أرجع البروفيسور محمد طيبي، أستاذ علم الاجتماع السياسي، استمرار الأزمة في بيت جبهة التحرير الوطني لمدة قاربت السنة أشهر إلى إستراتيجيات بعض الأطراف داخل الحزب نحو "التموقع" في ظل غياب وضُعف النخب القادرة على "تجديد الفكر الوطني"، ويرى أنه من الطبيعي أن يأخذ هذا "المخاض التجديدي" مزيدا من الوقت قبل أن تتضح الصورة أكثر، واعتبر في هذا الحديث الذي خصّ به "الأيام" أن "الأفلان" مرتبط كفكر وروح بصناعة الدولة ولذلك فهو يقلل من مخاوف إحالة الجبهة على المتحف مثلما تطالب به بعض الأطراف السياسية. الأزمة في جبهة التحرير الوطني مستمرة رغم مرور قرابة الستة الأشهر عن سحب الثقة من بلخادم، والوضع داخل الحزب لا يزال يراوح مكانه بل تطوّر إلى حدّ انقلاب أعضاء المكتب السياسي عن المنسق عبد الرحمان بلعياط، ما هي المشكلة في الأفلان بالضبط؟ هناك مستويات لفهم ما أسميته أنت أزمة تنظيمية داخل جبهة التحرير الوطني، فالحزب عتيد وتاريخي وثقيل على مستوى التأثير على التوازنات السياسية في البلد، فهو في الأساس يعيش مخاضات تُرجمت في شكل أزمة، ف "الأفلان" يعيش من جهة مخاضات أجيال فأصبح واجبا عليه أن يتجدد، وهنا أقصد جيل الوطنية المنتصرة، كما أنه يعيش أيضا مأزق تجديد الفكر الوطني في ذاته، بل إن الحزب يعيش ما أعتبره "إستراتيجيات الأفراد في التموقع" في مناصب القرار وأخذ نصيب من السلطة. إذن فكل هذه العناصر مجتمعة في الساحة تجعل من جبهة التحرير الوطني قبلة الملاحظين وتطرح على من ينتمي إليها العديد من الخيارات. بحسب اعتقادي فإن أهمّ خيار الآن الذي هو مرتبط مع ما أسميته أنت الأزمة، هو تدعيم الخط الوطني المنتصر تاريخيا لجيل جديد وفكر جديد وتنظيم يليق مع الصراعات الحزبية والواجهة السياسية للأفلان، وبالتالي فإنه بقدر ما يعيش الحزب مأزقا أو أزمة فهو يعيش مخاضا تجديديا قد لم يجد الآن، لأسباب قد نتناقش فيها، البديل التجديدي والاجتهادي والقيادة التي يمكن لها أن تستثمر في هذا الموروث الجبهوي لتقنع به الرأي العام من جهة في المواعيد الانتخابية، وثانيا لأن تجعل من الحزب حزبا حديثا وحدثيا وأصيلا. ومن هذا المنطلق نحن الآن في جبهة التحرير الوطني – بغضّ النظر عن الأزمة الموجودة- في ورشة تجديدية مفتوحة، وهذه الورشة بحاجة ماسة إلى نخب جديدة، وبالتالي فإن ضُعف هذه النخب هو ما يدفع بعض العناصر التي تبحث عن السلطان وتجسيد السلطة والقيادة هي التي تصنع الأزمة وتريد أن تحلها من خلال إستراتيجيات التموقع في المناصب القيادية وليس من خلال إعادة إنتاج الفكر الوطني أو من خلال الاستجابة لما تقتضيه الجبهة في عصر التعددية، ولذلك أؤكد بأننا أمام ورشة سياسية كبيرة في "الأفلان". أمام ما وصفتموه ب "الصراع على التجديد" وبين الصراع على التموقع إلى أين يتجه "الأفلان" ما دام أن المخاض أخذ أكثر من وقته بكثير ولم تتضح بعد معالم الانفراج؟ بالفعل هذا المخاض يحتاج إلى وقت وهذا ما يفسر بقاء الحزب طيلة هذه الفترة يصارع من أجل اختيار أمين عام، وهذا الأمر عادة ما عهدناه في أحزاب الحركة الوطنية، وهو وضع ساد حتى في عهد مصالي الحاج وفي جبهة التحرير العام 1954 وفي الجبهة كذلك العام 1962، هذا يعني أن جبهة التحرير الوطني مرّت بهذه المخاضات الكبيرة، واللافت أنها كانت غالبا ما تنتصر على صراع الأجيال مثلما حصل مع عبان رمضان وفي عهد الرئيس الراحل أحمد بن بلة في 1964. لكن الجديد في أزمة جبهة التحرير الوطني اليوم هو أنها لم تعد ملكا لقيادة وإنما هي ملك لجيل، وهي في المقابل أمام خيارات محدودة فإما يُمكن لهذا الجيل أن يحتوي ويطوّر طاقاتها السياسية والجعل منها حزبا منافسا ومجدّدا وحتى أقول القاعدة الأساسية لبناء الدولة الوطنية، وأعتقد جازما بأن هذا هو الحلّ، وإلا فستأتي حلول أزمات من تيارات سياسية أخرى لأنه عندما لا تتمكن جبهة التحرير الوطني من النهوض فإن المجتمع سيبحث آليا عن تأثير آخر وهذا أكبر تهديد يمكن أن تواجهه الجبهة لأنها تحتاج الآن إلى وثيقة فكرية سياسية جديدة وليس فقط إلى من يكون الأمين العام أم من لا يكون، ولهذا نحن أمام الخط التجديدي أكثر منه مسألة تنظيمية مثلما يحاول البعض تصويره للرأي العام. لكن هذا التجديد مطلوب في فترة حساسة خاصة مع قرب استحقاق هام يريد "الأفلان" أن يكون رقما مهما فيه، ويتعلق الأمر برئاسيات 2014، أليس كذلك؟ صحيح، هذا السؤال في غاية الأهمية، فجبهة التحرير الوطني بقدر ما صنعت الثورة في 1954 فإن تأسيسها كان نتاج أزمة قيادات داخل حركة انتصار الحريات الديمقراطية، ومع بداية الاستقلال كان "الأفلان" المحك بين قادة الثورة، فالرئيس الراحل محمد بوضياف غادرها وكريم بلقاسم كذلك، ثم بعد ذلك كانت أزمة 1964 في مؤتمر الجبهة التي تحوّلت فيما بعد إلى جهاز في الدولة في عهد الحزب الواحد. ومن هذه الزاوية يتأكد أن جبهة التحرير الوطني مرتبطة في روحها وبتاريخها كفكر ومرجعية، وأكثر كونها مرتبطة كثقل سياسي وبشري بصناعة الدولة، فإما أنها تصنع الدولة أو أن الدولة تستأثر بها لتكون قائمة كنظام سياسي. ولذلك صحيح أن استحقاق 2014 سيكون لجبهة التحرير الوطني ثقل وربما مخارج النظام السياسي. وأعتقد أن هذا مصير الفكر الوطني، وعليه فإن المطلوب منه أن يتجدّد لأننا نحن لا نريده أن يتبدّد أصلا لأنه إذا حصل ذلك ستضيع روح الوطنية المنتصرة ويفتح تاريخا جديدا، وبالتالي فإن الجزائريين لا يزالون مرتبطين إلى حدّ كبير بالإنجازات الانتصارية التي حققها جيل من الشهداء العظام ما يعني أن جبهة التحرير الوطني جزء من هذه الروح حتى وإن عاث في الجبهة البعض ممن لا يستحق الجبهة.