حينما أضاءت "حيزية" وسط عتمة الغياب "الشمعة" تأوهت ذاكرة منسية وقالت "ياحساراه عليك يا الدّنيا" وتحت "عين الكرمة" جلست ألف حكاية تروي هوية ننسلخ عنها.. تدعونا لإعادة النظر وتلح على تخطي عتبة الخلود من خلال قصيدة شعبية تغنت بها الأجيال.. وبين هذه المزاحمة بين الأغنية والشّعر الشعبي والشّعر النّخبوي تتواصل جهود المختصين من أجل إحداث نوع من التلاقح بين هذا وذاك لضمان عدم التنكر لملامح هويتنا.. وفي هذا الملف الخاص نحفر في حجر الزاوية لنقف على بعض الأساسات التي تحتاج ترميما عاجلا.. رغم التداخل الموجود بين مفهوم الشّعر الشعبي وبين الشعر الملحون، إلا أنهما يصبان في بوتقة واحدة ألا وهو التراث الثقافي غير المادي الذي يميز الشخصية الجزائرية عن غيرها من الشخصيات سواء الأوروبية أو حتى العربية، رغم وجود أوجه تشابه حيث نجد الشعر النبطي في الخليج والفلكلور في الغرب،إلا أن القاسم المشترك الذي لا يمكن إنكاره هو عمق الأحاسيس وصدق المشاعر في نظم مثل هذه الأبيات التي تخرج من قلب قائليها الذين عاشوا تجارب مختلفة وقصصا مكنتهم من إبداع قصائد تتلاءم مع كلّ زمان ومكان، انتقلت شفاهة وحفظ بعضها من الضياع إما بسبب تدوينها أو بسبب انتقالها عن طريق الموسيقى، فأصبح تراثا موسيقيا بفضل أعمدة الغناء الشّعبي مثل محبوباتي، الهاشمي قروابي، دحمان الحراشي، العنقى ، كمال مسعودي... وآخرون خلدوا بأصواتهم أجمل وأروع القصائد. لم يؤرخ بعد أي باحث في الأدب الشعبي لبداية نشوء القصيدة الشعبية في الجزائر إلا أن المؤكد أن ظهورها لم يقتصر على الفتوحات الإسلامية للمغرب العربي، بل استمد أصوله البعيدة من أشعار أمازيغية محلية ظلت صامدة حتى خلال فترة الاحتلال.. حسب ما جاء في كتاب " الأدب الشعبي الجزائري" للباحث "عبد الحميد بورايو" فإن أقدم مدونة للشعر الشعبي القبائلي قام بتسجيله الباحث الأمريكي "هودقسون" قبل الاحتلال الفرنسي للمنطقة ببضع سنين، وتنوعت القصائد بين التاريخية، السياسية، الغنائية و شعر الحكمة،أما ما عدا ذلك يوجد مدونات قليلة جدا إستطاع الباحثون رصدها في فترة الاحتلال كأشعار " محند أويوسف" الذي كان يحظى بتقدير العرش لكونه إماما وصاحب زاوية ما جعل الطابع الديني يغلب على معظم أشعاره وكذا الشاعر" محند أومحند" الذي عانى التهميش حيث كان عاملا موسميا وتشرد بسبب الاحتلال الفرنسي، فأشعاره ساهم الهواة في تدوينها كما أشار الباحث ذاته، ففي تلك المرحلة أصبح الشعر القبائلي سلاحا ضد المحتل، هذا الأخير الذي عرف ما لهذا الموروث من تأثير وسهولة حفظه من طرف الشّعب ما جعلهم يعتمدونه لتشويه رموز الثورة آنذاك، ومنه ما سجله الباحثان الفرنسيان "رين.ل " و" لوسياني.ج.د " من قصائد تناولت هجاءا لثورة المقراني. وإذا عرجنا على الشعر الشعبي باللغة العربية وتطوره يجمع اغلب الباحثين في المجال أن بداياته ظهرت بتعريب الهلاليين لمنطقة المغرب العربي في القرن الخامس عشر أين استقروا و اندمجوا مع السكان الأصليين و أعطوا نماذج عن حياتهم خلّدت بواسطة الشعر الشعبي فتم حفظه جيل بعد جيل عن طريق السمع رغم عدم تدوينه ومرد ذلك سهولة صياغة مفرداته التي كانت مزيجا بين الفصحى و العامية،بعيدة عن التكلف و خالية من التنمق ما ساهم في انتشاره ليبقى ذاكرة تروي قصص الشعوب وإبداعاتهم. من منا لا يعرف "ابن قيطون" ، "ابن كريو" و"الشيخ سماتي" إن الحديث عن هؤلاء وإرثهم الثقافي فيه حديث له شجون، قصائد شفوية و أخرى مغناة خلدت قصص وروايات تعد من أروع ما قيل في الشعر الشعبي حيث ارتبطوا بالجماعات التي ينتمون إليها، فالشاعر ابن بيئته يصنع الأمسيات بين أهله وأصدقائه في المناسبات وحتى المآتم، فيتم تداوله عبر الألسن ما يجعله اقرب إلى وجدان المتلقي، فكان الطابع الاجتماعي لهؤلاء وكثير غيرهم مهدا لبزوغ فجر الشعر الشعبي. وحسب الباحث "عبد الحميد بورايو" حدثت قطيعة بين الشعراء القدامى وبين ما اسماهم "الحداثيون" ، ففي الماضي جمالية النص مستلهمة ومستمدة من البيئة التي يعيشونها فيولد الإبداع ويسطع نور الشاعر، أما في وقتنا الراهن وبسبب التطور والتحولات التي مست جميع نواحي الحياة تحول الشعر الشعبي إلى شعر عامي فحتى اللغة حورت واستبدلت لتواكب هذا التغير فإذا كان الشعر مغنّا انتشر في الأوساط الشعبية وإذا تم إلقاؤه في الندوات والملتقيات بقي حبيس النخب المهتمة بهذا الموروث. ورغم كثرة الحديث عن الحداثيين وكيف ساهموا في استحداث شعر يلائم الظروف المعيشية أشار الباحث "عبد الحميد بورايو" أن الشعر الشعبي ما زال موجودا في المناطق الداخلية كبسكرة، الأغواط، تسمسيلت، ورقلة وواد سوف ويختلفون عن شعراء العاصمة المتعلمين أين واصلوا خطاهم على درب القدامى؛ يحفظون أشعارهم عن ظهر قلب، وينظمون الشعر الشّعبي على طريقتهم لكن المشكل عدم إيجاد السبيل لطبع دواوينهم لعدم شهرتهم أما الشّعراء الجدد فيتميز شعرهم بالضعف ويقترب من الفصيح وهو شعر نخبوي لا يعرف انتشارا واسعا ولا يملك صلة بينه وبين المجتمع.
الشعر الشعبي كغيره من المظاهر الثقافية في المجتمعات المحلية تأثر بموجة العصرنة والتكنولوجيات الحديثة بشكل لا يمكن التصدي له فنحن في مواجهة وسائل فرضت وجودها. لكن الجدل لا يزال قائما حول هذا الأثر بين من يتهم التكنولوجيا بصفها سببا رئيسا لإهمال الشعر الشعبي وضياعه وبين من يريد الاقتداء بالتجربة الأوروبية التي تسعى جاهدة للحفاظ على موروثها الشعبي والتراثي الأصيل بتسجيله في أقراص مضغوطة وحفظها في أجهزة الكمبيوتر لمنعها من الاندثار والضياع كما أكد لنا محدثنا الباحث "عبد الحميد بورايو" : " التطور لا يقتل التراث بل بالعكس إن وظفناه جيدا سيحافظ عليه بشكل أفضل، ويسمح بانتشاره كاستخدامه في الحصص والبرامج الترفيهية والإشهار فيستمر تداوله على نطاق أوسع". و هي التجربة التي تكللت بالنجاح أين سجل الشاعر الشعبي "ياسين أوعابد " قرصا مضغوطا بصوته لثلة من الشّعراء وهي تجربة مميزة نرجو أن تستثمر بشكل جيد من أجل تعميمها والاقتداء بها لبناء ثقافة وطنية مستقبلية. إعداد: حنان. منصوري/ ليلى. زعنابي