الأدب الإفريقي في الجامعات البريطانية محور أشغال دورة تكوينية بجامعة البليدة 2    المجلس الشعبي الوطني: مدير ديوان الحج والعمرة يستعرض آخر تحضيرات موسم الحج 1446ه    الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية تطلق استراتيجية شاملة لتعزيز روح ريادة الأعمال في الجزائر    سياسات ترامب و"النهاية الناعمة" لأوروبا    وزارة الفلاحة تعرض المخطط الأولي لتسيير عملية أضاحي العيد    افتتاح فعاليات الطبعة الأولى لأيام "سيرتا للفيلم القصير" بمسرح قسنطينة الجهوي    العرض الشرفي الأول لفيلم "طيور السلام" يسلط الضوء على تضامن الأطفال الجزائريين مع غزة    ضبط 66 كلغ من الكوكايين في أدرار خلال عملية نوعية للجيش الوطني    وزارة الصحة تنظّم يوماً تحسيسياً لفائدة البعثة الطبية المتوجّهة إلى البقاع المقدسة    افتتاح جناح الجزائر بالمعرض العالمي "أوساكا-كانساي 2025" باليابان    بادي: اعتراف فرنسا وأمريكا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية يُعقّد مهمة دي ميستورا ويُقوّض فرص السلام    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح اللقاء الثاني مع المتعاملين الاقتصاديين    تساقط أمطار رعدية بعدة ولايات من البلاد إلى غاية هذا الإثنين    البطولة الوطنية للجيدو أواسط بوهران: تتويج ناديي أولاد الباهية ذكور ومولودية الجزائرإناث    غزة : ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 50944 شهيدا و116156 مصابا    وهران: متحف "أحمد زبانة" يحتفي بشهر التراث ببرنامج ثري ومتنوع    فلسطين: مستوطنون صهاينة يقتحمون الأقصى بحماية من قوات الاحتلال    على الجميع الانخراط في مسعى وطني بهدف حماية مجتمعنا    محاولة فاشلة" للنيل من مواقف الجزائر النبيلة و المبدئية    نسعى إلى تحديث آليات إدارة الأوقاف وتسييرها واستغلالها"    الصمت الدولي "جريمة موازية لا تقل بشاعة عن القتل والقصف"    يحي سعد الدين نايلي مديراً عاماً جديداً لصيدال    الكاف تراسل المولودية    الوفاق يتقدّم..    مرّاد يجتمع بنظيره الإيطالي    مجلس الأمة: استقبال وفد صيني    سقوط 543 ضحية في يومين بين قتيل وجريح    على خلفية نشر صور ومقاطع فيديو لعمليات الوشم مخلة بالحياء    غريب يشرف على إعادة تشغيل مصنع جيكا    عطاف يحل في زيارة رسمية بإثيوبيا    منظمات وطنية تُندّد بموقف حكومة مالي    11 موقعاً جزائرياً.. نحو العالمية    بسكرة عاصمة للشِعر    عربٌ.. ولكنهم إلى الاحتلال أقرب!    تقرير جديد يوثّق تصاعد جرائم الاحتلال المغربي    عطّاف: نُواصل دعم الفلسطينيين    إشراق شعيب تهزم البطلة الهندية بوجا بال    الطغمة العسكرية ترهن مصالح الشعب المالي    رؤية استراتيجية ومشاريع ملموسة للتحوّل الرقمي بالجزائر    فرض رسوم على إعادة بيع السيارات لوضع حد للمضاربة    ملتقى دولي حول التراث الجزائري المخطوط    هذا هو المبلغ الأقصى للسحب اليومي عبر مكاتب البريد    106 مشروع لتنمية وعصرنة أربع بلديات    رفع ملف مفصّل حول احتياجات الولاية إلى السلطات العليا    أزمة الهوية في الدراما التلفزيونية الجزائرية    تركيز الاهتمام على السينما الفلسطينية    أزمة في تونس بسبب بلايلي والترجي يهدد بالانسحاب    مدرب فينورد يدافع عن حاج موسى ويشيد بإمكانياته    "السياسي" في تربص بسيدي موسى    السياحة بسكيكدة تتدعم بهياكل جديدة    مجمع صيدال: تعيين السيد يحي سعد الدين نايلي مديرا عاما جديدا    والي العاصمة يعاين مشاريع تهيئة الواجهة البحرية    ليلة لا تُنسى بقسنطينة    السهر على توفير كل التخصصات الطبية بالمصالح الطبية الإستشفائة    كفارة الغيبة    بالصبر يُزهر النصر    الحضارات الإنسانية لا تعادي الثقافات النبيلة    الجزائر محمية باللّه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حلّ لكل مشكلة
ميشيل كيلو

لم يعرف التاريخ مجتمعا خلا من المشاكل أو أقلع عن إنتاجها ومواجهتها. إن مجتمعاً بلا مشاكل هو ببساطة مجتمع ميت أو لم يوجد بعد، ولم يعرف التاريخ كذلك شخصاً أمضى حياته من دون أن تواجهه مشكلة أو تطرح نفسها عليه مشكلات تتطلب حلولا.
عالم الإنسان ناقص، وهو يقبل التحسين، والتحسين محال من دون مراجعة ونقد ما هو قائم أو مُعطى وإزالة ما فيه من نواقص وتصحيح ما يشوبه من أخطاء وعيوب، وفي هذا بالذات تكمن عظمة هذا العالم وتتبدى روعة الإنسان، الكائن العاقل القادر على تعديل حياته وإثرائها بجوانب لم تكن فيها أصلا والذي لا يعيش عادة على ما يصل إليه من عادات وأعراف وسبل تفكير ومناهج حياة، بل يبتكر ما يجعل وجوده قابلا لتحسين منظم ومتواصل، ينطلق من التسليم بوجود نواقص تسم كل شيء في محيطه وفيه هو شخصيا والإيمان بحاجته إلى التخلّص من هذه النواقص وبقدرته على تحرير نفسه منها.
تلك هي سنّة الكون. لو كان الإنسان كاملا، ولو كان وجوده خاليا من العيوب لكانت حياته شبيهة بحياة النحل أو النمل، ولاتصفت برتابة قاتلة تستعاد فيها الحركات عينها إلى ما لا نهاية، ضمن عالم مرتب ومنسق وتكراري، عالم بلا روح وبلا إبداع، عالم غير إنساني، وليس عالماً للإنسان يصنعه الإنسان ذاته، فهو قابل للتحسين والتطوير ويحمل بصماته المبدعة التي تجعله يصمد أمام الصعاب ويدحرها؛ بالتفكير في حلول للمشكلات الناجمة عنها والعمل على تعديل مواقفه منها وتغيير طابعها، رغم ما يلقاه من فشل ويواكب جهوده من صعوبات وعقبات وإخفاقات ويستجد بالنسبة إليه من معضلات مستعصية، تجدد نفسها بقدر ما يجدد هو محاولات التغلب عليها، وتبدي له أوجهاً جديدة يتخطاها بما يبتدع من حلول ملائمة ومبتكرة.
سنّة الكون النقص وعدم الكمال، لذا تُطرح دائماً أسئلة لا يملك الإنسان أجوبة وردوداً صحيحة أو مناسبة عليها، فالحقيقة حمّالة أوجه، تظهر دوماً جوانب منها وتختفي أخرى، فيبدو الإنسان عاجزاً عن كشف أسرارها، لكن مرور الزمن وتراكم التجربة يساعدانه على تلمّس طريقه إلى معرفتها، في حين تكون هي قد انتقلت إلى طور جديد ومختلف من أطوارها، يضمر أسرارا لا نعرفها ويفصح عن أخرى نضع يدنا على معانيها، وهكذا دواليك.
ليس عيبا أن يكون الإنسان ناقص معرفة، فهذا هو وضع الإنسان الطبيعي وكل إنسان هو في الواقع ناقص معرفة، فمن الخطأ والمعيب أن يزعم إنسان معرفة كل شيء وكل أمر، ويكون لديه جواب واحد وقطعي عن كل سؤال يطرحه الواقع عليه، إلى هذا ثمة نمط من حل المشكلات يبدو ظاهرياً وكأنه يلبي حاجة الإنسان إلى السيطرة على واقعه، وتطلّعه إلى التخلّص من قلق الجهل والعجز عن مواجهة مشكلاته، هذا النمط من الحلول، على وضوحه، ليست فيه حلول حقيقية، بل هو يعطّل بالأحرى الحلول، ولعل مشكلة العرب الكبرى تكمن منذ سنوات كثيرة في حقيقة أن لديهم حلاً لكل مشكلة وأن حلولهم تعميمية وقطعية، يستوي فيها الماء والخشب، كما يقال، فوجودها كعدمه، ووظيفتها نفسية وليست عقلية/ معرفية أو عملية، لذلك قلت إنها تسد الطريق إلى المعرفة ولا ترضي غير بسطاء العقول الذين تظهر لهم بمظهر مقنع يحول دون قيامهم بجهد شخصي، عقلي/ معرفي، يسهمون من خلاله في بلوغ حلّ لمشكلة من مشاكلهم أو في تغيير وجه من وجوه الواقع لصالحهم.
سأورد الآن أمثلة على هذا النمط من الحلول؛ العمومي والمناقض لسنة الكون والعقل.
إذا قلت في حضرة معظم مواطنيك العرب إن التجزئة العربية تضرّ بنا وتسهم في تجميد تطوّرنا وتمنعنا من رد التحديات التي تهددنا، قالوا: هذا والله صحيح، فلا حل إلا بالوحدة العربية، وإذا ذكرت أرقاماً عن الفقر المتزايد الانتشار في عالمنا العربي، قال سامعوك: يا أخي، ما فيه حل إلا العدالة الاجتماعية، وإذا تحدثت عن هزائمنا أمام "إسرائيل"، أخبرك محدثك بأن الحل هو إنزال ضربة ماحقة بالصهاينة لا تبقي ولا تذر.
هذه عيّنة من الحلول التي ليست حلولا، بل هي مجرّد كلمات تتضمن معان مقابلة ومناقضة لمعاني الأمر القائم العربي، ترى في الوحدة الرد على التجزئة وفي العدالة الجواب على الفقر وفي تحرير فلسطين نهاية هزائم العرب، أرجو ألا يبتسم القارئ إذا أخبرته بأن مفكرين عربا كبارا كتبوا مقالات تقول: لا رد على التجزئة غير الوحدة، بينما جزم آخرون بأن الفقر لا يهزم بغير العدالة الاجتماعية، و"إسرائيل" لن تقلع عن إلحاق الهزائم بنا حتى نسدد لها ضربة قاضية، وفسر الماء بعد الجهد بالماء: هذا ما كان أجدادنا يقولونه، عندما كانوا يسمعون حلولا كهذه لمشكلاتهم، ترضي السامع ولا تبدل شيئاً في الواقع، فلا يموت الذئب ولا يفني الغنم، وتكون الحلول دليلاً دامغاً على فقر عقلي وعلى العجز عن ابتكار حلول حقيقية وعملية، تتسم بالشمول والتفصيل والعقلانية، وتتضمن خططاً تنفيذية تساعد على بلوغها، تحدد ما يتطلبه ذلك من جهود وقدرات، وما سيمر فيه من مراحل ويقتضيه تحقيقه من وقت، وتعيّن طبيعة الهدف الذي سيتم تحقيقه من خلاله وهوية الصعاب والمعوقات التي ستواجه القائمين عليه، تخطيطاً وتنفيذاً وفي كل طور من أطوار تحققه، ترى ما فائدة القول: إن الوحدة هي الرد على التجزئة، هذا الكلام صحيح، لكنه سفسطة لا معنى لها، تسكن وتخدر الخواطر من دون أن تغيّر شيئاً في الواقع، أو تضعنا على درب تحقيق الوحدة أو تضعف تجزئة أمتنا وتقرب وحدتها.
الويل كل الويل لأمة يقتات وعيها من ترهات كهذه، شاعت وراجت إلى أن هيمنت وسادت، وأخذ كل واحد منا يرددها باطمئنان أبله، مع أننا نعرف أنها لم تحدث أي أثر في حياتنا، هل كانت مشكلاتنا ستدوم وتتضخم لو كانت حلولها كلامية، جاهزة وقطعية، من نمط الحلول التي يقدمها العقل التسطيحي الفقير؟
كلا، إن مشكلاتنا كانت ستزول، عدا مشكلة واحدة هي قلة العقل، وقديماً قيل: إن قلة العقل هي أعظم مصيبة يمكن أن تنزل بفرد أو جماعة.
لن نتقدم في الوعي والواقع إذا لم ننجح في التخلي عن الحلول الكلامية/ الشكلية التي لا تحل شيئا وتتسبب بمشكلة خطيرة هي قلة العقل وفوات الوعي والرضا عن الذات، ولن نتقدم إذا لم نُعمل عقولنا ونجد حلول تحررنا، عملياً وليس لفظيا من مشكلات كثيرة تراكمت علينا، في مقدمها مشكلة قلة عقل خطيرة جعلت وعينا نمطيا ومتماثلاً، فقيراً وعديم التمايز، وجعلت أكثرنا ثقافة ومسؤولية يتحدث كأقلنا فهماً وإدراكا ويتبنى في ما يقول ويعمل حلولاً كلامية للمشكلات، هي في الحقيقة حلول بلهاء.
لن نخرج من حالنا الكارثي السائد إلا بشرطين هما:
- الاعتراف بأن لدينا مشكلات لا نملك حلولاً لها وأننا لن نقلع عن الاهتمام بها حتى نتوصل إلى حلول عملية تتكفل بإنهائها.
- الاعتراف بأن واحدة من أعظم مشكلاتنا تكمن في نمط تفكيرنا الذي يوهمنا بأن الحلول الكلامية هي حلول عملية لمشكلاتنا الواقعية.
ولن نخرج من حالنا الراهن إن واصلت حكوماتنا تعطيل عقول مواطنيها وحجبت عنهم الحق في التفكير الحر والطليق وارتكاب الأخطاء وتلمس أجوبة تفصيلية وتنفيذية عن أسئلة صعبة يطرحها عليهم بقسوة واقع معقد هم طرفه الضعيف، ولن نبارح حالنا الراهن إذا لم نعترف أخيرا بأن ما لدينا من حلول كلامية يعبّر عن قلة عقلنا، ولا يعبر بحال من الأحوال عن عبقرية تجعل حياتنا خالية، على مستوى الكلام من مشكلات جدية يقتلنا العجز عن إيجاد حلول عملية لها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.