفياتي قد مات، وأنه لم تعد بعد اليوم من حماية مضمونة إلا لمن أواه جناح أمريكا، واحتسى بمظلتها من حرّ الصيف ومطر الشتاء. ولكن عليه، في مقابل ذلك، أن يرتهن لديها إرادته، وسيادة بلده، جملة وتفصيلا! * وهكذا دخل العالم في رحاب ما بدأ يُسمى منذئذ "النظام العالمي الجديد"! وهي التسمية التي أخذت وكالات الهيمنة العالمية تروّج لها، في أجواء خلوّ الساحة لقطب واحد شرع يُعربد فيها كما تشاء له غرائز نشوة النصر الذي جاء فجأة، ونزوات وضع مستجد، لم يعد يُخشى فيه أيّ ردّ فعل من ذلك المنافس الوحيد، والغريم العتيد، الذي ذبح من الوريد إلى الوريد.. وقد زيّن الغرور المتنامي للعملاق المبتهج بموت توأمه اللدود، أنه يستطيع إذن أن يفعل كل ما يخطر له على بال. وقد انتقد كثير من المراقبين للعلاقات الدولية، والعاكفين على رصد نوعية التطورات التي ستسود عالم القطبية المنفردة، انتقدوا تسميتها بالنظام العالمي الجديد، فسخروا منها، وسموها مُتهكمين منها "الفوضى العالمية الجديدة". ولئن آلت بالفعل إلى فوضى جديدة عارمة، كانت بلدان العالم الإسلامي، والعربي، أهم مسارحها المأساوية، ومازالت أخرى في سجل اللاحقين.. فإنها عند الفاعلين لها، القاطفين لثمارها، نظام يتعاطونه بتخطيط ومنهجية لا تكاد تخفى إلا على الذين لا يبصرون! ولقد يُعدّ من صروف الزمان، أن الجزائر التي كانت، في سبعينيات القرن الماضي، من رواد المسيرة المطالبة بإقامة "نظام اقتصادي عالمي جديد"، وأنها هي التي ذهب رئيسها، هواري بومدين، في إبريل 1974، إلى الأممالمتحدة، مبشّرا بعهد جديد، مروجا لمطلبه المتعلق بضرورة إقامة ذلك النظام، وألقى في جمعيتها العامة المنعقدة، بطلب منه، خطابه الشهير الذي استنكر فيه، باسم العالم الثالث، خضوع الحياة الاقتصادية العالمية ل"نظام جائر، بال، تجاوزه الزمن، مثل النظام الاستعماري الذي يستمد منه أصوله ومضمونه.." إن هذه الجزائر الرائدة، هي التي لم يعد يبدو منها حراك، ولا يصدر عنها أدنى رد فعل لمواجهة هذا النظام العالمي الجديد الظالم، المعتدي، الذي تصورته، وصاغته، وتسهر على تطبيقه بكل صرامة وعنف، مؤسسات الهيمنة العالمية، المُصرّة على حكم العالم بصفة منفردة، وبفلسفة أنانية مداها الأساسي منافع أمريكا، وحدودها الدنيا مصالح الكيان الإسرائيلي الذي لا تحكم تصرفاته شِرْعَة، ولا يردع عدوانه المستديم قانون.. فإذا تنازلت "حكومة العالم" عن بعض الأدوار في مخططاتها لعدد من حلفائها المطيعين في أوروبا، لم تذهب أريحيتها إلى أبعد من تكليفها بالمهمات السافلة التي تؤديها تحت مظلة الحلف الأطلسي. ذلك أن القارة العجوز قد خلت من زعمائها العظام، رجال الصف الأول الذين كانوا حلفاء فاعلين، ولكن لهم أفكارهم، ولهم رأيهم في مصالح بلدانهم التي لا يقدر أحد على تعديها. ولكن أوربا اليوم لم يعد يملأ أغلب ساحاتها السياسية إلا ممثلون من الدرجة الثانية.. كما خلت ساحات الوطن العربي، وحتى ساحات العالم الثالث، إلا ما ندر، من أولئك العظام الذين استحدثوا تلك المنظمة العملاقة، حركة عدم الانحياز، طيبة الذكر، التي فرضت للمستضعفين في الأرض موقعا مشرّفا في العلاقات الدولية، كما ناصرت ورافقت حركات التحرّر الوطني في صعودها المظفر إلى تحقيق غايات شعوبها المكافحة في سبيل صنع الحرية والاستقلال.. ولكنها اليوم عقدها منفرط، وصفوفها شتّى، وشتى مواقعُها؛ منها من طواه الفناء فزال من الوجود، ومنها من يقاوم منفردا تيارا جارفا لا قبل لأحد بمنازلته وحده كيفما كانت إرادة المقاومة لديه، ومنها من استسلم للواقع السائد دون إعلان، ورضي بالهامش لا يبرح الخمول فيه، ولا يقوم بأية حركة تنبئ بأنه يسعى للخروج منه. ولئن كان هذا المشهد الأخير يمثل واقع بعض البلدان التي كان من ثوابت سياستها على الدوام الوقوف الانتهازي في مفترق الطرق، لتظهر في صورة كل موكب عابر للطريق كيفما كانت وجهته؛ فإن الجزائر قد أهلتها ثورتها العظيمة، وتضحيتها القصوى لتكون في مقدمة ركب الإنسانية المناضلة، الرافضة للهيمنة والتسلط المستنهضة لهمم الأمم والدول لمقاومة البغي والعدوان، حيثما ظهر لهما طيف أو خيال. وكان ذلك قدرا لها، ودورا خاطته لها عزيمتها على مقاسها، فأدته بكل حكمة، وكفاية، واقتدار.. وكان الذي يسر النهوض بهذا الدور، منذ بداية الاستقلال (وكيفما كانت طبيعة مشاكلنا الداخلية، ومواقفنا من الحكام الذين تناوبوا على الحكم في كل مرحلة من تلك المراحل)، عاملان اثنان في غاية الأهمية: - أولهما داخلي، يتمثل في سلطة سياسية واضحة التوجه، معروفة الانتماء، صريحة الالتزام بتراث الثورة التحريرية في مجالات العلاقات الدولية، تامة الانحياز إلى الشعوب المناضلة في سبيل إحقاق حقوقها في الحرية والسيادة والحياة الكريمة. وهي تجاهر بذلك، ولا تُخفي منه شيئا. وتتخذه مقياسا صارما تضبط على معالمه توجهات سياستها الخارجية. - وثانيهما خارجي، يتمثل في جهاز دبلوماسي قدير، بالغ التأثير في محيطه، تنشطه، في الغالب الأعم، إطارات كاملة التأهيل السياسي، متابعة بكل دقة للتطورات الكونية، مستوعبة لأهم مضامين الدور العالمي الذي تحرص الجزائر على القيام به تجسيدا لمبادئ ثورتها، وتحقيقا لطموحات شعب رشحه نضاله الطويل، وانتصاره التاريخي، ورصيده الضخم من الاحترام العالمي... لتبوّء ممثليه مكانة مرموقة ضمن الكبار الذين يقودون كفاح العالم الثالث. وكان حضور الجزائر مُميّزا في كل مكان، ولاسيما في الوطن العربي والقارة الإفريقية، وكان صوتها المجلجل على المنابر مثارا للتقدير والإعجاب. وكانت عبارة واحدة، كقول من قال: "لا تركب الجزائر أبدا القطار وهو سائر!"، تستطيع إبطال مشروع حاكه أصحابه في الخفاء على حدودها، وتلخّص بمفردها قوة الجزائر الناعمة. ثم تحوّلت الأحوال. وتتابعت النوائب والملمات. وساد العنف والإرهاب، ولم يعد يُسمع لبلادنا صوت. واشتاقت المنابر الأممية، فضلا عن العربية والإفريقية، إلى المواقف الجزائرية. وتساءل الأقارب والأباعد، مشفقين أو متشفّين، ولكن بصدق حائرين، أين الجزائر؟ ماذا وقع للجزائر؟.. وداخلت سوسة الفساد من كل نوع المناصب التمثيلية في الخارج، دبلوماسية كانت أو غير دبلوماسية، ومال معظمها إلى الحزبية والفئوية والجهوية والمحسوبية و"البزنسية".. في أبشع صورها. ولم تعد في كثير من تمثيلياتنا لا مصالح الوطن، ولا مصالح المواطنين، هي ذات الشأن والأولوية. وزُلزلت الدنيا ونحن غارقون في أوحالنا. وكان همّنا الوحيد، في الداخل والخارج، هو تفنيد أطروحة "من يقتل من؟". وبذل الجهود المضنية لإقناع من لا يمنحوننا آذانا مُصغية لنقنعهم بأن "حوادث الجزائر" ليست حربا أهلية.. وبدأت توابع الزلزال تتردد هزاتها المتتالية في العالم الإسلامي. ثم ازدادت قربا منا فاهتزت الأرض في العراق على وقع الاحتلال الأمريكي، بعد حصار طويل. والجزائر لا تعبّر عن موقف بيّن، ولا تبدي رأيا صريحا. أين منها موقفها الأول عند غزو الجيش العراقي للكويت، حين أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية، بيانا تاريخيا كان في منتهى القوة والصراحة، في اليوم التالي للغزو مباشرة، وكانت بذلك أول دولة في العالم تتخذ ذلك الموقف الأصيل الذي ملخصه، لا لغزو الكويت! لا للحرب بين الأشقاء مهما تكن الخلافات فيما بينهم! ولابد من الانسحاب بلا شرط! وفي نفس الوقت، لا لتدمير العراق وقوته التي ينبغي أن تُدخّر للدفاع عن قضايا العرب!.. ووقع العدوان الصهيوني على لبنان، ولم يكن موقف الجزائر بالقوة التي ألفناها نحن، وتعودها الناس منا. ووقع الاعتداء على الشعب الفلسطيني في غزة، وفعل الكيان الإسرائيلي فيها الأفاعيل. ولم تكن المواقف الرسمية في مستوى الغضب الشعبي. بل لقد قُمعت التظاهرات المستنكرة لذلك العدوان بكل شدة. وفي إفريقيا، وهي جوارنا اللصيق، ومدانا الاستراتيجي، وامتدادنا الجنوبي العميق، وفيها تخومنا الساحلية، وأمننا القارّي.. بقينا منذ أكثر من عشرية ونحن لا نسمع عنها إلا اجتماعا هنا، ولقاء هناك، في إطار "شراكة جديدة" مبهمة المعالم، هُلامية المحتوى، لم يستبن للناس منها، في أيّ من البلدان الإفريقية المعنية بها، مردود فعلي يمكن أن يقال عنه هذا منتوج لهذه الشراكة.. وفي إفريقيا الحرب والجوع والمرض.. وفيها منهل لا ينضب لنهب الناهبين، وعبث العابثين من المحليين، وقدماء المستعمرين.. ولقياس تراجع تأثيرنا في القارة التي ظلت عقودا طويلة في غاية التوافق والانسجام مع مواقفنا في كل الساحات، يكفينا النظر إلى عدد الدول التي غيّرت موقفها من جبهة البوليزاريو والجمهورية العربية الصحراوية.. وحدثت ظاهرة الربيع العربي التي أدخلت عنصرا جديدا في الفضاء القومي ظلت تحلم به أجيال من شعراء الأمة وكتابها ومن فيها من المحللين والدارسين.. ولكن لم يتوقعه أحد بهذه الصيغة الحيوية، وهذا الأسلوب الجماهيري.. وبدا للجزائريين كما لو كان هذا الربيع يحاول اقتحام أرضهم ليزرع فيها بذور الأنوار التونسية، أو الأزهار المصرية، ولكنه يفضل النزول في الديار الليبية بين وعيد الحاكمين، الأب والبنين؛ ووعود الصقور الأطلسية بميلاد الربيع ولو بالعملية القيصرية.. وهكذا تميد الأرض تحت أقدامنا، وتهدر طائرات الناتو فوق رؤوسنا، وتهب عواصف الحرب على جيراننا، وتضحي الشعوب بالآلاف من أبنائها لتنحية حكام مستبدين يهددون شعوبهم بالويل والثبور لأنهم يطالبونهم بالرحيل.. كل هذا والجزائر لا هي في العير ولا في النفير. وكأن الذي يقع عند رأسها من أزيز الطائرات، وهدير الدبابات، والدماء التي تسيل، والبكاء والعويل.. مجرّد مناظر خيالية، أو مشاهد في تمثيلية. وكانت مواقف بعض المسؤولين مما يجري في ليبيا بالغة السوء تنم عن استخفاف عجيب بأمور في غاية الخطورة، وجهل تام بمؤشرات وضع لم يعد ذا بصيرة يشكل لحظة واحدة في نهايته الحتمية. وكانت النتيجة ما عانته مقراتنا الدبلوماسية، وبعض مواطنينا هناك من تصرفات انتقامية، ما كان يخطر على بال عاقل أنه يمكن أن تكون هي كل حصة الجزائر من الثورة الليبية. واليوم، وما يقع في البلاد الشامية ليس مجرّد مظاهرات يقمعها الحاكم المستبد بكل عنف وشدة. ولم يعد الصراع هنالك على مقدار ما يسمح به الحاكم المتسلط من الإصلاحات، هل هو كاف أم لابد له من المزيد؟.. والواقع أنه لم يعد إلا السذّج يؤمنون بأن الصخب الذي يملأ اليوم أروقة الجامعة العربية المتعودة على سلبيتها الأسطورية، وعجزها المزمن إزاء مجمل المحن العربية، إنما مبعثه هذا التعاطف المباغت مع المدنيين السوريين، وهذا الحرص الطارئ المفاجئ لأمراء الخليج على الحريات الديمقراطية في الربوع السورية!.. ومنذ متى صارت واحات النفط والغاز تصدّر حقوق الإنسان، وتستثمر في الحريات الديمقراطية؟؟.. أين كانوا، وأين كانت جامعتهم أيام المآسي العربية الكبرى من فلسطين الشهيدة، إلى العراق المحاصر، إلى لبنان المفجّر بالقنابل العنقودية واليورانيوم المُنضّب، إلى غزة الشهيدة المحترقة أرضها وسماؤها بالكيماويات المحرمة؟؟.. إن هذه لمأساة! وفي الأفق خريطة جديدة/ قديمة يُستكمل رسمها! .. والمأساة المقابلة لها هي أن تسكت الجزائر عنها، وأن توافق عليها، وأن تكون عضوا سلبيا مهادنا قابلا بالمشاركة فيها، وتزكية قراراتها. فيا لذلك الوجه المنكر البشع الذي صارت تظهر به الجزائر في مجالس كانت فيها النجم الساطع، والضوء اللامع، وضمير الأمة المتوقّد الذي لا يجامل ولا يصانع! ولكنها اليوم كالنهر المتجمد الذي قال فيه ميخائيل نعيمة، يا نهر هل نضبت مياهك فانقطعت عن الخرير أم هل هرمت وخار عزمك فانثنيت عن المسير بالأمس كنت تسير لا تخشى الموانع في الطريق واليوم قد هبطت عليك سكينة اللحد العميق..