باشرت الجزائر مساعيها من أجل عقد ندوة دولية لدراسة الأزمة في شمال مالي وبحث سبل علاجها، ومن المنتظر أن يشارك في هذه الندوة ممثلون عن دول الساحل الذين يعنيهم الوضع الأمني المتدهور والذي أدى إلى نزوح آلاف الطوارق إلى دول الجوار ومن ضمنها الجزائر . تبذل الجزائر جهودا على أكثر من جبهة من أجل تطويق الأزمة المالية التي بدأت تنذر بآثار أمنية سلبية على منطقة الساحل، فقد أعلن وزير الخارجية مراد مدلسي أمس أن الجزائر لن تطرد اللاجئين الطوارق الذين نزحوا إلى أراضيها بسبب المعارك التي تدور في شمال مالي بين الجيش النظامي المالي ومقاتلي حركة تحرير الأزواد، وينسجم هذا الموقف تماما مع قرار الجزائر إرسال مساعدات إنسانية إلى كل النازحين في الدول المجاورة، حيث توجهت طائرات شحن عسكري محملة بالمواد الغذائية إلى كل من مالي والنيجر وموريتانيا وبوركينافاسو من أن أجل تقديم معونات غذائية وطبية للنازحين، غير أن الجزائر حرصت على أن تتم العملية بالاتفاق مع حكومات الدول المستقبلة التي تولت عملية إيصال المساعدات إلى اللاجئين. التحرك الجزائري يبدو محكوما باحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية، وقد حرصت الجزائر منذ سنوات على أن تكون وساطتها بين حكومة بماكو والطوارق محكومة بمبدأ احترام الوحدة الترابية لجمهورية مالي، وأن يكون أي اتفاق منسجما مع روح الدستور المالي، ولا يزال هذا المبدأ مقدسا في نظر الجزائر إلى حد الآن، بل إن أحد أسباب توتر العلاقة مع نظام العقيد الراحل القذافي خلال منتصف العقد الماضي كان تدخله من أجل تشجيع التمرد على النظام القائم في مالي، وقد ارتابت الجزائر من دعوة القذافي سكان الصحراء إلى إنشاء دولة خاصة بهم، وقد اعتبرت هذه الدعوة تحريضا على التمرد والفوضى حيث يتوزع الطوارق على عدة دول في المنطقة غير أنهم لم يسعوا في السابق إلى بناء دولتهم المستقلة، كما أن أوضاعهم متباينة من دولة إلى أخرى. اتفاق الجزائر الذي تم توقيعه في جويلية 2006، وضع إطارا لإنهاء المواجهات المسلحة التي ظلت تعصف بشمال البلاد، وقد حرصت الجزائر من خلال وساطتها على أن يكون الاتفاق في إطار احترام دستور مالي ووحدتها الترابية، وتضمن إلى جانب إجراءات وقف المواجهات، تدابير تهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة شمال مالي، من خلال إدماج مسلحي الطوارق في القوات النظامية، وتشكيل وحدات خاصة لحماية أمن مناطق الشمال ومواجهة النشاط الإرهابي، مع إطلاق مشاريع تنموية في منطقة الشمال تنهي حالة العزلة والتهميش التي يعيشها السكان الطوارق، غير أن حكومة باماكو فضلت البحث عن الدعم الأجنبي بدل الوفاء بالتزاماتها في إطار الاتفاق، ولعل أخطر ما في الأمر الآن هو أن الجناح الداعي للاستقلال في حركة التمرد هو الذي بدأ يسيطر على الوضع، وقد صرح قادة حركة تحرير الأزواد مؤخرا أن هدفهم من القتال بات الاستقلال بعد أن خرقت حكومات بماكو المتتالية كل التزاماتها، وهذا التطور من حيث المطالب يثير القلق في الدول المجاورة وبصفة خاصة في الدول التي تعاني أوضاعا اقتصادية صعبة كما هو حال النيجر وموريتانيا. المعطى الآخر الذي يزيد في تعقيد الأزمة المالية هو التغير الكبير الذي يشهده ميزان القوى بين الجيش النظامي المالي وحركة تحرير الأزواد التي استفادت كثيرا من الأسلحة الليبية المهربة فضلا عن التجربة العسكرية التي حصل عليها آلاف المقاتلين، وقد أثبت سير المعارك المتواصلة منذ شهر جانفي الماضي أن الجيش المالي لن يقدر على حسم الصراع عسكريا إلا في حال تلقي معونة حاسمة من الخارج وهو ما يعني أن أبواب التدخل الخارجي أصبحت مشرعة الآن، وتشير أنباء أن القوات المالية تلقت مساعدات غذائية من قبل القوات الأمريكية، كما أن الإشارات الفرنسية المبكرة، والتي تلمح إلى وجود علاقة بين مقاتلي الأزواد وتنظيم القاعدة أثارت المخاوف من إمكانية لجوء باريس إلى التدخل تحت غطاء مكافحة الإرهاب. كل هذه المعطيات لم تغب عن حسابات الدبلوماسية الجزائرية التي بادرت إلى تصحيح الرؤية من خلال دعوة الطرفين إلى الجزائر للبحث عن حل، وقد أكدت الجزائر أن المطلوب ليس إعلان الحرب على الطوارق بل البحث عن حل سياسي يكون في صالح الجميع وينهي المشكلة، وقد عادت فرنسا بعدها إلى التأكيد على دعم مسعى مسار الجزائر، ومن هنا جاءت الخطوة الأخرى بمباشرة الاتصال بدول الساحل من أجل البحث عن حل في إطار متعدد الأطراف لإنهاء هذه الأزمة، ومن أجل الابتعاد عن لعب دور القوة الإقليمية المهيمنة والتي قد تثير بعض الحساسيات السياسية، غير أن العامل الآخر الذي يثير مزيدا من المخاوف هو إمكانية استفادة تنظيم قاعدة المغرب الإسلامي من الوضع الأمني المتدهور لتوسيع دائرة نشاطه الإرهابي، وقد كان الاعتداء على مقر الدرك الوطني تمنراست قبل ثلاثة أيام مؤشرا مقلقا على الآثار السلبية التي يمكن أن تتركها التطورات الإقليمية على أمن الجزائر، ومن هنا فإن الندوة الدولية التي يراد عقدها في الجزائر ستعمل على وضع خطة للتعامل مع كل هذه التفاصيل التي تشكل صورة الوضع القائم في منطقة الساحل.