قريبا يحج إلينا الرئيس الفرنسي المنتخب حديثا فرانسوا هولاند! وهذا حدث في حد ذاته بحكم أن رئيس فرنسا، وليس ككل الرؤساء يتزوج النساء (ويطلق) ويمشي في الأسواق ويحث أن يلاقي ويتلاقى، وإنما هو أكثر من هذا، بالنسبة إلينا على الأقل مثل طبق الورد وين انحطوك يا سيدي!! حضّر خدك!! الصغير مع الصغير والكبير مع الكبير هذا هو المبدأ المتعامل به في العلاقات بين الدول… ولهذا نرى أن رئيس أمريكا لا يزور عادة دولا من العالم الثالث أو الرابع ممن ينحر فيها المسؤول أربع بقرات لتكريم مساعديه بعد أن ينجح في الانتخابات، إلا إذا كان في أيامه الأخيرة في البيت الأبيض (والأسود)! ولو أن رئيس أمريكا زارنا وهو في سدة الحكم، فقد يتحول الى تاريخ هجري جديد نؤرخ به وحتى لو جاء والتقط صورا معهم أي المسؤولين وشهد لهم بحنكتهم (وحكتهم) في الكراسي التي لا يريدون مغادرتها إلا إلى المقبرة! تلك هي القاعدة العامة مع العم سام، أما مع العم جيرار أو بيرنار وهما اسمان فرنسيان شائعان كبوعلام والهواري عندنا، فالأمر مختلف تماما بالنظر الى الإرث التاريخي الذي يجمع فرنسا بمستعمراتها السابقة والقادمة وحتى اللاحقة! فرئيس فرنسا حين يغفل ذلك ويقرر زيارة مستعمرة أو مستدمرة سابقة مستقلة حاليا يعتقد في قرارة نفسه أنه مسؤول عنها ولو بصفة غير مباشرة. فإن لم يكن يعتقد ذلك، فهو ينظر في قرارة نفسه الى كونه مازال يمارس الأبوة على تلك الدولة.. فهو إذن أبوهم وقد جاء.. فما جزاء الأب إن جاء إلى الأولاد! يفتحون الأبواب ويهتفون “بابا جاء.. بابا جاء..أو يفرشون الأرصفة والطرقات بالزرابي الحمراء والبساط من مختلف الألوان ويرفعون الأعلام و”يتكستمون” ويتعطرون، ويلوون ألسنتهم ويعودون إلى كتب اللغة والتعبير لأهل فولتير، لكي يثبتوا له إن هو تكلم معهم أنهم مازالوا على العهد باقين وعلى حب لغة فرنسا مستميتين وسيقاتلون من أجلها بالحديد والنار لكي لا تتعرض لغتها أو مصالحها للتهديد… ويقولون قول ذلك الشاعر من قال إني قد حقدت عليه.. بعد أن جاءنا كالذيب والبراءة في عينيه! لهذا لا بد من تحضير الأيادي للمصافحة والخدين للبوس.. ويا عم هولاند (والدنمارك) شبيك لبيك أنت في بلدك الثاني الذي تركت وكلمة منك في باب التاريخ والجغرافيا المشتركة كفيلة بأن تقلب الصفحة أو تطويها طي الكتاب والسحاب! والأمر بيدك يا هولاند… لكي تبادر إن أمكن تغدق علينا بالفيزا بمقدار أكبر وسترى جيش العرب والبرر كيف سيتقاطر على فرنسا آسرة القلوب ومعشوقة الجيوب! صك بغل..! الهالة التي تحيط وتتبع زيارة أي رئيس فرنسي للجزائر تكاد تطغى على زيارات كل المسؤولين، بمن فيهم من هم أكثر منه كالمستشارة الألمانية أو حتى بوتين (وبوطين) الذي زارنا قبل أعوام كرئيس في جلد رئيس وزراء، فالمستشارأنجيلا مرت زيارتها باردة، لولا ذلك الحادث الطريف الذي تعرضت له طائرتها. فالمسكينة حدث بها ثقب بفعل سلم المطار الميكانيكي عقب هفوة تقنية كلفتها تأخيرا الى البيت مدة أربع سنوات قضتها معنا في “التقصار” على ضرورة نقل التكنولوجيا الألمانية لإخراج دولة الجهلة والأميين ممن هم فيه حتى يتعلموا على الأقل كيفية ربط الطائرة بسلم ميكانيكي. أما بوتين فقد قصر زيارته بمجرد أن أشعر بأن الاتفاق المبرم بشأن صفقة سلاح ضخمة لم تمر بالكامل.. فهو أيضا ليس لديه الوقت الكافي للخوض في مسائل لا تكون نهايتها الدفع بالدولار.. فقد ولى ذلك الزمان البريجنيفي نسبة الى الرئيس الشيوعي بريجنيف حين كان الدب الروسي لا يكثر من الحساب وهو يلعب أو يأكل أو يخدم مع الرفاق (كمراد) والأحباب! فما الذي يجعل زيارة هولاند للجزائر استثنائية إذن؟ قد تكون العلاقات البشرية والتجارية في الأساس والكل في الكل وفيما عداه فهو صك حمار أو بغل في الريح لكي يحرك (رجليه) قبل أن يستريح. ففرنسا عندها الآن احتياطي بشري كبير من الحركى وبقاياه وهؤلاء الذين ملوا الحياة الفرنسية شدهم الحنين الى بلد الأجداد والأحفاد، ويريدون العودة الى ديارهم سالمين غانمين وقد كتب على جبينهم خير العفو ما كان عند المقدرة، لأن العفو وقت الضعف جبن وثمة بالطبع ردة فعل رافضة محليا لكي يدخل هؤلاء.. فقد يكون الباب الذي يأتي منه الإعصار بعد أن يدخل الأولاد فالآباء من الأقدام السوداء، ويتبعه الفرنسيون المعمرون سابقا، قبل أن يدخل على الخط معشر اليهود الجزائريين الذين قدروا ثرواتهم التي تركوها هنا خوفا وهربا بمبلغ يتعدى نصف الاحتياطي الجزائري من العملة الصعبة، وهذا الجانب الإنساني قد يلعب فيه الرئيس الفرنسي دور الناصح أو البوليس أو حتى العريس من منطلق أنه قدم ما يشبه الاعتذار عن مجازر مظاهرات 17 أكتوبر ولا بد من أن يحصل على المقابل باعتباره “باترون” وهو الأكبر قدرا وليس سنا. أما العلاقات التجارية، ولا أقول الاقتصادية، فهي مبنية بالأساس على فكرة السوق الجزائرية سوقي وأنا بياع القرد الذي يشم الورد ولا ينقص حضرته إلا هو، ولو لم تكن رحمة من الصينيين الذين يغزون السوق وكل الأسواق العالم ثالثية ويبدون منافسة شديدة، لما استطاع أحدنا أن يعرف بعض الرفاهية مما وفرته أموال البترول الضخمة التي توزع كمسكنات ألم لكي لا يثور الثور وتتبعه الأبقار بما أن السلع الفرنسية غالية الثمن والإقبال عليها ليس في متناول الجميع.. إلا إذا كانت على وشك انتهاء صلاحيتها من الدواء وحتى بعض الآلات الصناعية التي يعاد طليها وتنظيفها وتباع على أساس أنها جديدة.. وعادة ما يكون هذا بتواطؤ رجال أعمال (واعمايل) محليين يستفيدون ويفيدون. والرئيس في فرنسا هنا لا يدخل اللعبة الاقتصادية لا أوامر له حتى على القطاع العمومي. فلكل شركة رب يحميها ويعرف مصالحها الخاصة.. فهو أكثر ما يفعله هو منح المزيد من الفيزا خاصة وهو يعلم كما حدث أيام زيارة شيراك الرسمية والشعبية كيف أن الجماهير طالبت بحق الهجرة والإقامة في بلده وهي ترفع الراية الفرنسية تصديقا لقولها! فثمة إدراك ما بين الجانبين بأن العلاقات الاستثنائية كما يصفها بعض السياسيين الجزائريين مرشحة لكي تتدعم بعد أن تهيأ الجو الداخلي في الجزائر مع التقاء مصالح العائلة الثورية والحركية في الحكم وقسمة خيرات البلاد بالعدل والإحسان بينهم. واقتراب مرحلة تجريم الجهاد بعد أن غزا المجاهدون المزيفون صفوفهم.. مثلما غزا الجهلة والسفلة مراكز حساسة في اتخاذ القرار.. وقد يكون الفاس قد اقترب من الراس مع توق وسوق بعض المستحركين المختفين للمطالبة بأحقيتهم في بطاقة مقابل قد تسمح لهم بالتعويضات المادية، وهي الأهم بالنسبة إليهم، ليصبح نصف الجزائريين تقريبا يعيشون دون الحاجة الى العمل، فهم يملكون تعويضات عن جهادهم السابق واللاحق الذي لا يموت حتى بموت الرجال!