"البلاد" تقضي ليلة في الإقامة الجامعية "المتطوع" بوهران وجبات رديئة لا تعكس حجم ميزانية القطاع والتنظيمات الطلابية لا تخدم الطالب روبورتاج: دحناش مختار حياة لا يمكن تصورها تلك التي يعيشها طلبة الجامعة الداخليون بالإقامات الجامعية، وبالرغم من أن كثرة الاحتجاجات التي يقوم بها الطلبة في كل مرة ضد رداءة الخدمات المقدمة إليهم توحي بشيء من معاناتهم، إلا أن معايشة هؤلاء الطلبة حياتهم اليومية داخل الأحياء الجامعية، ومرافقتهم في غرفة لا تليق بحياة طالب جامعي، واقتسام رغيف من الخبز الرديء ووجبة باردة معهم، وشرب الماء الملوث الذي يشربونه يجعل الواحد منا يتأسف لحال طلبة العلم، ويندى جبينه إذا ما اطلع على حجم الميزانية الضخمة المرصودة لهذا القطاع. ذلك ما قامت به "البلاد"، حيث قضت ليلة مع بعض الطلبة في إحدى الإقامات الجامعية بوهران، واكتشفت حجم المعاناة التي يعيشها من يفترض أنهم نخبة المجتمع. الكلاب المتشردة ترافق الطلبة في الأحياء الجامعية كانت وجهتنا الإقامة الجامعية "المتطوع"، وللوهلة الأولى فوجئنا بالصرامة الأمنية عند مداخل الإقامات، حيث صارت إجراءات دخول غريب إلى إقامة جامعية في غاية الصرامة، خاصة مع استحداث البطاقة المغناطيسية. ومن أجل الدخول رفقة بعض الطلبة، اضطر مرافقنا للاتصال برئيس أحد التنظيمات الطلابية من أجل تسهيل عملية دخولنا بعدما واجهتنا صرامة أعوان الأمن. وقد تمكن رئيس التنظيم الطلابي بالإقامة من إدخالنا بسهولة لم نكن نتصورها، إذ كان كافيا أن يقول لأعوان الأمن إننا ضيوف عنده، لتزول بعد ذلك تلك الصرامة التي ووجهنا بها في البداية. وبعد ذلك همس أحد الطلبة: "لا تدهشكم هذه الصرامة في تطبيق الإجراءات الأمنية لأنها لا تعكس حجم الخدمات الأخرى المقدمة لنا"، قبل أن يردف قائلا: "لا تتعجبوا من طريقة معاملة أعوان الأمن لرئيس التنظيم الطلابي، فالتنظيمات الطلابية هي الآمر الناهي في الأحياء الجامعية". وخلال جولة بسيطة في هذه الإقامة، فوجئنا بكلاب متشردة تجول في أرجاء الإقامة بكل حرية، ليضيف مرافقنا متهكما: "هل رأيتم؟ الكلاب أيضا مستثناة من الإجراءات الأمنية الصارمة!" وحين سألنا كيف يمكن لهذه الكلاب المتشردة أن تتسلل إلى الإقامة، أخبرنا الطلبة بأنهم يجهلون ذلك، وأن ما يعرفونه هو أن هذا ليس غريبا عليهم، فهم منذ أن وطئت أقدامهم الإقامة لأول مرة كطلبة داخليين وهم يشاهدون الكلاب والقطط المتشردة تكبر وتتكاثر فيها بشكل عادي وطبيعي جدا، وأن هذا الأمر مألوف في جميع الأحياء الجامعية، وأن مديريات الإقامات لا تكلف نفسها عناء القضاء عليها، بالرغم من أن وجودها يعتبر خطرا على صحة المقيمين، بحكم أنها يمكن أن تكون حاملة لأمراض خطيرة. طلبة يعيشون في غرف لا ترقى إلى مستوى طلاب العلم وخلال تنقلنا إلى الغرفة التي كنا سنقضي ليلة فيها، وقفنا على الوضعية الكارثية لأوضاع الإقامة، بداية من اهتراء أرضيتها، حيث لا توجد ممرات لائقة للوصول إلى الغرف، وكانت برك الأوحال لا تزال تغطي معظم ساحات الإقامة، ولا بأس أن تكون أرجلنا قد غاصت في بعض الوحل لعدم اعتيادنا على الطريق، لأننا سنكتشف ما هو أدهى وأمر، قال مرافقنا ضاحكا. وكانت غرفة الطلبة المستضيفين لنا في آخر بناية، وكانت البناية في حال جد متقدم من الهشاشة، إضافة إلى انعدام النظافة، حيث صادفتنا عند مدخل البناية أكوام من الخبز والمأكولات مرمية في زوايا الممر على الأرض بشكل مؤسف حقا، بسبب عدم توفر مفرغات خاصة لوضع المأكولات المتبقية. وقد كانت صيحات الطلبة وضحكاتهم تملأ الممر، إلى أن وصلنا إلى الغرفة المقصودة، وكان بابها يكاد ينهد من فرط البلى، بالرغم من أن صاحبنا أحكم إغلاقه بقفلين! في مفارقة أثارت فينا ضحكا لا يخلو من مرارة. وفتح الطالب باب الغرفة مرحبا بنا، حيث بدا لنا أنه قد بذل ما في وسعه لترتيبها وتزيينها قدر الإمكان، لكنه لم يستطع رغم ذلك ستر حال الغرفة المزري، وبدت لنا جدران الغرفة في عيوبها، حيث انجلى الطلاء عن بعضها، وحاول صاحب الغرفة ستر بعض منها بوضع غلاف تزيين عليها. وكانت الغرفة في غاية البرودة، حيث تنعدم التدفئة بالرغم من وجود أنابيب تربطها بذلك، مما يجعل الطلبة يعانون شدة البرد في فصل الشتاء، خاصة بالنسبة للغرف التي تقع في آخر البنايات. وكانت كل المستلزمات التي يحتاجها الطلبة في حياتهم اليومية متوفرة في الغرفة، حيث كانت ثمة خزانة متهرئة في إحدى الزوايا مملوءة بالدفاتر والكتب، وكان ثمة كانون في إحدى الزوايا، فاستفسرنا الطالب عن جدوى استعمال الموقد بأن الإقامة توفر لهم الغذاء، فأجابنا بأننا سنعرف الإجابة عن هذا السؤال عندما نزور المطعم خلال وجبة العشاء. وقام طالب آخر بإشعال الكانون لإعداد القهوة، حيث اكتشفنا أن الطلبة يخزنون الكثير من المأكولات والقهوة والسكر والزيت التي يشترونها أو يجلبونها من منازلهم عند عودتهم من العطلة. وقاسمنا الطلبة مائدة القهوة نتجاذب أطراف الحديث حول أحوال الدراسة، حيث كانت حياتهم تدور في ثالوث يسمونه "ثالوث الموت"، وهو: الجامعة، النادي والإقامة. الطلبة يشربون ماء ملوثا من دورة المياه ويستحمون بالماء البارد أخبرنا الطلبة أن حياة الطلبة الداخليين لا تختلف عن بعضها من إقامة إلى أخرى، حيث يكابد الطلبة نفس المعاناة. وصرح الطلبة بأن الإقامات لا تتوفر على الخدمات والمرافق الضرورية، على غرار قاعات ممارسة الرياضة، قاعات الأنترنت، الحمام والمياه الصالح للشرب، حيث فوجئنا بأنهم يشربون ماء الحنفيات، ولم نصدق هذا في بادئ الأمر، حتى ذهبنا رفقة أحد الطلبة من أجل تعبئة قارورة ماء من الحنفية في دورة المياه، حيث صدمنا برؤية طلبة آخرين يعبئون الماء أيضا، ومنهم من يشرب مباشرة من الحنفية، وقد حاولنا تذوق ذلك الماء فكان مذاقه غريبا مما جعل الطلبة ينفجرون من الضحك: "الشيء نفسه حدث لنا عندما أتينا إلى الإقامة أول يوم من التحاقنا بالجامعة، لكن مع مرور الوقت تعودنا عليه" يقول الطلبة الذين صرحوا بأن مشكل المياه مطروح في جميع الإقامات، وأن الماء الذي يشربه الطلبة ملوث ويمكن أن يتسبب في مضاعفات صحية خطيرة على حياة شاربه، وقالوا إنه ثمة بعض الطلبة يحملون شهادات طبية تؤكد إصابتهم بأمراض سببها الماء الملوث الذي يشربونه. كما يعاني المقيمون من مشكل المياه في الشتاء، حيث استغربنا أنهم كثيرا ما يضطرون للاغتسال بالماء البارد في عز الشتاء لعدم توفر الماء الساخن، بل إنهم يضطرون للاستحمام به في حمام الإقامة، مما جعل الكثير من الطلبة يفضلون الاستحمام خارج الإقامة عندما تكون ظروفهم المادية حسنة والتي غالبا تكون كذلك مع الأيام الأولى من صرف المنحة الجامعية التي يستفيدون منها والتي لا تكفيهم سوى لبضعة أيام حسب ما صرحوا به. ويقوم الطلبة في كثير من الأحيان بإعداد الغذاء بأنفسهم داخل الغرف. وجبات رديئة لا تعكس حجم ميزانية القطاع وبعد صلاة المغرب اتجهنا رفقة الطلبة إلى مطعم الإقامة، فبهرنا بالطوابير الطويلة للطلبة من أجل الحصول على وجبة الغذاء، وكان الصراخ والصياح والمناوشات بين الطلبة تملأ القاعة، ما يترك لدى الغريب الانطباع بأنه في سجن. وأخبرنا مرافقونا بأنه كثيرا ما تندلع شجارات عنيفة بين الطلبة بسبب وجبة غداء أو عشاء، مثلما حدث قبل أيام حيث نشب شجار اختلط فيه الحابل بالنابل. وانتظرنا في الطابور قرابة الساعة من أجل الحصول على وجبة في غاية الرداءة، حيث كان الحساء المقدم باردا جدا، والخبز رديء جدا يرفض الطلبة تناوله، ويكتفي غالبية الطلبة بتناول المحليات والفواكه، تاركين ما تبقى على الطاولة، ليرمى بعد ذلك في المزابل، بعدما صرفت عليه أموال ضخمة. وتعاني مطاعم الإقامات الجامعية من مشكل النظافة، خاصة في المطبخ، حيث صرح لنا الطلبة أن المطبخ لا يتوفر على أدنى شروط النظافة المطلوبة، ما يجعل الكثيرين منهم يعاف تناول الوجبات المقدمة لهم. وبعد انتهائنا من تناول وجبة العشاء، توجهنا إلى الغرفة فيما ذهب أحد الطلبة إلى محل لبيع المواد الغذائية خارج الإقامة وأحضر حبات من البيض والطماطم والبطاطا، فوجبة العشاء لم تكن كافية لتسد جوعنا طيلة ليلة كاملة، خاصة أن وجبات العشاء الرديئة تقدم في وقت باكر. قام مرافق لنا بإيقاد نار الكانون في الغرفة لإعداد وجبة عشاء أخرى، ما جعل الغرفة تعج برائحة الغاز والطبخ، وكان لا بد من فتح النافذة على مصراعيها حتى تزول تلك الرائحة. وقاسمنا الطلبة الوجبة التي أعدوها وكان جل حديثهم حياة البؤس والمعاناة التي يعيشونها، حيث يستعجل كل واحد منهم إنهاء دراسته حتى يتخلص من جحيم الإقامة الجامعية. ويفترض أن تكون التنظيمات الطلابية هي اللسان الناطق باسم الطلبة والمدافع عن حقوقهم، لكن هذه التنظيمات لم تعد تتمتع بالشعبية الطلابية التي كانت تتمتع بها من قبل، بحيث تشوهت صورتها، ولم تعد في نظر الطالب الجامعي تنظيمات تدافع عن حقوقه وإنما تدافع عن مصالحها وامتيازاتها الخاصة. التنظيمات الطلابية تتخلى عن الطالب وتدافع عن مصالحها الخاصة ولمعرفة رأي الطلبة حول التنظيمات الطلابية، قامت "البلاد" باستجواب العديد من الطلبة، فتبين أن معظم الطلبة لا يتمتعون بالفكر النضالي ولا يمارسون النشاط الجمعوي والنقابي وينفرون من كل التنظيمات الجمعوية والنقابية، وينظرون إليها نظرة فيها الكثير من عدم الثقة والتشكيك في مصداقيتها ونزاهتها. ويرى بعض الطلبة أن تلك التنظيمات في حقيقتها مغايرة تماما لما تظهر عليه في الشكل، فهي، يقول أحد الطلبة، "تظهر أنها منظمات هدفها الاهتمام بالطالب والمدافعة عن حقوقه، وترفع شعارات حماية الطالب والدفاع عنه، لكنها في الواقع تدافع عن مصالحها الخاصة". وفي حديث مع العديد من الطلبة عن مدى ثقتهم في تلك التنظيمات أكدوا لنا أنهم لا يثقون فيها إطلاقا، وهذا حسب خبرتهم، يقول طلبة سنة رابعة من قسم التاريخ، "فقد وقعنا عدة مرات في مشاكل مع الإدارة والأساتذة وكانت حقوقنا تضيع، وكنا نستنجد ببعض تلك التنظيمات لكنها لا تقدم لنا شيئا". وحول ما إذا كانوا قد تلقوا عروضا من أجل الالتحاق بالمنظمات، أجاب طلبة من قسم الشريعة أنهم تلقوا عدة عروض لكنهم رفضوا، لأنهم لا يثقون في صدقها ونزاهتها. في حين صرح طلبة آخرون بأن غالبية من يلتحقون بتلك التنظيمات ليس عن قناعة بمبادئها ومن أجل الدفاع عن حقوق الطلبة، "بل يلتحقون بها فقط من أجل الحصول على امتيازات تمنحها لهم الإدارة سواء على مستوى الجامعات أوالإقامات الجامعية، ففي هذه الأخيرة تتم معاملة طلبة التنظيمات معاملة خاصة، ويحصلون على امتيازات في الإطعام، ولهم الحق في الاستفادة من حصص تفوق حصة الطالب العادي، بل إن بعضهم ولثقل وزنهم داخل الإقامات يبسطون سيطرتهم على مختلف المصالح في الإقامات، فمثلا ممثل أحد التنظيمات الكبيرة يمتلك مفاتيح مطعم إحدى الإقامات ويدخلها وقتما شاء، وأنا أرفض الالتحاق بتنظيم من أجل الحصول على وجبة إضافية في المطعم"، يقول أحد الطلبة. من جهة أخرى يرى بعض الطلبة أن تلك التنظيمات ليست منظمات نقابية بحتة، بل هي في الغالب "تمارس أنشطة سياسية، حيث تقوم بتنفيذ أجندات أحزاب سياسية، فالعديد منها تابعة لأحزاب سياسة تقوم بتمويلها للقيام بتجنيد طلبة وتلقينهم مبادئ ذلك الحزب حتى يكونوا من إطاراته في المستقبل وهذا مما يجعل، حسبهم، الطلبة ينفرون منها ولا يثقون فيها ويشككون في مصداقيتها ووظيفتها النقابية..