مشروع "كلمة" للترجمة، التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، هو مبادرة جديدة وطموحة تدعم ترجمة أرقى المؤلفات من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية، وكل عام يختار "كلمة" 100 كتاب من أهم المؤلفات العالمية الكلاسيكية والحديثة ومن مختلف اللغات ليقدمها إلى القارئ العربي بلغته. وكثيرة هي المؤلفات التي ترجمها المشروع في خطوة واسعة نحو فتح آفاق عالمية أمام القارئ والمبدع العربيين، حيث تنوعت ترجماته عن مختلف اللغات ولمختلف صنوف الأدب، في اختيارات مميزة لأهم وأبرز الأعمال الأدبية العالمية وأكثرها قيمة. بمناسبة الدورة الحالية لمعرض أبوظبي الدوليّ للكتاب، تُصدر سلسلة الأدب الفرنسيّ في مشروع «كلمة» للترجمة، التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، ترجمات جديدة لعدّة أعمال سردية ونقدية فرنسية، كلاسيكية ومعاصرة. كما أعلنت إدارة المشروع عن بدء التّحضير لترجمة منتخبات واسعة من أعمال أهمّ شعراء اللّغة الفرنسيّة تتوزّع على مئة كتاب، ستشارك في نقلها إلى العربية نخبة من أجود المترجمين العرب. وستحمل هذه السلسلة الفرعيّة داخل السلسلة الكبرى المخصّصة للأدب الفرنسيّ عنوان "شعراء اللغة الفرنسية في مئة كتاب"، وليس "الشعر الفرنسيّ في مئة كتاب".
خطوات طموحة
محتويات هذه المجلّدات لن تقتصر على منتخبات واسعة من أعمال الشعراء الفرنسيين، بل ستضمّ أيضا منتخبات من أعمال أكبر الشعراء غير الفرنسيين الذين كتبوا أشعارهم بالفرنسيّة، سواء كانوا من أبناء الأقطار الغربية الأخرى الناطقة بالفرنسية، مثل كيبيك وبلجيكا وسويسرا، أو من أبناء المستعمرات الفرنسية السابقة كأقطار أفريقيا السوداء والمغرب العربيّ ولبنان، أو من أبناء مقاطعات فرنسا لما وراء البحار، جزر الأنتيل خاصّة. وبهذه المناسبة صرّح جمعة القبيسي، المدير التنفيذي لدار الكتب الوطنية في الهيئة "أن هذه السلسلة تأتي لتضيف لبنة متينة جديدة إلى بنيان مشروع «كلمة» ورصيده المعرفيّ والأدبيّ المتزايد عاما بعد عام، والذي هو ثمرة إجراءات جديدة تماما في عالم النشر بالعربيّة، إجراءات تقوم على ديناميّة العمل الجماعيّ والتدقيق والجمع بين أعمال أدبيّة وفكريّة منفردة وسلاسل ضخمة في مختلف الميادين، تلبّي حاجة القرّاء والمبدعين والمفكّرين العرب إلى إطلالات معمّقة على أكبر مناهل المعرفة والأدب. فكلّ سلسلة تمثّل في حدّ ذاتها مكتبة متكاملة في الميدان المعنيّ". ومن جانبه يؤكّد الباحث علي بن تميم، مدير إدارة البرامج في دار الكتب "أنّ سلسلة الترجمات هذه تأتي لتكمّل خطوات جادّة وطموحة سبق أن بادر إليها المشروع في التعريف بالشعر العالميّ، نذكر منها ترجمة منتخبات من الشعر الأميركيّ المعاصر في خمسة عشر مجلّدا، قام بها سامر أبوهوّاش، وترجمة كاظم جهاد لأشعار راينر ماريا ريلكه في ثلاثة مجلّدات، وترجمة محمّد عناني لملحمة «الفردوس المفقود» لجون ميلتون، وملحمة الهند «الراميانة» التي كان قد ترجمها إلى العربية نظما وديع البستاني، ونشرها مشروع «كلمة» لأوّل مرّة بتحقيق الدكتور خليل الشيخ وتقديمه، هذا بالإضافة إلى العديد من الترجمات لمجموعات شعرية ودراسات في نقد الشعر آتية من مختلف اللّغات". ويضيف بن تميم "إنّ هذا كلّه إنّما يثبت أنّ الاهتمام المتواصل والمكثّف بالشّعر يشكّل جزءا لا يتجزّأ من فلسفة مشروع «كلمة» ورسالته الثقافيّة". وأوضح الشاعر والأكاديميّ العراقيّ المقيم بباريس كاظم جهاد، الذي يشرف على ترجمات الأدب الفرنسيّ التي تصدر عن المشروع ويقوم بمراجعتها، أن كتب السلسلة المئة تبدأ بفرانسوا فيّون، كبير الشعراء الفرنسيين في القرن الخامس عشر، الذي تشكّل أشعاره ما يشبه توديعا للعصر الوسيط وللكتابة باللاتينية والفرنسيّة القديمة. وإلى جانبه يبرز شارل دورليان وآلان شارتييه ومجموعة الشعراء المعروفين ب «البلاغيين العظام». ثمّ تعنى السلسلة بشعراء القرن السادس عشر، حيث أصبح الشعر الفرنسيّ أكثر ميلا إلى الغنائية وأكثر احتفالا بالمشاعر والانفعالات. وستركّز السلسلة على مجموعة «لا بليياد» أو «الكوكبة»، التي ضمّت سبعة شعراء يتزعّمهم بيار دو رونسار وجواكيم دو بيليه، عملوا، بتأثير من الإيطاليّ بترارك، على إخراج لغة الشعر الفرنسيّ من فقرها، وكذلك على كليمون مارو، الذي بدأ شاعرَ بلاط ثمّ عاش منفيّا، وعلى أغريبا دوبينييه الشاعر الاحتجاجيّ، وأخيرا على شعراء مدينة ليون، وعلى رأسهم موريس سيف والشاعرة لويز لابيه. وفي شعر القرن السابع عشر، سيتمّ التركيز على أكبر تيّارين شعريين فيه: تيّارالشعر الباروكيّ، الذي كان قد بزغ في القرن السّابق، وكان شعراؤه مولعين بزخرفة الشعر وتدعيمه بوسائل التكرار والمجانسة والأسلبة المتطرّفة والموازنة والتكرار الفنّي، ومن أهمّ أعمدته ماربوف وجان دو بوسيير وآخرون، وتيّار الشعر الكلاسيكيّ، الذي جاء ليحدّ من الفوضى التي أحدثها شعراء الباروكيّة، ومن أهمّ أعلامه ماليرب وبوالو، صاحب منظومة «فنّ الشعر» الشهيرة. وهنا يتمتّع لافونتين بمكانة خاصّة عبر خرافاته المكتوبة شعرا، كما لا يمكن نكران أهميّة تراجيديّات جان راسين وبيار كورناي للشّعر إلى جانب أهميّتها في المسرح. أمّا القرن الثامن عشر فهو، كما هو معروف، قرن الفلاسفة، فلاسفة التنوير خاصّة. لقد كتب بعضهم الشعر، كما فعل فولتير وديدرو وآخرون، وستقدّم السلسلة نماذج من أشعار هؤلاء المفكّرين والناثرين الكبار. وفي هذا القرن الذي كان ضنينا بالشعراء العظام، برزت خصوصا موهبة أندريه شينييه، الذي أُعدم في ظلّ ملابسات الثورة الفرنسية سنة 1794، والذي ستُترجَم منتخبات من أشعاره.
تحولات الشعر
بمقتضى تطوّرات هذا الشعر، ستكون حصّة الأسد في هذه السلسلة من نصيب شعراء القرنين التّاسع عشر والعشرين. فقد جاء الشعر الفرنسيّ في القرن التاسع عشر بوفرة من الأشكال والمضامين المستحدثة، وشهد سلسلة من الثورات الفنّية، من الرومنطيقيّة الفرنسية التي فرضت طابعها العميق على مجمل الشعر العالميّ، وكرّست أسماء لامارتين ودوموسيه وفينيي ودي نرفال وفكتور هوغو وألوزيوس برتران وآخرين، إلى الحركة «البرناسيّة»، التي نهضت في وجه غنائية الرومنطيقيين الأوائل، وأعلت من الفنّ قيمة بحدّ ذاته واعتبرت تيوفيل غوتييه رائدا لها، وتحلّق شعراؤها حول تيودور بانفيل ولوكونت دوليل وكاتول منديس وآخرين، إلى مدرسة الشعر الرمزيّ، التي جمعت أسماء كبرى من أمثال بول فرلين وستيفان مالارميه وآرتور رامبو، وأعطت الأولويّة لعمل الأحاسيس والرّصد الموضوعيّ للتجربة. بيد أنّ شاعرا واحدا يقف بحدّ ذاته علَما فريدا لا يمكن اختزاله إلى أيّ من هذه المدارس أو التيّارات، ذلكم هو شارل بودلير، الذي دفع بالشعر إلى الغوص في داخل الذات الإنسانيّة، كاشفا عن أغوار مائجة وقارّات عجيبة. وعلى امتداد القرن العشرين، كان الشعر الفرنسيّ مسرحا لتسارعات وانفجارات شتّى يصعب الإحاطة بها من خلال تقسيمات المدارس أو التيّارات. صحيح أنّ شعر القرن بدأ بولادة الحركة الدادائيّة، التي أطلقها السويسريّ تريستان تزارا، وصحيح أيضا أنّه شهد من بَعدُ قيام الحركة السوريالية، التي تلقى في أعمال أندريه بريتون وفيليب سوبو وفي أعمال بول إيلوار ولوي أراغون الأولى أفضل تجلّياتها، وصحيح أخيرا أنّ هذا الشعر شهد في ما بعد نشأة حركات أخرى أقلّ أهميّة من تلك السابقة. بيد أنّه سيكون أكثر دقّة الكلام هنا عن شعراء يفرض عمل كلّ منهم نفسه اتّجاها بحدّ ذاته، دون أن يمنع هذا من معاينة تلاقيات وتقاربات. كما نرى لدى شعراء بداية القرن شعراء «العالم الجديد» أو «الواقع الجديد»، وعلى رأسهم غيوم أبولينير وبليز سندرار. أو شعراء الأناشيد الاحتفالية والكونية شبه الملحمية، يتسيّدهم بول كلوديل وسان جون بيرس. أو شعراء القبول بالعالم وبالحياة، من أمثال فكتور سيغالين وفاليري لاربو وجول سوبرفييل وبيار ريفردي. أو شعراء الرّفض، ممّن يغوصون في ظلام العالَم ويغلّبون النزعة النقدية أو نزعة التعرية، كما لدى أنطونان آرتو أو هنري ميشو في ما بَعد، أو شعراء التأمّلات الفلسفية على خلفية غنائيّة محدّثة كما لدى رنيه شار وجاك دوبان، أو شعراء اللّغة اليومية غير الخالية من السخرية ولا من الطرافة كما لدى جاك بريفير وماكس جاكوب، أو شعراء النزعة الروحانية أو الدينية، من أمثال جان غروجان وجانكلود رونار وبيار إيمانويل وبارتريس دولاتور دوبان، أو شعراء الماديّة الموضوعيّة كما في كتابات فرانسيس بونج وأوجين غيلفيك. أو شعراء التلاعبات اللغوية والشكليّة من أمثال ألفريد جاري وجان تارديو وريمون كونو، أو شعراء الشكل الصافي، سواء أكانوا ممّن يحترسون من إمكانات اللّغة وشطط الغنائيّة «غير المشذّبة»، كما لدى إيف بونفوا والسويسريّ الأصل فيليب جاكوتيه، أو ممّن ينزعون إلى الوثوق بإمكانات اللّغة ويلتمسون منها أن تقول كلّ شيء كما في أعمال ميشيل دُغي وأندريه دوبوشيه. وكما أُشيرَ إليه أعلاه، ستعنى السلسلة عناية خاصّة وغير مسبوقة بما استضافه الشعر المكتوب بالفرنسية في القرن العشرين من أعمال كبرى ومتميّزة كتبها بالفرنسية شعراء غير فرنسيين تجاوزوا في حالات كثيرة همومهم ومعالجاتهم الوطنية والقومية والتحرّرية، وهي مهمّة في حدّ ذاتها بطبيعة الحال، تجاوزوها إلى هموم إنسانيّة شاملة وقدّموا نصوصا أنعشت إيقاعات الشعر.