يفترض التحول الديمقراطي أن تكون الحياة السياسية تتميز بالتعددية السياسية التنافسية، حيث يتم التداول على السلطة بين الأحزاب السياسية من خلال المشاركة السياسية الواسعة في رسم السياسات العامة للحكومة مع الرقابة القبلية والبعدية على الطرق التي يصرف بها المال العام من قبل السلطة التشريعية والسلطة القضائية، فأين المعارضة السياسية في الجزائر من التحول الديمقراطي ومفاهيمه الأساسية؟ هذا التساؤل كان محور مداخلة في اليوم البرلماني الذي نظمته الكتلة البرلمانية لحزب جبهة الوطنية، وقد حاولت في المداخلة أن أبرز ماهية التحول الديمقراطي وأسسه، وهل الجزائر في مرحلة الانتقال الديمقراطي أم هي تتجه نحو الرسوخ الديمقراطي؟ كانت الفكرة الأساسية التي حاولت أن أظهرها أن الجزائر تعرف مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعني أن الصراع بين القوى التقليدية في النظام السياسي والقوى الجديدة لا يزال لم يحسم بعد، حيث قوى سياسية مهيمنة ومسيطرة تستحوذ على اللعبة السياسية من خلال التحالف الرئاسي الذي يجمعه التأييد لبرنامج رئيس الجمهورية، لكن هذا التحالف يبقى في المستقبل مرهون بالتوافق حول توزيع المناصب الحكومية والتحالفات بينه في الغرفة البرلمانية. كما أن مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعيشها الجزائر لا تزال فيها السلطة التنفيذية تستحوذ على عملية صنع القرار بدون فاعلية للسلطة التشريعية من خلال أداء الرقابة التشريعية على السلطة التنفيذية، وممارسة المساءلة في طرق صرف المال العام على البرامج الحكومية. يضاف إلى هذه العناصر أن المرحلة الانتقالية لا تزال فيها المشاركة السياسية ضعيفة من حيث مؤشرات الانتخابات كما أظهرته تجربة التشريعيات والمحليات السابقة، وهذا التراجع في المشاركة السياسية مرده أساسا إلى ضعف الأداء الاجتماعي والاقتصادي لمثلي الشعب في إدارة المجالس الشعبية والمجالس المحلية، حيث أضحت المناصب التي تمثل الشعب مناصب للاسترزاق من المال العام بدون وجه حق، وممارسة الفساد المالي بكل أشكاله من سلب العقار إلى الصفقات العمومية التي خلقت بطانة مالية أضحى لها دور في تحويل المشاركة السياسية من إقناع الناخب بأهمية العملية الانتخابية إلى عزوفه عن عمل سياسي يمثل سوق لصرف المال الفاسد على الحملات الانتخابية، وهو ما أصبح يعرف في الشارع السياسي -بالشكارة- التي تعبأ البطالين للعب دور المناضلين مقابل أجرة، وهو ما جعل الأحزاب السياسية في الجزائر تعجز عن تقديم برامج سياسية وتنموية يمكنها أن تجد الإقبال والرضا من قبل الناخبين. ولعله من نافلة القول أن نعيد تكرار ما نسمعه يوميا من أن الضعف الحزبي والسياسي في الجزائر سببه النمط الاقتصادي الريعي الذي يغطي عن إفلاس سياسي رهيب، نخب سياسية ترضى بالمنح والعطايا التي توزع عليها من قبل السلطة التنفيذية ومصدرها المال العام، ومعارضة تصدعت بيوتها بعدما ذاق مناضليها بعض هذه العطايا والمنح، وأصبح نضالها كيف تحافظ على هذه الامتيازات، وهو ما جعل الكثير يتساءل ما جدوى أن نطالب السلطة بالتغير والتداول على السلطة في الوقت الذي لا يغادر رئيس الحزب مقعده إلا بعد مماته، وهي سمة تطبع معظم الأحزاب التي عجزت عن بناء ديمقراطية حقيقة داخل الحزب بينما تصر على التداول السلمي للسلطة. وأبرز ما في مرحلة الانتقال الديمقراطي أنها قد تعرف تعددية حزبية لكنها ليست تعددية تنافسية، حيث تبقى النحب التقليدية تسيطر وتحتكر المال العام وتوزعه بما يخدم بقائها في السلطة، ويتم التركيز على آليات تقليدية في ممارسة السلطة، لكن أخطر ما في فترة الانتقال الديمقراطي التي تعد فترة طويلة أنها قد تؤدي بالمجتمع إلى وضع ما قبل الحداثة في حالة فشلها، من سمات هذه المرحلة انهيار مؤسسات الدولة بسبب لجوء القوى السياسية أو الاجتماعية المتصارعة إلى توظيف القواسم المشتركة للمجتمع إلى قيم للتعبئة ضد جماعات أخرى، قد يكون توظيف العامل الديني هو أخطر هذه القيم المشتركة، بحيث يذبح الوطن باسم الدين ويتم استخدام القيم المشتركة في الاتجاه الذي يقسم المجتمع ويدخله في عنف لا متناهي، كما يمثل العامل القبلي أو الإثني أخطر التهديدات للدولة في مرحلة الانتقال الديمقراطي حيث تركن بعض القوى السياسية أو الاجتماعية إلى تعبئة الولاء للجهوية والعرقية لمواجهة جماعات أخرى، ونصبح أقرب إلى صفات الدولة الهشة التي تفقد السيطرة على العنف الشرعي كما يسميه ماكس فيبر، وتتحول القوى الاجتماعية إلى فئة أمراء الحرب، التي تخلق الفوضى بما يخدم مصالحها الإثنية، وهو حالة الصومال وأفغانستان. أما المرحلة المرجوة في الانتقال الديمقراطي أن تتجه القوى الاجتماعية إلى القبول بالتداول السلمي على السلطة وبناء مؤسسات يفصل فيها بين السلطات وفق قاعدة الرقابة والتوازن، وأفضلها في مرحلتها النهائية أن يرضى الرأي العام باللعبة الديمقراطية ويقبل على الانتخابات لشعوره بقدرة النخب على تحقيق الانجازات الاجتماعية والاقتصادية، وتصبح قناعة راسخة لديه بأن التعددية التنافسية هو نمط للحكم لا يمكن تغييره، وأي اعتداء على آلياته يؤدي إلى ثورة شعبية ضد العودة لثقافة الشكارة والفساد المالي الذي أبعده عن ممارسة حقه في السيادة .