لا تزال الكثير من السلبيات تطبع سلوكيات العديد من الأفراد، الذين يعانون نقصا رهيبا في التواصل مع الآخرين حتى وإن تعلق الأمر بفلذات أكبادهم، وما يدعوا للعجب حقا، أن هؤلاء الآباء متعلمون وحاصلون على أعلى درجات العلمية، ويحملون الكثير من الأفكار النيرة حتى في مجال التربية الحديثة، لكن كل ما تعلموه ويلقنونه للناس، يبقى للأسف مجرد كلام موجه للاستهلاك فقط، فسلوكياتهم مع أقرب الناس إليهم تخالف ما يحملونه من أفكار. آباء يشغلون مراكز مرموقة ومناصب المحترمة، لكن مشاعر الأبوة لديهم غائبة، وتترجمها يوميا سلوكيات مشينة تهدم الأبناء أكثر مما تبني، وكثيرا ما كان أبناء المثقفين وأصحاب المراكز الاجتماعية المرموقة محسودين على طول الخط، لأنهم قد ينالون ما قد يتعذر على غيرهم نيله، فهم محظوظون جدا، لأنهم سيغترفون لا محالة من المكاسب الكبيرة التي جناها أوليائهم وسيكونون أول من يجني ثمار هذه العقول النيرة، فعلى الأقل سيحظون بتربية سليمة وعناية فائقة، ومعاملة مثالية، فمكسبهم يتعدى ما هو مادي إلى ما لا يقدر بثمن، لكن مؤخرا ومع الشرخ الكبير الذي أصاب الكثير من المفاهيم، لم تعد هذه المكاسب قاعدة أبدا، عندما تعيش حكايات أبطالها من نخبة المجتمع، تعري تصرفاتهم واقعا مأساويا يندى له الجبين ولا يحسه إلا ضحايا من نوع خاص جدا، حكايات أبطالها أباء وأبناء لكن ليست أبدا حكايات مشاعر سامية أو عطاء متبادل، حكايات ترويها أمهات يتألمن في كثير من الأحيان في صمت، لحال فلذات أكبادهن، خاصة وأن الجلاد ببساطة هو الزوج والأب، حكايات لا تصلح أبدا لتكون سيناريوا لمسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي، لأن الطبيعة البشرية السليمة ترفضها وتشمئز منها، فيكفي أن يكون بطل القصة والجلاد فيها، دكتور أو أستاذ جامعي توج بشهادته من انكلترا، قاموسه اللغوي مع أبنائه ثري جدا بمختلف الكلمات النابية والخادشة للحياء، أو المهندس الذي لا يجيد إلا لغة العضلات أو حتى المحامي المتدين، الذي يرافع مطولا خارج المحكمة، لصالح الضرب الذي يعتبره من الوسائل المجدية، لتقويم السلوك وتهذيب الطباع. سب وشتم وحتى تجويع في حق البراءة هو واحد من الإطارات الجزائرية، المشهود لها بالكفاءة والموهبة والذين أنجبتهم الجامعة الجزائرية، بعد نيله شهادة الماجستير و حصوله على منحة دراسة، قرر السفر لإحدى الجامعات الأوروبية، لمواصلة دراسته ونيل شهادة الدكتوراه، لكنه قرر قبل السفر وإذعانا لرغبة والدته، الزواج من ابنة عمه التي ستهتم بشؤون أمه في غيابه، تمر السنوات سريعا ليعود الدكتور للاستقرار ببلاده، ولأنه يجيد فن الكلام ودكتور حتى في المفردات المنمقة والتعابير الحلوة، فقد كان من السهل عليه إيقاع النساء اللواتي لا يجدن مقاومة اللفظ الساحر، فتزوج بدل المرة الواحدة 3 مرات وظل الرقم 3 يرافقه حتى في الأولاد، فالله رزقه من كل زيجة 3 أبناء، لكن من المفارقات التي لا يستوعبها العقل أن هذا الدكتور الذي يحبه الناس وتقع النساء سريعا تحت تأثير سحره، هو بالبيت إنسان آخر تماما، خاصة مع أولاده والويل لزوجته إن تدخلت، فهو كما يقول دائما، يريد تربيتهم وفق ما شاهده وراء البحار، لكن ما تعلمه هناك وأراد إسقاطه على أبنائه هنا، لا يتعدى كما تقول إحدى زوجاته السابقات، بعض العادات الخاصة بمواعيد الأكل والانتظام في النوم أو النظافة، أما ما يتعلق بالاتصال اللغوي، فمن يسمع مصطلحاته، كما تضيف، يقف مذهولا لا يدري من أين استقاها ولا من أين استشفها، فلا يعقل أبدا، أن تعيش بشخصيتين على درجة كبيرة من التناقض وما يحز في نفسها، أن جفاء معاملته جعلت جميع أبنائه ينفرون منه والأخطر أن من أبنائه من غرست به طباعه، وليت الأمر توقف عند المفردات النابية التي تخدش الحياء، بل وصل به الأمر إلى تجويع أبنائه بحجة التقيد بمواعيد الأكل، لتضيف متحسرة، إنه يوم تقدم لخطبتها كم أفرحها الارتباط بدكتور، أكيد سيزرع بأبنائه خصاله ويقتدون بما وصل إليه من درجات عليا في العلم، لكن بعد معاشرته تبخر كل شيء، فأبناؤها صاروا يحقدون عليه كثيرا، خاصة أنه شحيح لا يخرج الدينار من جيبه إلا بعشرات المحاضرات وما يدعوا فعلا للاستغراب، حسبها، أن معاملته إنسانية مع الجميع إلا مع أبنائه وحتى نقطة الخلاف الجوهرية مع زوجاته، أساسها الأولاد، فكل أم ترفض أن يعامل أبناؤها معاملة وحشية لا يقدم عليها حتى زوج الأم، تؤكد أنه لو عاد بها لزمن إلى الوراء، لفضلت الارتباط برجل حنون لا يزرع عقدا نفسية بأبنائه حتى وإن كان بطالا، على الارتباط بدكتور على الورق فقط. لغة العنف ولا بديل عنها هو نموذج نادر من الآباء، لا يبخل على أبنائه الخمسة بشيء من متطلباتهم، خاصة وأن الله وهبه من نعمه الشيء الكثير، لكن أهم شيء يحتاجه أبناؤه ولا يجدونه عند غيره ولا تعوضهم عليه كل كنوز الدنيا، لم يجدوه عنده، مزاجي جدا وعصبي كثيرا، عندما تتملكه مشاعر الغضب لا يتحكم في تصرفاته ووحدها عضلاته تتكلم، لا حوار ولا نقاش وكل ما يقوله صواب، لأنه لن يتردد مطلقا في الرد عليك بعنف، فهو لا يجيد غيرها وبما أن زوجته تفهم طباعه كثيرا وأصبحت تحفظ عن ظهر قلب ما يجب أن يكون وكيف تمتص غضبه، فإنها تنعم نسبيا بالأمان الذي لا ينغصه إلا ما يصدر منه اتجاه أبنائهما، فهم لم يتذوقوا أبدا حنانه أو عطفه أو مشاعر أبوته، فما تذوقوه يقتصر على اللكمات والركلات والصراخ، ولعل ما ألحقه بابنه البكر الذي أفقده بصره يبقى خير برهان على وحشية أب لم تردعه مشاعر الأبوة عن التنكيل بفلذات أكباده، فحتى وإن كان الخطأ تافها، فالعقاب يكون عسيرا جدا، يتحدث ابنه البكر خالد بكثير من المرارة على حال أبيه وكيف أفقده بصره، لمجرد أنه وجده يلعب مع أحد أبناء الجيران الذي طلب منه الابتعاد عنه والمقزز في الأمر أنه يتباهى بصنيعه ويهدد باقي إخوته إن لم يسمعوا الكلام فسيلقون مصيره، وإلى اليوم ما زال يضربه رغم أنه تجاوز العشرين من عمره وطالب بالجامعة، فعلى ما يبدو، كما يضيف أن طبيعة مهنته، أثرت كثيرا عليه، فهو لا يعاملنا بتاتا على أساس أننا كائنات بشرية، فيديه ورجليه لا تعرفان أبدا الرحمة، فحتى أميمه ذات 11 سنة لم يرحمها وكثيرا ما يضربها ولو استمر الوضع على حالة، فسيلحق بها الضرر مستقبلا لا محالة، خاصة وأن جسدها النحيل لا يقوى على تحمل قبضته الفولاذية، والغريب أنه لا يجد أي عذر أو حجة لتصرفات والده المجنونة التي تجعله يشعر بالغيرة كلما رأى أبا يغدق بعطفه وحنانه على أولاده وحتى العيشة الرغدة التي يوفرها لهم ما فائدتها إن كانت في أجواء كهذه، فأهون عليه لو أن الله منحه أبا حنونا حتى وإن كان فقيرا أو حتى أميا، المهم ألا يبخل على أبنائه بالمشاعر التي فطره الله عليها، خاصة وأن ما يعيشه انعكس بالسلب على شخصيته، التي أصبحت مهتزة كثيرا فهو لا يستطيع حتى أن يتحدث مع والده بشكل طبيعي، فالخوف يتملكه وجسده يرتعش لا إراديا ولا يقوى على التفوه بأي عبارة، وحتى لا تسوء الأمور أكثر، يفكر جديا في زيارة طبيب نفسي عله يساعده في تجاوز محنته والتعايش مع ظروفه الصعبة وفكرة زيارة الطبيب النفسي لم تلد من العدم، فهو فعلا أصبح يخاف من الانفجار وإن يثور يوما ما في وجه والده ويحدث ما لا تحمد عقباه، لان بداخله بركان قد ينفجر في أي لحظة. الضرب المبرح..فلسفة بعض الآباء لتربية أبنائهم هو إنسان ملتزم بشهادة الجميع، يحفظ كتاب الله ويحرص على إقامة حدوده في كل شيء، حتى في عمله يرفض تولى أي قضية يساوره الشك للحظة أن صاحبها غير بريء، فهو لا يريد له ولأسرته إلا لقمة الحلال، حريص على أن يلقن أبناءه الخصال الحميدة والأخلاق الرفيعة ولو بالضرب المبرح، فهو لا يتسامح مطلقا مع أبسط الأخطاء، التزامه وتدينه يجعله محترما من طرف الجميع إلا مع أبنائه ليس كرها فيهم بل هو الحب، لكنه من نوع خاص، فهو يريدهم أن يكونوا من خيرة الشباب، لذا يرفض أي خطأ مهما كان حجمه، فكل الأخطاء الكبيرة، تبدأ بأخطاء صغيرة ولا بد من أسلوب الردع المادي لا الردع المعنوي حتى لا يتكرر الخطأ، سياسة الوالد هذه وحبه الخاص لم يهضمها أطفاله، فهم يشتكون من جفائه، سياسة تؤكد الأم أنها لن تثمر، لأنها أصبحت تؤدي إلى أخطاء أكبر، فخوفا من والدهم، أصبحوا يكذبون كثيرا هربا من العقاب القاسي ورغم أنها نبهته كثيرا لمخاطر فلسفته هذه، خاصة وأنها طبيبة نفسانية، إلا أنه يرفض الإصغاء إليها، فقناعته تؤكد أنه بالضرب وحده تستقيم الأمور، فلسفة يسعى بكل ما أوتى من قوة لتصديرها لغيره وحثهم على العمل بها. عندما تتمرد مشاعر الأبوة تسقط الكثير من المفاهيم التي لا ينفع معها،لا العلم الغزير ولا المال الوفير، ففي غياب التواصل السليم تصبح الحياة الأسرية جحيما يدفع الأطفال وحدهم ثمنه، لأن حنان الأب لا يباع ولا يشترى ولا تعوضه كنوز الدنيا ورغم أن كل نظريات التربية الحديثة، تؤكد أن العنف يهدم أكثر مما يبني، إلا أن بعض الآباء، رغم أنهم مثقفين لا زالوا يؤمنون بوسائل أكل عليها الدهر وشرب، قد تصنع قنابل موقوتة، فالإنسان دون عقل يحكمه وقلب يلين مواقفه قادر على فعل أي شيء، فهم آباء لكن مع وقف التنفيذ، رغم أنهم مثقفون وعلى قدر كبير من الوعي. فاطمة الزهراء حمادي