لم يتم تنفيذ العملية العسكرية الغربية على سوريا بالسرعة التي كانت متوقعة أول مرة، فالقرار يمر بتعقيدات لم تكن في الحسبان، وحتى التصويت في الكونغرس لم يعد مجرد إجراء محسوم النتائج لصالح الرئيس باراك أوباما. أشار استطلاع للرأي نشرت نتائجه جريدة نيويورك تايمز أن أغلبية الأمريكيين يعارضون شن عمل عسكري ضد سوريا، وفي مقابل ذلك كان حوالي 90 بالمائة من الذين تم استجوابهم مع إرسال أعضاء الكونغرس إلى القتال في سوريا. وإذا كانت التجارب السابقة قد أكدت أن توجهات الرأي لا تؤثر كثيرا على قرارات الإدارة الأمريكية، فإن العامل الذي قد يغير الوضع هو التوجه داخل الكونغرس نحو معارضة تنفيذ عمل عسكري ضد سوريا، فقد نقلت رويترز أنه وفقا لاحصاء أجرته صحيفة واشنطن بوست أبدى ربع أعضاء مجلس الشيوخ المكون من 100 عضو وأقل من 25 عضوا من مجلس النواب المكون من 435 عضوا استعدادا للموافقة على طلب أوباما في تصريحات مسجلة، والاعضاء المسجلون على أنهم يعارضون طلب أوباما هم 17 عضوا بمجلس الشيوخ و111 عضوا في مجلس النواب، ونقلت الوكالة عن مايك روجرز رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب، وهو مؤيد لتدخل عسكري في سوريا، قوله "يوجد قائد عام متردد باديء ذي بدء.. يحاول أن يخرج على الشعب الامريكي ويقول .. سوف أفعل شيئا لكنني لن أفعل الكثير، إنهم غير واثقين بشأن ما نحاول عمله بالضبط". حالة الارتباك هذه لا تعود إلى حسابات سياسية داخلية أو إلى توازنات في الكونغرس الأمريكي بل هي نتاج للمواقف الروسية ولموازين القوى على أرض الصراع، فقد أظهرت روسيا مزيدا من الصلابة في موقفها، وقد كان خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحا الأسبوع الماضي خلال قمة العشرين التي انعقدت بمدينة سان بيترسبورغ الروسية، وقد عبر بوتين عن عدم اقتناعه بما يقدمه الأمريكيون من أدلة مزعومة تؤكد مسؤولية الجيش السوري على الهجوم بسلاح كيمياوي على الغوطة الشرقية، ورغم تصريحات سابقة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أكد فيها أن بلاده لن تحارب أحدا في سوريا، فإن موقف موسكو بدا أكثر صلابة من المتوقع وهو ما يعني أن الدعم الذي تقدمه للنظام القائم في دمشق قد يتواصل وربما يزيد. رغم أن الروس لم يتبنوا خطابا محرجا لأوباما إلا أن الشك بدأ يحوم حول قدرة الرئيس الأمريكي على حشد الدعم اللازم لإنجاح العملية ضد سوريا، وقد بدأ الشك بانسحاب بريطانيا أولا بعد رفض البرلمان الترخيص بالمشاركة في العملية المزمع تنفيذها، وقد ظهرت أمريكا في حالة عزلة سياسية رغم الدعم الذي تلقاه من بعض الدول الغربية مثل فرنسا وإيطاليا وبتشجيع كبير من إسرائيل، وقد كان قرار أوباما اللجوء إلى الكونغرس في حد ذاته إشارة إلى حالة من التردد ومحاولة لكسب مزيد من الوقت لبناء تحالف أكثر تماسكا. الوقت الذي استهلكه الاستعداد للعملية العسكرية سياسيا أدى إلى خفض سقف الأهداف التي تنوي أمريكا تحقيقها من خلال ضرباتها العسكرية، ويتوقع بعض المسؤولين الأمريكيين أن يؤكد خطاب أوباما اليوم الثلاثاء هذا التوجه حين يشير إلى عمل عسكري سيجري تنفيذه لكنه لن يتجاوز توجيه ضربات خاطفة لا تستغرق وقتا طويلا، وهو ما يعني أنها ستكون أقل شأنا من التدخل في ليبيا وبعيدة تماما عن الصيغة التي تم اعتمادها في أفغانستان والعراق والتي قامت على الغزو البري والاحتلال والتي انتهت إلى فشل كبير. من الناحية السياسية يبدو أن العمل العسكري المنتظر لن يغير بشكل حاسم موازين القوى على الأرض، فالأمر يكاد يتحول إلى محاولة لإنقاذ ماء وجه إدارة أوباما وعدم الوقوع في حرج التراجع عن التدخل الذي تم تبريره أخلاقيا منذ البداية، لكن الأمر يتجاوز هذه التفاصيل ليصل إلى حد السعي إلى التأثير على قدرات الجيش السوري وضرب أهداف تعتبرها إسرائيل حيوية، ويمهد الطريق لمفاوضات أكثر توازنا تفضي إلى حل سياسي للأزمة الدموية التي استغرقت أكثر من سنتين ونصف. ما يجري الآن في سوريا يشير بوضوح إلى أن طبيعة الصراع أكثر تعقيدا مما تريد وسائل الإعلام تصويره، ففي حالة ليبيا لم يستغرق التدخل وقتا طويلا، ولم تواجه الإدارة الأمريكية أي متاعب في بناء تحالف دولي، كما أن الضربات التي تم تنفيذها تحت غطاء الحلف الأطلسي أدت إلى تقويض نظام القذافي، وحتى روسيا التي كانت علاقة قوية بنظام طرابلس لم تفعل أي شيء من أجل إنقاذه، غير أن الوضع اختلف هذه المرة، حيث تمثل سوريا أهم نقاط الارتكاز بالنسبة لموسكو التي بدأت خلال السنوات الأخيرة بلورة استراتيجية واضحة المعالم للعودة إلى الساحة الدولية كقوة مؤثرة، ولم تظهر روسيا أي رغبة في التنازل للولايات المتحدة التي تريد إعادة صياغة التوازنات في منطقة الشرق الأوسط برمتها من خلال فرض نظام جديد في سوريا بالموازاة مع تصفية القضية الفلسطينية وتفكيك المقاومة في لبنان وفلسطين. طريقة إدارة الأزمة السورية، والصدام الحاصل علنا بين روسيا وأمريكا، والدور النشيط الذي تلعبه بعض القوى الإقليمية مثل إيران، كلها عوامل توحي بأن المشروع السياسي الذي يجري تنفيذه يتجاوز بكثير مجرد ممارسات قمعية من نظام ديكتاتوري يستحق الإدانة كما تقول القوى الغربية، ولأن الأمريكيين يعلمون بأن إعادة ترتيب منطقة حيوية ومضطربة مثل الشرق الأوسط لن يكون سهلا ولا سريعا فإنهم بدأوا من الآن تحضير الرأي العام الأمريكي لتقبل حقيقة أن النظام القادم في سوريا سيكون ثمرة تفاوض دولي وإقليمي شاق، وأن مشاركة حكومة دمشق الحالية في صياغته سيكون أمرا حتميا لتجنب الفوضى الشاملة التي قد تفلت من الرقابة وتضع المنطقة برمتها على كف عفريت.