لقد كان الدور المنوط بالنقد هو إصدار الأحكام على النصوص الإبداعية وتمييز جيّدها من رديئها، إلا أنه أصبح في الفترة المعاصرة إبحارا شبه حرّ في عوالم النص المختلفة وتأويلا لدلالاته وتشريحا لمضامينه، بل إن بعض المقاربات تنفي وجود معنى ثابت داخل الإبداع وتدعو إلى ضرورة الانطلاق من عدم وجود معنى أصلا، ولعل أبرز من يمثل هذا التوجه، المقاربة التفكيكية، ونحن هنا لا نزعم تطبيق الأخيرة على هذه القصيدة بقدر ما نستضيء ببعض رؤاها ورؤى غيرها فقط. تعب القصيدة التي بين أيدينا من معين الشعر العربي القديم قلبا وقالبا، بداية من خلال لغتها ونظمها على منوال العروض الخليلي وعلى تفعيلة البحر الطويل تحديدا "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن "، وهو أول بحور دائرة المختلف وأكثرها شيوعا في الشعر العربي، وقيل إنه سمي بالطويل لأنه أتم البحور استعمالا، أو كما قال الخليل لأنه طال بتمام أجزائه. ولما كان هذا حاله جاء مناسبا لغرض الرثاء الذي نُظمت عليه القصيدة، فكل متفجّع محترق بلظى الحزن والكمد يحتاج لمساحة اكبر لينفس عما يختلج داخل صدره. تبكي قصيدة "فقيد الحلم" الشهيد "محمد الدرة"، ذلك الصبي الصغير الذي اغتالته يد اليهود الغاشمة التي لا تفرق بين صغير وكبير ولا بين امرأة ورجل، وتحتل أرض فلسطين اغتصابا وتعيث في أرضها المقدسة فسادا، تبكيه وتبكي من خلاله كل الشهداء وترثي عبره أيضا حال العرب المزري، وكأني بها في مستهل القصيدة تكتنز كلاما كثيرا قبل أن تبدأ أول كلمة لها، ودليل هذا الكلام قولها في أول بيت "وفي أعين الطفل..."، فلماذا هذا الاستهلال بالواو العاطفة هنا، ألا تدل الواو على وجود كلام وأحاسيس ومشاعر تريد البوح هي أيضا. لقد ولدت قصيدة "فقيد الحلم" فقيدة هي الأخرى ترنو إلى العلياء، ولكن قلبها مكلوم، فالطفل الصغير أومض بغتة ورحل، وقباب القدس تنوح والثكلى تذوب مرارة... والسماء العربية كئيبة، ولكن رغم كل هذه الأوهان، لازال في الأفق بصيص أمل مادام في أعين الطفل سحابة خير ونعيم تحتضن أحلامه الوردية لتخرجها مناجما ملأى بالكنوز، هكذا أرادت الشاعرة عظيمي أن تعبّر في جمال لغوي بارز وسلاسة لغوية جلية وتصوير فني بديع نقل رؤيتها للحادثة الأليمة التي ألمت بالشهيد الرمز، النموذج والبطل فقالت سار يبني الحلم مشيدا "بالجهد الضئيل العظائما"، فهو لم يعش سوى سنوات معدودة لكنه استطاع يحقق من عمر مائة سنة أو يفوق. ويبدو من خلال قراءة مسحية لألفاظ القصيدة بأن هناك توظيفا لعدد كبير من الأفعال والتي تعكس اضطرام المشاعر في نفسية الشاعرة وتأججها إلى درجة تريد من خلالها أن تطوي مسافات عصر وأن تمحو نجاسة/يهودا كما تفعل النيران، ولكن ما يشد انتباه القارئ هنا خاصة ما جاء في البيت الرابع "وأعلو بساط القدس أرمي سنابلا..."، هذا الاستعمال لألفاظ العلو والرمي والبساط -الذي يحيلنا إلى البساط السحري- جميع هذه الألفاظ يحيلنا إلى إقرار -وبمرارة- لحالة الضعف التي تعترينا واعتراف صارخ ببعد فلسطين عنا بالرغم من أنها تعشّش في قلوبنا، فاليهود يمنعوننا إياها عنوة، وهذا ما حدا بالشاعرة لأن تنادي إيقاظا للعرب، لعل أنفة عربية قديمة تُفيق فينا بعض ما اتصف به أجدادنا من نخوة وعزة نفس، وكل هذا تضمنته الأبيات الثلاثة التالية. وتعود الشاعرة في تكرار مقصد للبيت الثاني من هذه القصيدة في البيت العاشر لتؤكد بقاء الحلم وسيرورته نحو الكمال، فبالرغم من استشهاد محمد الدرة فالحلم باق، ولكنها لا تفتأ تعود في بكاء مرير إلى حادثة الاغتيال وصفا ونقدا، غير أنها تسترجع مرة أخرى قائلة بأن براءة الشهيد صنعت عزما بإمكانه أن يدمر سوق اليهود وجمعهم، كما لاحت قباب القدس جمرا وعلقما بعد أن ناحت شهيدها من قبل، لتختم القصيدة بأبيات تدعو جميعها إلى الثبات والتزوّد بالصبر لأنه مصدر المقاومة لدى الفلسطينيين والعرب، أبيات حكمية تنم عن اختبار كبير للحياة وصروفها. ولعلنا نقرأ في هذا الانتقال من حال إلى حال شدة اضطراب وضبابية في الرؤية، نتيجة اضطراب الأوضاع وتعقدها. غير أن الذي أريد الإشارة إليه هنا هو عنوان هذه القصيدة، "ففقيد الحلم" يدل على مبالغة في الفقد وعلى شرف ما فقد وعلى من فقد الحلم، وكلها معان تصلح لأن تكون مدلولا لدال "فقيد الحلم"، وهذا أمر بديع في الشعر العربي المعاصر، فهو يوظّف العنوان باعتباره عتبة نصية يجب الولوج إلى أعماقها قبل المرور إلى النص، وباعتباره أيضا نصا أولا قبل نص القصيدة، بل نصا موازيا لها في كثير من الأحيان. ويمكن أن نقول أخيرا وليس آخرا بأن هذه القصيدة لا تزال تغرف من بحر الشعر القديم بلغة سليمة، تقريرية غالبا وتصوير فني جميل وقدرة كبيرة على تطويع البحر الشعري، إلا أنها لم تستطع بعد أن تعيش الحاضر حرية وانفلاتا وتوظيفا للرمزية والأسطورة، ولعلها تجد في هذا التعريف للشعر ما تبحث عنه، فهو عندنا "ذلك العنف المنظم في حق الكلام الاعتيادي". *الأستاذ منير مهادي، جامعة فرحات عباس