لماذا أضع كتب "بن هدوقة" و"رشيد بوجدرة" و"أحلام مستغانمي" و"الأعرج واسيني" إلى جنب القرآن الكريم.!..؟.. هل كل ما كتب هؤلاء يستحق هذا التهويل..؟.. 1 هيا نقرأ الفقرة الأولى من رواية «مدار السرطان» لهنري ميللر، سنجد أن بها 21 كلمة منها: "قطن، فيلابورغيز، ذرة، غبار، مكان، كرسي، وحيدون، أموات".. ومنها أيضا (في، لا، أي، غير، نحن، هنا)، وهي أحرف وأسماء إشارة وما إلى ذلك من أدوات الربط. ويوجد فعل واحد هو "توجد" وعدد واحد هو "واحدة"؛ "لا توجد ذرة واحدة من الغبار". وهكذا تكون الفقرة قد انتهت بعبارة "وحيدون نحن هنا وأموات". عندما نواصل في الفقرة الثانية سنجد ألفاظا من هذا القبيل "شَعْر، قمل، إبط، حكّ، قص" واسم شخصية هي «بوريس»... سيشتمّ أحد النبيهين رائحة خدعة فيعطي ملاحظة أولية: "أنت تتحدث عن أكثر الروايات بذاءة وقذارة". فأرد على الفور: "إنه هنري ميللر يا رجل، واحد من أعظم رواد (فن النثر) في العالم". انتبهوا لعبارة (فن النثر)، ألا توحي بأنني أتكلم عن نثر من نوع خاص !!؟؟ نثر به شعرية، ولكنه ليس شعرا، به شعرية (خاصة)، لهذا فهو نثر من نوع خاص. يا الله، ها إنني أقول كلاما غامضا وشديد الإحكام، فلماذا تنفون عني صفة الناقد!؟.. أمركم عجيب..!!.. حسنا.. دعونا ندخل مكتبتي الخاصة، ونختار رواية أخرى اختيارا عشوائيا. لا يغرنّكم هذا التعبير (مكتبتي الخاصة)، فهي ليست من خشب السنديان الأبيض ولا من الألمنيوم، إنها اسم أحد الملفات في جهاز الكومبيوتر الخاص بي. أتمنى ألا تكون رواية «نادجا» لأندريه بروتون، فهي من أسخف ما قرأت، أو لنقلْ إنني لم أقرأ إلا عشر صفحات منها فهي من النوع الذي لا يشدّ أمثالي من القرّاء الأعزاء لمواصلة قراءتها.. أو.. في الواقع ربما يكون هذا بسبب الترجمة المحتمل أنها رديئة. حتى إنني لا أدري إذا ما كانت «نادجا» رواية أو هي مجرد شيء آخر. إنه أسلوب تلهية جيد فبينما كنتم تقرؤون الأسطر السابقة، قمت أنا بعملية اختيار عشوائي وكانت النتيجة بكل نزاهة؛ "عطش الحب" للياباني «يوكيو ميشيما». لن نقوم بإحصاء عدد الكلمات وترتيبها في جدول، بل نكتفي باستخراج عينات من أسطر الفقرتين الأوليين في الرواية؛(..ايتسو، مخزن، هانكيو، جورب، صوف، أزرق، كستناء، لون، متانة... محطة، قطار، طريق، منزل، قدح، شاي، طعام...".. أليس كل هذا من صميم الحياة..!؟.. أنا لست فنانا ولست مثقفا يقول الروائي الفرنسي "جان ماري غوستاف لوكليزيو": ".. إن الكادرات والهندسات مصدر إلهام لي. لكن عقلي وبصيرتي هما في الزحام، في الفوضى، في غابة الحياة الكثيفة المبهمة، حيث نحيا". المثقفون مثل الزوجات النموذجيات تماما، المؤدبات جدا، الجادات في حياتهن؛ (مقر العمل، المطبخ، غرفة النوم...).. إنهن يعطين انطباعا لأزواجهن بأن الحياة يجب أن تمارس "بلا هوادة" فلا مجال لتلك التعابير غير المتوقعة: "حبيبتي أريد أن أراك وأنت تبولين"، "يا للهول.. إنك لأحمق.. لا تقلْ هذا.. قلْ مثلا؛ أريد أن أراك وأنت تبتسمين إلى الأبد".. وهكذا تكون زوجا مثاليا. المثقفون أيضا لا يتوقعون أن تقول لهم "إن السيمفونية السابعة لبتهوفن لا تعني لي شيئا، وأن موسيقي " ادوها عليا البوليسية "للشاب "مامي" أفضل منها ألف مرة"، وأن ابتسامة «الموناليزا» عادية ولا أسرار فيها أو خلفها، بل إنها قبيحة جدا.. إن فمها يشبه فتحة شرج. المثقفون يرفعون شعارا غبيا مفاده؛ "الإنسان في خدمة الفن". أنا لست فنانا ولست مثقفا لأنني أرفض توقيع ذلك التعهد المعنوي، باحترام الأطر العامة للفن والحقائق التي لا جدال فيها. أنا أقدس الإنسان ولن أؤدي اليمين الدستورية للحصول على فرصة سطوع نجمي في جنة السيرك؛ (أقسم بأوثان الفن والفلسفة والأدب، أن أحترم شكسبير وأنفذ جميع وصاياه، وأقدس بيتهوفن وأبكي عند سماع مقطوعاته، وأن أسخر من زوجتي لمجرد أنها لا ترى شيئا من الفن في لوحة «غرنيكا»، وأن أعبد أدونيس ولا أحيد عن جمالياته، وأن أطرد أولادي من البيت لأنهم لا يفهمون لماذا أضع كتب "بن هدوقة" و"رشيد بوجدرة" و"أحلام مستغانمي" و"الأعرج واسيني" إلى جنب القرآن الكريم.!..؟.. هل كل ما كتب هؤلاء يستحق هذا التهويل..؟.. تحضرني الآن قصائد كتبها «الطيب لسلوس» وقصص ونصوص لا يمكن تصنيفها، كتبها «فارس كبيش» وأجدني مبهورا بما كتبا، أي "الطيب" و"فارس"، لماذا لا يكونان كاتبين مرموقين..!..؟.. لماذا لا أجد إبداعهما حيثما وليت وجهي كما أجد إبداع هؤلاء الكبار..!..؟.. بكاء مستمر وحنين جارف حسنا.. ما رأيكم أن نعود إلى اللعبة السابقة ونختار عشوائيا أحد الكتاب الجزائريين الواردة أسماؤهم أعلاه.. ليس أعلاه كثيرا.. بعد فاصل نعود لنقول: "هه.. وقع اختيارنا على واسيني الأعرج".. بكل نزاهة طبعا، ودون الحاجة لحضور محضر قضائي. واسيني الأعرج روائي جزائري ولد في 8 أوت 1954 بقرية سيدي بوجنان (تلمسان)، ينحدر من عائلة أندلسية (موريسكية) أُجبرت على مغادرة الأندلس في القرن السادس عشر. ولهذا فلا غرابة أن تبدو نصوص الأعرج للوهلة الأولى بكاء مستمرا وحنينا جارفا إلى أندلسه الضائعة. إنه لا يستند على بياض من حيث الفكرة والموقف، فلديه معلْم مفتعل يبعد عنه أربعة قرون، يضيء الطريق أمامه ويهديه كالبوصلة إلى الهدف الصحيح، وهذا ما يعطي الانطباع لدينا بوجود وحدة موضوعية في كامل كتاباته. إن روايات واسيني تبرر موقفه من الراهن من خلال ارتكازها على الحقائق التاريخية، فهي ليست كأعمال "أمين معلوف" الروائية تتحرك في أجواء تاريخية لتقرأ الراهن وتدفع إلى المشاركة في إعادة صياغة معطياته. إن واسيني الأعرج أكثر الكتاب الجزائريين فهما لمشروعه الإيديولوجي، وأكثرهم تمكنا من شحن أعماله بمضامين ذات جدوى، كما أنه بارع في وضع البناء الهيكلي والاشتغال على الأزمنة المتغيرة، والأمكنة المنزاحة. إنني لا أتذكر الآن تلك المصطلحات الغامضة التي يرددها النقاد عادة ليقنعونا أن هذا العمل أو ذاك بالغ الخطورة وأن علينا قراءته، لكنهم في الغالب لا يفسرون أفكارهم بطريقة مفهومة للجميع.. اللغة الشعرية.. ماذا عن اللغة؟.. عن الكلمات والفواصل المرسومة على الورق الأبيض؟.. ماذا عن حرارة العبارات؟.. عن الخيال، عن الذكاء في قراءة التفاصيل والأحداث؟.. عن الجهد الفني الذي يعطي القيمة الحقيقية لكل عمل أدبي؟.. ماذا عن الحكي، عن الإدهاش... عن تلك الشعرية الخاصة التي تجدد نفس العمل وروحه..؟ قد يكون ما قيل من وجهة النظر الأكاديمية عن الأعرج أمرا صحيحا، لكن السؤال: "ماذا سيتغير لدينا عندما نقرأ روايته؟ هل نشعر أننا خرجنا من حالة متعة ونتمنى أن نعود إليها ثانية؟ هل نجد أنفسنا نقرأ بنهم ونكاد نقفز على الأسطر لنعرف ما سيحدث لاحقا في الرواية؟".. يقول أحدهم إن أهم ما في روايات واسيني هي اللغة الشعرية. والواقع أن عبارة اللغة الشعرية لا تبدو مفهومة لدي، بعض الناس يقولون عبارات مثل: "نعومة يديك تخاطب قلبي المتيم بك وتخاطب كلماتي الأسيرة" ويعتقدون أن في هذا شعرا، والواقع أنه ليس شعرا كما أنه ليس نثرا فنيا، إنه كلام لا ضرر من وجوده فقط. الرواية لا تحتاج للشعر أبدا بل تحتاج للغة ذات شعرية خاصة. "من أنا الآن بعد كل هذا العناء"، أول عبارة في "أنثى السراب". "دفنت دنيا زاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ.." أول عبارة في "رمل الماية". "في البدء كان اللون، وكانت الزرقة، في البدء كان البحر، ثم الفضاء، فالهواء، وكان الذهول والدهشة". أولى عبارات "المخطوطة الشرقية". "كان اسمها فتنة. نهايات ديسمبر. منذ عشرين سنة بالضبط كانت هنا، على حافة هذا الرمل المنسي، قبل أن تنطفيء بين موجات بحر الشمال. ما الذي أيقظها الآن وأنا على عتبة التلاشي؟". أولى عبارات "شرفات بحر الشمال". "شيء ما تكسر في هذه المدينة بعد أن سقط من علو شاهق. لست أدري....". "سيدة المقام". "الجزائر، أيتها المعشوقة... هاهي ذي الجملة الاسمية الصغيرة الضائعة التي تنقصني للخروج من دائرة البياض". "حارسة الظلال". تتويه وإيهام.. أمامنا أولى العبارات في ستة أعمال روائية للكاتب الأعرج واسيني. هيا نبحث عن العامل المشترك بين كل هذه العبارات.. في العبارة الأولى سؤال "من أنا؟" وهو سؤال يوحي بحالة ضياع شديدة وإحساس بالعدمية. في العبارة الثانية "باتجاه الفراغ" وهي حالة ضياع أخرى، أي عدمية من نوع آخر. في العبارة الثالثة "الذهول والدهشة" وهما لفظتان قد تنتجان عن سؤال من أنا وقد تفضيان إلى ضياع من نوع خاص. في العبارة الرابعة "وأنا على عتبة التلاشي"، وهو ضياع آخر وعدمية مفرطة. في العبارة الخامسة، "لست أدري..."، وهي عبارة توحي بغياب الوجهة وإحساس بالضياع أيضا. في العبارة السادسة "دائرة البياض".. وهكذا... بياض، فراغ وأسئلة عدمية. دعنا نركز على العبارة السادسة في الرواية السادسة سنجد واسيني يقول:" هاهي ذي الجملة الاسمية الصغيرة الضائعة التي تنقصني للخروج من دائرة البياض". حسنا لقد وجد المنفذ للبدء في تشغيل الآلة الكاتبة الصدئة، إنه يبحث عن كلمة أولى ليبدأ بملء عشرات الأوراق وبعد أشهر تولد رواية. إنني لا أفهم كيف كتب كل هذه الهكتارات من الكلمات ليقول لنا كل شيء، ولا يقول لنا في آخر شيئا. ثم يأتي نقاد ليتحدثوا عن الشعرية. هل الشعرية في عبارة كهذه "عسل الجشع اللذيذ الذي شوه أغلب سكان المدينة"، إنه يتحدث عن الفساد، والعبارة لا تحتمل هذا القدر من التتويه والإيهام، بحيث يمر عليها القارئ دون الانتباه لمضمونها. إنها تشبه العبارة سالفة الذكر"نعومة يديك تخاطب قلبي المتيم بك وتخاطب كلماتي الأسيرة". لو قمنا برقن كتابات واسيني ومعالجتها حاسوبيا لاكتشفنا أنه كتب نصا من ورقة مزدوجة، (دوبل فاي)، وقام بإعادة صياغته في أشكال متعددة، مستعينا بتلك اللغة الوردية الحالمة المقطوعة عن شجرة الواقع، وكذا شجرة الفن والفكر والمعرفة. "حزين لدرجة المرارة لأن رجلا ممحونا بهذه المدينة"/ حارسة الظلال. "يجب أن تعرفوا أني منهك ومنتهك وحزين ومتوحد إلى درجة الكآبة"./ سيدة المقام. إن واسيني يقول إنه حزين ويخبرنا عن سبب حزنه، كل هذا في سطر واحد، ورغم ذلك يكتب مئتي صفحة في كل رواية، ليكرر التعابير ذاتها في أغلب رواياته. مع تلك اللمسة الوردية دائما. 2 تعالوا لنكتب: «دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ»... ونطلب من التلاميذ إعادة صياغة هذه العبارة بشكل مختلف لكن بالنسق ذاته؛ وذلك بطرح أسئلة تدريبية. - ماذا دفنت دنيازاد يا أولاد؟.. يجيب تلميذ نبيه: «دفنت حبات السمسم». لقد استبدل الابتسامات بحبات السمسم. - أين دفنتها؟.. يجيبنا: «دفنتها في جيبها». حسنا.. هيا نواصل: - «ثم باتجاه ماذا انسحبت دنيازاد».. ستكون إجابة التلميذ النبيه على الأرجح: «باتجاه السّهل». هكذا يكون تلميذنا قد شكل العبارة التالية المعادلة للعبارة الأولى نسقيا: «دفنت دنيازاد آخر حبات السمسم في جيبها ثم انسحبت باتجاه السّهل». فرضية.. لنفترضْ أننا قررنا مبدئيا أن نفتتح بهذه العبارة نصا روائيا من 422 صفحة. لكننا ارتأينا قبل ذلك أن نقوم بتعديلها وتنقيحها لنشجع أنفسنا على مواصلة الكتابة بثقة وحماس، حتى ننجز عملا أدبيا يتناوله القارئ لاحقا بمتعة وسلاسة أو على الأقل دون مشقة. إن فعل (دفنت) يحيلنا إلى الموت والقبر.. يا للهول..!!!.. وبالتالي فهو مشحون بمأساوية شديدة. نقول تقريريا، على سبيل المثال: «دفن الجندي جثة زميله».. أو نقول مجازيا: «دفن الشعب أحلامه». إن الشحنة البلاغية الكامنة في فعل (دفن) تفرض علينا الحذر في اختيار الحدود الأخرى للجملة بما يليق بقوة هذا الفعل، فلا يعقل أن نكون ساذجين ونكتب مثلا : «دفنت دنيازاد أحمر الشفاه في جيبها». دعونا نستعير من الموثّقين والمحامين ذلك التعبير الذهبي: «و..عليه»، لنشدد على قيمة الانسجام اللفظي في بناء أي جملة، فكل كاتب عليه امتلاك (ترموستات لغوية) تؤدي عملها أثناء الكتابة حتى لا يتورط في استعمال عبارات غير متوازنة: إن أحمر الشفاه كالسمسم، لفظتان لا تحتملان أية شحنة بلاغية، ولهذا فمن السخافة أن نكتب: «دفنت دنيازاد آخر حبات السمسم»، بل يُستحسن أن نكتب: «دسّت دنيازاد آخر حبات السمسم...». هل انتهت المشكلة؟.. لا.. أبدا.. إن لفظة (آخر) أعطت للجملة صيغة المبالغة على نحو ما، لهذا نستعملها عادة في تلك التعابير التقليدية مرتبطة بالرصاص أو الأنفاس.. أو.. أو... فنقول مثلا: «أطلق الجندي آخر الرصاصات». أو: «لفظَ الجندي آخر أنفاسه». لكن جملة «آخر حبّات السمسم» تنبهنا إلى عطل فادح في ترموستات اللغة الخاصة بنا، إذ يمكن تفادي الوقوع في هذا الخطأ التعبيري بشطب لفظة (آخر) فتكون الجملة كما يلي: «دست حبات السمسم».. مثلا. حسنا.. إن كل شيء على ما يرام. صارت العبارة الآن على هذا النحو: «دسّت دنيازاد حبات السمسم في جيبها ثم انسحبت باتجاه السّهل». هل انتهت المشكلة؟.. لا أبدا.. فالجملة تضمنت فعل (انسحبت). التي إذا ارتبطت بالسّهل، توقعنا أن يكون الانسحاب عسكريا كأن نقول في خبر صحفي: «انسحب (فيلق بدر) باتجاه سهل نينوى». إن دنيازاد ليست بخطورة «فيلق بدر»، فهي قد تنسحب إلى الجهة الأقل إضاءة، أو تنسحب من مكانها، أو تنسحب من طابور المتقدمين إلى جائزة أدبية... وهكذا. أما أن تنسحب باتجاه السهل فهذا ما لا يستسيغه أي قارئ لأن فضاء السّهل أوسع من أن تنسحب إليه دنيازاد المسكينة. انتبهوا فثمة حالة تجعل العبارة مستساغة إلى حد ما، خصوصا إذا تعلق الأمر بكاتب مبتدئ إلى متوسط الموهبة؛ (كما في قاموس نشرة الأرصاد الجوية)، فتكون: «ثم انسحبت خفية باتجاه السّهل». لكن أيعقل أن تضع حبات سمسم لتنسحب خفية..!!؟.. إن هذا غير معقول يا جماعة الخير، إلا إذا كانت قد انسحبت خفية عن أهلها لتلاقي حبيبها في السّهل، والأرجح أن يكون حبيبها في هذه الحالة جنديا من «فيلق بدر»، فهي انسحبت للقاء غرامي من جهة، وهذا ما لا يقبله أهل دنيازاد، ثم أن هذا اللقاء الغرامي من جهة أخرى سيكون مع رجل من «فيلق بدر»، أي أنه ملاحق من طرف الحكومة أو يجب أن يكون كذلك. فإذا تم شحن الغرض من الانسحاب بتلميحات توحي بالشبهة، كان التخفي مبررا ويَحْتمل قوة فعل (انسحبت). أما وأن دنيازاد قد (انسحبت) فقط إلى السهل وأنه لا وجود لحبيب مشبوه ولا لحالة (تخفي) أو شيء يدعو للتخفي، فإنه من الضروري سحب لفظة (انسحبت) واستبدالها بلفظة أخرى، فتصبح الجملة ببساطة كما يلي: «دسّت دنيازاد حبات السمسم في جيبها واتجهت إلى السّهل». خدع الكروائيين.. آه لقد خدعتكم... ولم ينتبه إلا النبيه منكم، فالدّس من الدسيسة، والسمسم ليس سمّا أو سلاحا كيماويا مزدوجا، ولهذا ف «دست» توحي بخطر ما دسته، ونحن لا نريد إلا عبارة بسيطة. ما رأيكم أن نستعمل ما هو أنسب؟ فتكون العبارة كما يلي: «وضعت دنيازاد حبات السمسم في جيبها واتجهت إلى السّهل». السمسم يمكن زرعه في السهل لأنه بذور، أما السمسم في اللهجة المحلية الجزائرية فهو نوع من الخرز يستعمل للزينة.. فما علاقة الزينة بالسهل...؟ وهكذا تتوالد الأسئلة فلا يكون بوسعنا الوصول بسهولة إلى نهاية لجدالنا. ما أريد قوله أن بناء جملة ذات معنى أمر شاق، وقد نقضي ساعات طويلة لننجح في صياغتها، خصوصا إذا تعلق الأمر بعبارة نفتتح بها رواية من 422 صفحة. لهذا يلجأ الكروائيون المخادعون لصياغة عبارات استهلاكية تصلح لكل شيء ولا تصلح لشيء كما هو الحال في عبارة «دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ»... إن هذا يشبه أغنية مصرية يكتبها فنان مستعجل فيقول: أنا ضايع في هواك.. وآخر يستعملها أنا ضايع في جفاك.. أنا ضايع في سماك.. أنا ضايع في بهاك.. وهكذا إلى نهاية التاريخ. وهذا بالضبط ما يمكن أن نفعله مع العبارة أعلاه: «دفنت دنيازاد آخر الابتسامات في قلبها ثم انسحبت باتجاه الفراغ»... فنحتفظ ب «دفنت»، لخلق حالة مأساوية، وب«دنيازاد» باعتبارها اسم علم وهي بطلة الرواية. ونقوم بإحداث تغييرات دون أن يتغير إحساسنا بالجملة": دفنت دنيازاد آخر الأحلام.. آخر الذكريات.. آخر الآمال وهكذا. أما أين انسحبت فيمكن أن يكون ذلك باتجاه الفراغ أو البياض أو الظلام أو العذاب أو التيه... وهكذا... دعوني أخبركم أن هذه العبارة مأخوذة من رواية «رمل الماية» للكاتب الجزائري، المرشح بقوة لجائزة البوكر، «واسيني الأعرج» في طبعتها (2011).. وهي العبارة التي بني على نمطها أغلب كتاباته.