نحو 50 شخصية برتغالية تؤكد دعمها لتنظيم استفتاء تقرير المصير في الصحراء الغربية    سوناطراك : حشيشي يتباحث بأبيجان فرص الشراكة مع وزير المناجم والبترول والطاقة الإيفواري    باتنة: افتتاح المهرجان الثقافي الوطني للمسرح الناطق بالأمازيغية في طبعته ال13    قسنطينة: دخول عدة هياكل صحية عمومية جديدة ستعزز منظومة القطاع بالولاية    الوكالة الوطنية لدعم و تنمية المقاولاتية تطلق برنامجا وطنيا للنهوض بقطاع المؤسسات المصغرة    مالية: 2025 ستكون سنة تعزيز مسار الرقمنة بامتياز    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الداخلية للمملكة العربية السعودية    قوجيل: التضامن الثابت والفعلي مع الشعب الفلسطيني هو رهان العالم اليوم ومبدأ وطني للجزائر    سهرة الفنون القتالية المختلطة: عشاق الاختصاص على موعد مع 10 منازلات احترافية الجمعة بقاعة حرشة حسان    رئيس الجمهورية يعين واليين جديدين لولايتي وهران وسيدي بلعباس    افتتاح السنة القضائية الجديدة بولايات جنوب البلاد    ملبنات خاصة ستشرع في انتاج أكياس حليب البقر المدعم في 2025    المشروع سيكون جاهزا في 2025..خلية يقظة لحماية الأطفال من مخاطر الفضاء الافتراضي    حوادث الطرقات: وفاة 41 شخصا وإصابة 193 آخرين خلال أسبوع    السيد بلمهدي يشرف على انطلاق الدورة الثانية لتأهيل محكمي المسابقات القرآنية    أشغال عمومية: صيانة الطرقات ستحظى بأولوية الوزارة الوصية خلال المرحلة القادمة    الألعاب الإفريقية العسكرية: الجزائر تتوج بثلاث ذهبيات جديدة في الجيدو وأخرى في الكرة الطائرة    منظمة التحرير الفلسطينية تدعو الأمم المتحدة إلى إلزام الكيان الصهيوني بإنهاء وجوده غير القانوني على أرض دولة فلسطين    مولوجي تستقبل رئيس المرصد الوطني للمجتمع المدني    تدشين "دار الصنعة" بالجزائر العاصمة, فضاء ثقافي جديد مخصص للفنون والصناعات التقليدية    لبنان: إصابتان في قصف للكيان الصهيوني جنوب البلاد في ثاني أيام الهدنة    ركاش يروّج لوجهة الجزائر    عطّاف يدعو إلى مبادرات فعلية وجريئة    شركات مصرية ترغب في المشاركة    إرهابي يسلم نفسه ببرج باجي مختار    الحكومة تدرس آليات تنفيذ توجيهات الرئيس    معسكر تحيي ذكرى مبايعة الأمير عبد القادر    الحسني: فلسطين قضيتنا الأولى    رئيس الجمهورية يجدد دعم الجزائر الثابت لفلسطين    كأس افريقيا 2024 سيدات/ تحضيرات : فوز الجزائر على اوغندا وديا (2-1)    إمضاء اتفاقية شراكة وتعاون بين جامعة صالح بوبنيدر ومؤسسة خاصة مختصة في الصناعة الصيدلانية    الارتقاء بالتعاون العسكري بما يتوافق والتقارب السياسي المتميّز    الجزائر تؤكد على حماية العاملين في المجال الإنساني    ميناءا عنابة وجيجل بمواصفات عالمية قريبا    الجزائر مورّد رئيسي لأوروبا بالغاز    الإطار المعيشي اللائق للمواطن التزام يتجسّد    198 مترشح في مسابقة أداء صلاة التراويح بالمهجر    انتقادات قوية لمدرب الترجي بسبب إصابة بلايلي    عطال يتعرض لإصابة جديدة ويرهن مستقبله مع "الخضر"    مدرب فينورد ونجوم هولندا ينبهرون بحاج موسى    فحص انتقائي ل60900 تلميذ    بللو يدعو المبدعين لتحقيق نهضة ثقافية    "فوبيا" دعوة للتشبث برحيق الحياة وشمس الأمل    الجلفة عاصمة للثقافة والتراث النايلي    حرفية تلج عالم الإبداع عن طريق ابنتها المعاقة    إرث متوغِّل في عمق الصحراء    المسؤولية..تكليف أم تشريف ؟!    نال جائزة أفضل لاعب في المباراة..أنيس حاج موسى يثير إعجاب الجزائريين ويصدم غوارديولا    جانت.. أكثر من 1900 مشارك في التصفيات المؤهلة للبطولة الولائية للرياضات الجماعية    مستغانم : قوافل الذاكرة في مستغانم تتواصل    خنشلة : أمن دائرة بابار توقيف 3 أشخاص وحجز 4100 كبسولة مهلوسات    أيام توعوية حول مضادات الميكروبات    الفترة المكية.. دروس وعبر    معرض الحرمين الدولي للحج والعمرة والسياحة بوهران: استقطاب أكثر من 15 ألف زائر    تسيير الأرشيف في قطاع الصحة محور ملتقى    الابتلاء المفاجئ اختبار للصبر        هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلدية لغروس ” العامري” من دشرة منسية إلى “كويت سيتي”

للحديث عن لغروس لا بد من العودة إلى تاريخ 11 أفريل 1876 تاريخ ثورة العامري، والعامري هو الاسم الأول والشرعي لهذه البلدية التي تبعد عن مقر الولاية بسكرة بحوالي 50 كيلومترا غربا في اتجاه الجزائر العاصمة، ففي هذا التاريخ تغيَر وضع السكان وتغيَر معهم الاسم من العامري إلى لغروس، حيث عزم أهل قرية العامري على محاربة الاستعمار، ولأن الهدف كان أكبر من أن تتحمّله هذه القرية الصغيرة، التي كانت مبنية وفق تقنية حربية وكان لها باب شرقي وآخر غربي يُغلق مع صلاة المغرب ويُفتح مع صلاة الفجر، فقد كانت نتيجة هذه الحرب غير المتكافئة، أن دُمر ما دُمر وصودرت الأراضي ونُفي أهل القرية إلى مناطق بعيدة من العالم، مثل كورسيكا وكاليدونيا الجديدة، بينما أُبعد باقي السكان إلى المناطق المجاورة، ومع مرور الوقت وبالضبط في 23 جويلية من ذات العام، بدأ الاستعمار يسمح للسكان بالعودة مقابل شراء سكناتهم فقط دون الأرض، فلجأ الكثير منهم إلى غرس النخيل في منطقة تبعد حوالي ال 3 كيلوميترات عن قرية العامري بدلا عن أراضيهم التي صودرت، ويُقال أن السكان كانوا يتساءلون فيما بينهم عن وجهة العائدين إلى القرية ومع تكرار عبارة أنهم ذاهبون للغرس ترسّخت هذه التسمية شيئا فشيئا لتستقر عند” لغروس”.
لغروس ..حين يتصالح أهلها مع المكان
لغروس بعد الاستقلال هي أنموذج للتباين من مرحلة إلى أخرى، حيث كان يسميها السكان بالدشرة المنسية لأنه لم يكن يربطها بالمناطق الأخرى وقتها سوى منفذ واحد، حيث تضطر للخروج من القرية من حيث دخلت إليها، غير أن التسمية تكرّست مع استياء الناس من واقع مرور المسؤولين في زياراتهم التفقدية دون دخولها، بينما يضمن موقع بلديات أخرى دخولهم إليها بحكم أن تلك البلديات تشقها طرق وطنية، لا مفر من العبور عبرها ولم يكن هذا الاعتبار المعنوي وحده ما يصنع المشهد اليومي لحياة أهل القرية، فلغروس قبل ذلك هي منطقة منكوبة سنة 1969، حيث لم يكن ممكنا الوصول إليها سوى عبر الجو بسبب الأمطار الطوفانية التي استمرت أشهرا متتالية، وهي بعد ذلك جفاف جعل من أشجار النخيل التي تمثّل المصدر الأول والوحيد لدخل سكان المنطقة عرضة للعطش خصوصا في ظل عدم توفر إمكانيات التنقيب والحفر عن الماء في تلك الفترة، مما سبّب قلة في كمية التمور وتراجعا في نوعيتها.
إذا لغروس في كل هذا هي جوّ وتربة تساعد على زراعة النخيل، ولكن قبل ذلك هي مشهد اجتماعي يميّزها عن باقي البلديات، فسكان البلدية يتعلقون بها ويتمسكون بالبقاء فيها ويعودون إليها ولو بعد سنين طويلة، حيث أن لا باريس بلد الجن والملائكة ولا غيرها استطاعت أن تخطف من هاجر إليها من أبناء القرية إلى الأبد، بل يعودون إليها ولو بعد أن يشيب الرأس ويحدودب الظهر، متعلقين بما تبقَى لهم من ذكريات الطفولة والصبا، معلنين بذلك خضوعهم لتاريخهم وماضيهم ولسحر لغروس، ولكن رغم ذلك فإن علاقة “لغروسيين” مع بلدتهم ليست دائما بهذا السكون والهدوء و لا بهذا الانصياع المطلق، فهذا “العنقة” وهو مواطن يحمل الكثير من الطرفة والظّرف ، لم يتردد في التساؤل عن سر اختيار الأجداد لهذا المكان القاحل والبعيد مكانا لإقامتهم،في حين يحلو له، لسبب يعرفه هو فقط، أن يقارن بين لغروس وسكيكدة بالذات، معاتبا الأجداد بالقول لماذا لم يختاروا سكيكدة وفضلوا عنها لغروس التي لا يرى فيها سوى صحار و قفار لا رفيق ولا أنيس فيها ..؟ ، بينما يذهب “الصالح ملاح” إلى حد المطالبة براتب شهري مقابل البقاء في لغروس صيفا، نظرا لشدة الحرارة التي تميّزها في هذا الفصل.
شخصيات من رحِم لغروس
لغروس التي يتشكّل معظم سكانها من عرش البوازيد الذين يعودون في نسبهم إلى بيت الرسول (ص)، تنام على مزيج من العادات والمواقف التي تصنعها شخصيات تركت بصماتها في هذه البلدة العريقة، فلغروس هي قبل كل شئ الشخصية القوية و المميزة جدا، “حفصة” زوجة الشهيد “محمد شيبة”الذي تميّز بذكاء خارق وأخلاق عالية ووطنية لا نظير لها واستشهد في سبيل أن تحيا الجزائر حرة عزيزة يرفرف فيها العلم كما تمنى هذا الشهيد الذي حفر بصفاته الرائعة مكانا خاصا له في قلوب الناس، تجسّد في الوفاء له بتكريم وصون أرملته التي أصبحت مثالا للشخصية الكارزمية ، فكانت بالنسبة لأبنائها هي الأم وفي الوقت نفسه هي الأب الذي فدا الوطن بروحه فلم تستسلم هذه السيدة المحترمة والمجاهدة لمصاعب الحياة ولم تفرّط في أمانة الشهيد فحفظت له أبناءه وربَتهم أحسن تربية و قد استطاعت “حفصة” بكارزميَتها المتميزة أن تفرض احترامها على الجميع وأن تصنع لنفسها مكانة و شخصية مهابة،تُستشار وتُشرك في الأفراح والأقراح، بل أن التنظيم الحسن للمناسبات لا يتم إلا بتدخلها وفق قوانين لا يُستثنى منها الرجل ولا المرأة ولا الكبير ولا الصغير، فالجميع يخضع إلى النظام الذي تُمليه “حفصة”.
لغروس هي أيضا “سي لزهاري الوافي”، إمام المسجد الذي يأتمر الناس بأمره ويأخذون برأيه ونصيحته أكثر من غيره، ولو كانت جهة رسمية، فهو الإمام وهو معلم القرآن وهو من يفض الخصومات بين الناس وهو من يحتكم إليه الأطفال ليحدد لهم من يجب عليه الصوم ، ولغروس هي أيضا “سي أحمد غباش” الذي يحترمه الصغير والكبير، و”سي محمود” المعلم الفاضل الذي درّس الجميع وفضله على الجميع أيضا، و”سي لخضر” و”سي البشير” اللذان يدين لهما معظم أهل لغروس بتعليمهم ولو سورة واحدة من سور القرآن الكريم.
ولا يمكن الحديث أيضا عن لغروس دون الحديث عن “امعمر الشارف” المجاهد النزيه والصارم ، الذي يقول كلمة الحق ولا يخشى لومة لائم، وهو من تمنى دائما أن يموت في أرض الكنانة، ولا عن صديقه المجاهد “أحمد درقون” الذي لم يفلح الزمن في تليين مواقفه ولا في تغيير طبائعه، أما المجاهد “عمار حاجي” فهو الذي تتداخل في ملامح وجهه روح الصرامة والشدة مع روح الطيبة والتسامح ،والمجاهد “أحمد كربع” الذي دوّخ الاستعمار بإتقانه لصناعة القنابل التي لا تخطئ هدفها أبدا، تماما كما لا تخطئ تسديدته بالبندقية، ولا يمكن أن تكتمل الصورة دون الشهيد “أحمد طالب “الذي كان رفقة المجاهد السعيد أعبادو حينما استشهد في غرداية بعد أن رفض الاستسلام،والشهيد أحمد شبشوب الذي استشهد قبل فترة وجيزة من الاستقلال والشهيد قريرة محمد والشهيد أحمد جعفر الذي انتزع منه جلاّدوه عينيه وهو حي ولم يستطع أحد أن ينتزع منه معلومة أو سرا من أسرار الثورة والشهيد عمر بن عطية والشهيد الجموعي قروج والشهيد الوافي أحمد الذي صعد إلى الجبل متسلّحا بآلة الخياطة التي سخّرها لصناعة ملابس لجنود جيش التحرير،فهنيئا لهؤلاء على هذه الشهادة وهنيئا لأهلهم بهم.
لغروس هي أيضا “الصادق بن عطية” بضحكته المميزة وذاكرته القوية ودقة ملاحظته وهو أيضا المتحدث الجيد الذي لا يعيد قصة سبق وأن رواها لك ، لتكتشف معه في كل مرة قصة أجمل وأحلى ، قصة ستفقد حتما الكثير عندما يحكيها لك غيره .
لغروس هي أيضا أسماء لأناس ارتبط بهم اسم لغروس كما ارتبطوا به، سواء بحكم مهنهم أو مكانتهم الاجتماعية أو لصفات شخصية تميّزهم عن غيرهم، فهذا”أحمد القوبع”أقدم مصلّح للدراجات النارية التي تشكّل الوسيلة الأساسية للتنقل في المنطقة ،لا يزال متمسكا بهذه المهنة التي لا يجيد غيرها بل لا يحب أن يقوم بغيرها، وهذا “السعيد بلعودة” أشهر ميكانيكي سيارات ورغم ذلك فإنه لم يستفد من إتقانه لعمله سوى شهرة لا يمكن أن تمحوها السنوات واسما في مجال الميكانيك ينافس أسماء صانعي السيارات أنفسهم، وهذا “العربي بلغنوشي” أول من صعقته الكهرباء في أول يوم تتزود فيه البلدية بالطاقة الكهربائية، يجتهد في إصلاح أي شيء المهم أن يكون قد عجز عن إصلاحه غيره ممن يعتبرهم دخلاء على مهن في مجال الإلكترونيك والكهرباء ورغم أنه لم يتلق أي تكوين علمي ، بل أن تعليمه يكاد يكون محدودا جدا فإن مختصين في مجال الكهرباء والإلكترونيك اعترفوا له بأنه يتقن الجوانب العلمية ويمارسها دون أن يدرك أنه يفعل ذلك ، غير أن الغريب أيضا أن العربي سلك نفس درب “السعيد بلعودة” ولم يستثمر موهبته سوى في إثبات تميّزه وقدرته على القيام بما يعجز عنه الآخرون، دون أن ينعكس ذلك على حياته الاجتماعية.
لغروس هي أيضا ” المسعود بلعنابي” الذي تفقد بدونه مقهى “حمّه اجريوة” ألَقَها وتتحوّل الدشرة في غيابه إلى مكان موحش بلا روح، فهو الذي لا يتردد في ضربك بعصاه تعبيرا عن المزاح تارة وعن الغضب تارة أخرى، ولأنه يقضي معظم وقته في الدشرة فإنه على عكس ما قد يوهمك به من خلال مظهره وتصرفاته ، إذ يُميّز بدقة بين البخيل والكريم وبين الجد والهزل وبين الصعب والسهل ،بل أنه يفك شيفرات شخصيات أهل القرية ويحتفظ بمفاتيحها فيستعملها أثناء تعامله معهم .
علاّوة يصعد إلى النخلة
لغروس هي “علاّوة “الذي صعد إلى النخلة ولم ينزل عنها قرابة الثلاث سنوات ،حيث كان يفترش سعف النخيل و يلتحف السماء، معلنا بذلك استسلامه لضغوط بني البشر وفتنة الأرض، ليتركها هاربا في مشهد لا يمكن أن يحدث سوى في لغروس ، ولو أنصفت الدنيا “علاّوة” لكان الأجدر بأن يُكتب اسمه في قاموس غينس للأرقام القياسية،ليس لأنه صنع أكبر بيتزا أو أن له أطول شوارب وإنما نظير تحطيمه الرقم القياسي في العيش معلقا بين السماء والأرض، دون أن ينزل لفترة قاربت الثلاث سنوات متواصلة.
أماكن لها معنى
قهوة” ناجي” ،قهوة”العمري”، قهوة “حمّه اجريوة” ، أكثر من أسماء لِمَقاهٍ، وإنما تصنيف اجتماعي وفئوي، فإذا كان الشباب يرتادون قهوة” ناجي” لأنها تحقق لهم رغباتهم من تلفزيون وموسيقى وديكور شبابي وإذا كان الشيوخ يفضّلون قهوة “العمري” لما تُوفره لهم من راحة وهدوء ، فإن قهوة “حمّه اجريوة” تصنع الفرق والتميّز بدون منازع وهي مقهى عبارة عن فراش على الأرض وكونتوار مميز يشبه أفلام الوستارن، يفضّل ارتياده لاعبو الورق والدومينو أو من لا يستطيع أن يتخلى عن طعم قهوة “حمّه أجريوة”وهو اسم صاحبها، ولامبالغة في وصف طعم قهوتها لأن صيتها وصل إلى ولايات أخرى كبيرة مثل العاصمة وغيرها، ولعل ما يميّز قهوة”حمّه اجريوة”أكثر أنها المكان الذي تُعقد فيه الصفقات المالية والانتخابية ، كما أن كل ما يتعلق بالبلدية من أخبار أو شائعات ينطلق من قهوة “حمّه اجريوة” التي فرض موقعها مرور مواكب سيارات الأعراس والجنائز على حد سواء ولأنه لا يمكن اختزال القرية فقط في وسط الدشرة فإن لغروس هي أيضا ،بلّبسيبيس،فرجه، البحبوحة، الغمقة،لوزن،المرحوم، البور،أذراع الناموس،عين الصيد ،عين موريس والقائمة طويلة.
لغروس ...الكويت سيتي
لم يكن الناس في لغروس ينشطون سوى في مجال غراسة النخيل، إضافة إلى الخضروات وبعض الفواكه في فصل الصيف، غير أن مردود النخيل ضعيف، نظرا لقلة الماء وعدم توفر الموارد المالية التي تتطلبها زراعة النخيل،كما لم تعد الفلاحة الموسمية ناجحة،دون أن يجد الفلاحون تفسيرا لذلك،فذهب آخرون إلى تعليلها بتغيّر المناخ،بينما أعادها بعض الفلاحين إلى نوعية البذور ،وبقيت التفسيرات حكرا على أهل وفلاحي المنطقة الذين لا يقبلون تفسيرات من جهات أخرى حتى ولو كان المعهد التقني للإرشاد الفلاحي ب “عين بن النوي”، تماما كما هو صعب إقناع هؤلاء الفلاحين بتغيير أساليبهم المتبعة منذ القديم في مجال الفلاحة ، إلا تلك التي يستنتجونها هم بأنفسهم بعامل التجربة والخبرة، وفي ظل هذا الوضع فكّر” التومي بن عطية” في القيام بتجربة زراعة البيوت البلاستيكية التي لم تكن معروفة وقتها سوى في مدن الشمال، وقد قوبلت فكرته قبل تنفيذها بانتقادات حادة وصلت إلى حد الاستهزاء والسخرية ، ولم يتردد أحد الفلاحين في معاتبته بالقول : “كيف تفكر أن تنجح في زراعة شيء تحت البلاستيك وفي موسم غير موسمه ونحن ندلِّل الفلفل والطماطم والبطيخ في فصله ورغم ذلك لم يعد له مردود مثل السابق” غير أن “التومي” أصرَ على التجربة ونجح فيها وتبعه آخرون، إلى أن تحوّلت لغروس إلى واحة بيضاء ،قبل أن تكون خضراء، لما تملكه من أعداد هائلة من البيوت البلاستيكية وأصبحت تستحوذ على نصيب كبير من السوق الوطنية في المجال الزراعي، الشيء الذي أهّلها لأن تستقطب سوقا وطنية يومية يفد إليها التجار من كل أرجاء الوطن، مما انعكس على الواقع المعيشي للناس ،ليتطور هذا الانتعاش الاقتصادي ليشمل قطاع النخيل، حيث أصبحت تُضخ الموارد المالية المحصّل عليها من منتوج البيوت البلاستيكية لتطويره، وبهذا أصبحت لغروس بعد أن كانت دشرة منسية محجا للمستثمرين الراغبين في الاستثمار في مجال الفلاحة، وأُطلقت عليها تسمية ” كويت سيتي”.
غير أن أهل لغروس لا يرون بأن التسمية قد جلبت لهم المستثمرين فقط، وإنما قد جلبت لهم معها أيضا المتاعب ولفتت إليهم الأنظار دون أن يحصلوا على دعم أو ميزات تتناسب مع هذه التسمية، بل أن الكثير من المواد الفلاحية ارتفعت أسعارها بسبب التسمية التي أعطت الانطباع بأن البيوت البلاستيكية تدر أرباحا خيالية، وهو انطباع يرى أهل لغروس أنه غير دقيق بحكم أن زراعة البيوت البلاستيكية تحتاج إلى مصاريف باهظة وإلى جهد كبير، كما أن المشتغل فيها معرّض للأمراض الخطيرة خصوصا التنفسية منها.
لغروس تودّع أبناءها وتلملم جراحها..
لا زالت لغروس رائدة في مجال زراعة النخيل والبيوت المغطاة على حد سواء، غير أن قهوة “حمّه أجريوة” لم تبق كما كانت، حيث تم ترميمها فأُزيل كونتوار الواستارن وأُضيف إليها البلاط بعد أن كانت أرضيتها من التراب فقط ولم يعد الناس يضعون دراجاتهم على جدارها الخارجي كما كانوا يفعلون وفقد الشاي طعمه بعد أن غيّر “قدور ضيفلي” مهنته، ،ولم يعد الناس يذهبون إلى “سيدي بوزيد” مثل السابق، بعد أن مات “عمر بن الدراجي”. ومات “سي لزهاري”أيضا ففقدت القرية بفقدانه صرامة الإمام وحميمية المسجد ،حيث بات الناس يتخاصمون بل وينقسمون بين مؤيد لهذا الإمام أو ذاك، ومات المؤذن الطاهر عزوز وماتت “حفصة” وماتت معها روح التنظيم واحترام الصغير للكبير فأصبح الأطفال يعيثون في الأعراس فسادا دونما رادع، وجاء جيل لا يعترف بسلطة “سي أحمد غباش” و”سي البشير” و”سي لخضر” ، ومرض” سي محمود” وأصبح يتغيب عن الدروس التي تعوّد أن يلقيها في المسجد، وتقاعد سي جمال مزغيش من التعليم بعد سنوات من العمل المضني والمخلص لصالح أجيال متعاقبة احتفظت له بمكانة خاصة في وجدانها، دون أن يلتفت أحد إلى أن قطاع التربية بأكمله قد خسر مربيا فاضلا ومعلما لامعا ،غير أن سي جمال لم يفقد تميزه بعد أن تقاعد فحافظ على حضوره القوي في جميع مناحي حياة القرية ، وتوفي “أمعمر الشارف” في أرض الكنانة كما تمنى وهو عائد من رحلة الحج، ولا يزال “أحمد كربع” بارعا في الصيد وتقفي الأثر رغم كبر السن، ومرض “عمار حاجي” ولم يعد يخرج كثيرا ومات “الصادق بن عطية” وماتت معه مكتبة شفاهية لم يستثمرها أحد، وكبر “السعيد بلعودة” ولم يعد يزاول مهنة الميكانيك التي تحوّل ابنه لممارستها ولا زال ” بن العنابي” وفيّا للدشرة ولعصاه، ومات حمّه بلهامل ورحلت معه دعاباته المتميزة خصوصا مع الأطفال ولم يعد الناس يذهبون للسباحة في عين العامري بعد أن جف منبعها، كما أصبحوا لا يخجلون من السكن في العمارات التي كان السكن فيها إلى عهد قريب يدخل في خانة التشبه بمدن الشمال و الخروج عن عادات وتقاليد المنطقة في البناء والعمران ، ومات المداني بوجملين ومات معه مشهد عودة القطيع مساء ،على وقع جرس الكباش ومشهد الغُبار الذي يلفُّ أسرار يوم طويل بين أحضان الطبيعة والماشية وأصبح الناس يرعون ماشيتهم بأنفسهم،وتخلى الناس عن عادة زيارة مواكب الأعراس إلى سيدي اللافي كما كانو يفعلون، ونزل “علاوة” عن النخلة ولم يعد الناس يتساءلون عن مصيره ولم يعودوا يتتبعون خطواته ولا أسرار عيشه، ليتصالح مرة أخرى مع الأرض ويسكن فيها بسلام، ومات الصالح عمراني وماتت معه روح الطرفة التي لم تكن تفارقه أبدا حتى أنه لا يحلو له عمل ولا حديث إلا إذا كان مقترنا بروح الطرفة والظرف التي تميز بها تماما مثل والده رحمه الله، وفقدت الدشرة الكثير بعد أن رحل حمود بن دحمان ورحلت معه رائحة وعبق القماش الذي يزخر به محلّه الذي تُحس وأنت فيه وكأنه مهرّب من خان الحرير و حارات الشام العتيقة،ولازال المهري وفيا لجلسات الفكاهة والمرح خصوصا عندما يتعلق الأمر بالعزف على آلة القصبة ووفيا أيضا لتاريخه الزاخر بتغيير المهن،حيث أنه لم يكلّ ولم يملّ التنقل من مهنة إلى مهنة ومن حرفة إلى أخرى، فمن بيع أطباق اللوبيا باللحم ومن دونه في مطعمه الذي ما لبث أن أغلقه إلى الاشتغال في التجارة بكل أنواعها من تجارة التمور إلى الماشية والدواجن ،إنه المهري إذا الذي يجتهد دائما في الجهر بأن لا مكان في قلبه للمعارضة وأنه مع الحكومة قلبا وقالبا في كل ما تفعل ،فهو يعتقد دائما أن المشهد السياسي لا يتّسع سوى للحكومة أوالفيس.. !،ومات الطاهر جغيدل ليتوقف الناس عن التساؤل حول سر مرضه بعد أن كان متميزا في دراسته،بين من كان يقول أنه تعرّض لغسيل مخ في ليبيا ومن كان يقول أن امرأة من مصر قد سحرته، ومات أحمد غنوشي وفقدت معه لغروس حكّاءا جميلا وممتعا،حيث لا يتردد في سرد تفاصيل الحكايات حتى وإن كانت تلك التفاصيل تخدش الحياء فالمهم بالنسبة إليه أن لا تفقد القصة متعتها من خلال عدم إغفال أي تفصيل وانتقل لخضر طالب إلى السكن في فوغالة ولم يعد الناس يستمتعون بدعاباته وتعليقاته المتميزة ولا زال فرحات العايب يحتفظ بقدرته على الإقناع وتقديم الدروس النظرية حتى للحكومة ومؤسساتها ،مستغربا مثلا لماذا تقوم البلديات بطرح مناقصات أمام المقاولين لإنجاز مشاريع حفر مجار لتصريف المياه الزائدة بدل أن تشتري البلديات آلات حفر فتنجز المشاريع المقررة وتؤجّر تلك الآلات بعد ذلك،ولم تعد الصحة تمنح “الحفّي” القدرة على استعراض قوته الخارقة والمتحدّية لكل ماهو مستحيل فأصبح يعتمد أكثر على هدوئه خصوصا بعد أن أصبح إماما في أحد المساجد الصغيرة بالقرية ولكنه ما يزال وفيا لسياسته المعهودة خالف تعرف، ومات اسعيّد مجاني أحد أفضل لاعبي الورق في القرية ولم يستطع أحد أن يملأ مكانه بعد رحيله وهو المولع بلعب الورق لدرجة أنه حين لا يجد منافسا يلعب ضده كان يلعب لوحده متعهّدا لخصمه الافتراضي بأنه لن يغش لصالحه وبأنه سيكون نزيها في اللعب، وتقاعد المبروك كربع ولم يعد يشتغل بمهنة البناء التي ورثها عن والده بعد أن تقدّم به السن فأصبح الناس يجلبون اليد العاملة في هذا المجال من ولايات ومدن أخرى بعد أن كان المبروك كربع يتكفل بمعظم أشغال البناء في القرية،وأقعد السن والتكنلوجيا معا رابح الشعبي عن ممارسة مهنة تصليح المضخات والمحرّكات بعد أن أصبح كل شيئ يشتغل بالكهرباء .
إذا لغروس هي بالنهاية حكاية بلدة صغيرة راسخة في التاريخ ، يموت أبناؤها فتحفظهم في رحمها بحنان يداعب لغة الأم ويولد لها أبناء جدد فتحتضنهم بحب يرتوي من إنسانية المكان، وبين من يسقط ومن ينهض مكان أبدي للغروس التي تزداد شموخا كلما تقدّم بها العمر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.