دخل الفلسطينيون والإسرائيليون في مفاوضات غير مباشرة تحت رعاية الوسيط الأمريكي جورج ميتشل لتحريك عملية السلام في فلسطين، لكن بدون أن تكون هناك أدنى نية من قبل الطرف الإسرائيلي لبعث مسار التسوية في شكلها النهائي. فمنذ اتفاقيات أوسلو في بداية التسعينيات من القرن العشرين واليهود يماطلون ويراوغون لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية التي تمثل ثوابت إدارتهم للتفاوض مع العرب والفلسطينيين. وتلخص هذه الثوابت فيما يسميه الجيوبوليتيكيين بالكتلة الحيوية، أي الاستيلاء على المزيد من الأراضي عن طريق الاستيطان وإعمارها باليهود المهجرين من أنحاء العالم من يهود الفلاشا إلى اليهود السوفيات، وهي إستراتيجية تطبقها كل الإدارات الإسرائيلية من حمائم العمال إلى صقور الليكود وكاديما. وهو ما يتضح في المحاولات التي تقوم بها إدارة أوباما لدفع عملية السلام مقابل وقف الاستيطان وليس تفكيكه، حيث وقف نتانياهو متحديا أوباما في محطتين: المحطة الأولى عندما قدم نائب الرئيس جوزيف بايدن إلى إسرائيل في شهر مارس 2010 لتحريك التفاوض بين حكومة نتانياهو التي جمدت المفاوضات بعد ثمانية عشر شهرا بسبب مواقفها اليمينية المعادية للعرب والفلسطينيين، حيث قام نتانياهو في الساعة ذاتها التي وطئت قدم بايدن مطار بن غوريون بإعلان قرار بناء 1600 وحدة سكنية في القدسالشرقية، وبذلك استطاع نتانياهو أن يحرج أوباما وإدارته ويبعث برسالة واضحة إلى البيت الأبيض بأن الكتلة الحيوية بالنسبة لليهود هي مسألة لا يمكن المساس بها. أما المحطة الثانية فكانت في خطاب نتانياهو في مؤتمر ''الإيباك'' بواشنطن الذي أعلن فيه أن القدس هي العاصمة الدينية لليهود وإسرائيل ولا يمكن التفاوض حولها كما وضعت في اتفاقيات أوسلو، وبذلك فهم أوباما الرسالتين جيدا، فهو قد دخل في توتر مع لوبي متواجد في الكونغرس بشكل كبير ويراهن على الانتخابات التشريعية في نوفمبر القادم حيث يحتاج المرشحون للمال والدعاية اليهودية. وعليه فإن الدخول في مفاوضات غير مباشرة من حيث الشكل هي تراجع عن فرض الأجندة التي تحدد مستقبل المفاوضات، بالنسبة للطرف الإسرائيلي فإن المفاوضات لا تخرج عن رفع بعض الحواجز الأمنية في الضفة الغربية، والتنسيق في مسائل هامشية مثل تهيئة قنوات الصرف الصحي أو في أفضل الأحوال السماح بإدخال بعض المواد الغذائية وحفاظات الأطفال إلى قطاع غزة. أما القضايا الجوهرية في المفاوضات والمتعلقة أساسا بمستقبل الدولة الفلسطينية وحدودها التي قبل بها الفلسطينيون والعرب بأقل من 22 بالمائة من الأراضي التاريخية، ومسائل القدس وعودة اللاجئين والمياه فهي ستبقى خاضعة لمنطق الكتلة الحيوية، في الاتجاه الذي يعطي الوقت لليهود ببناء المزيد من المستوطنات مع طرد المزيد من الفلسطينيين، وهو ما نفهمه من قرار الحكومة اليهودية بطرد الفلسطينيين من الضفة الغربية الذين لا يملكون تسريحا من إسرائيل أو تدمير البنايات الفلسطينية في القدسالشرقية بحجة عدم امتلاك رخص البناء، في الوقت الذي تعطي إسرائيل الحق لنفسها بالتوسع في المنشآت والبناء في المستوطنات بحجة النمو الطبيعي لتلك المستوطنات وهو ما ضمنته من إدارة بوش السابقة التي تعهدت بعدم المساس أو التطرق لهذا النوع من التوسعات. بينما الطرف الفلسطيني في مفاوضته مع إسرائيل لا يملك أي أوراق قوة يمكن فرضها فوق طاولة المفاوضات، الورقة الأولى أن السلطة الفلسطينية تتفاوض بينما هناك رأسان للسلطة التنفيذية واحدة في رام الله تلقى الدعم الأمريكي وتأييد العرب المعتدلين، وأخرى في غزة تلقى دعم بعض الأطراف العربية الممانعة، وهي ورقة ضعف تخدم إسرائيل أكثر مما تخدم الفلسطينيين، لأنه في أية لحظة يمكن لنتانياهو أن يستخدم حجة غياب الشريك الفلسطيني الشرعي الذي يمكن التفاوض معه بما يعطيه الحق لفرض شروطه فوق الميدان، وفي أغلب الظن أنه قد يستفيد من أي صاروخ يدوي قد يقع بالقرب من قرية سديروت لشن هجوم عسكري على قطاع غزة أو القيام بعملية اغتيالات في غزة أو في الخارج كما حدث مع المبحوح في دبي. أما الورقة الأخرى التي يفتقدها الطرف الفلسطيني في تفاوضه مع إسرائيل فهي تتمثل في الانقسام العربي الذي بدأ مع اتفاقيات كامب ديفيد وتواصل مع التطبيع الدبلوماسي والتجاري مع قوى عربية منحت إسرائيل متنفسا دبلوماسيا لإضعاف الفلسطينيين في المحافل الدولية، ولا يوجد أفضل نموذج لهذا الإضعاف ما حدث في العدوان الأخير على غزة جعل التواطؤ العربي وحتى الفلسطيني يسقط تقرير غولدستون الذي شهد على جرائم اليهود في حق الفلسطينيين، وبذلك يساهم العرب في دفن مجازر اليهود من دير ياسين وكفر قاسم إلى مجازر غزة. والغريب من كل ذلك أن العرب يسوّقون لمبادرة عربية منذ 2002 في إطار ما يسمونه بالخيار الإستراتيجي للسلام، باستعدادهم للتطبيع الدبلوماسي والتجاري الكامل مع إسرائيل بمجرد قبولها إعطاء شبرين من الأراضي للفلسطينيين، ودائما كان الرد الإسرائيلي المزيد من إحراج العرب المهرولين إلى التطبيع، ففي اليوم الذي أعلنوا فيه تسويق المبادرة قامت الحكومة اليهودية بمحاصرة الراحل عرفات في قصره الرئاسي في رام الله إلى أن قتل مسموما، وبعدها قام العرب في أنابوليس بلقاء اليهود فجاء ردهم مطابقا لثوابتهم، الكتلة الحيوية، حيث قامت إسرائيل ببناء المزيد من المستوطنات، وهذه هي إستراتيجية إسرائيل التي تستغل ورقة ضعف العرب وانقسامهم. كما أن الطرف الفلسطيني يفتقد وسيطا دوليا نزيها ولديه القدرة على دفع المفاوضات في مسائلها الجوهرية، لأن الطرف الأمريكي وهو يحرك عملية السلام كانت بدافع مصلحتهم القومية ولا يهمهم شكل وجوهر المفاوضات، حتى وإن اقتضى الأمر الضغط على السلطة الفلسطينية لتقديم المزيد من التنازلات، فإدارة أوباما وبالدرجة الأولى أيقنت أن تورطها في أفغانستان والعراق مرهون بتسوية القضية الفلسطينية، لأن التجنيد والعداء ضد قواتها وتواجدها في العالم الإسلامي مرتبط بدعمها اللامحدود لإسرائيل، وهذا ما أعلنه صراحة ديفيد باتريوس القائد العسكري في الشرق الأوسط أمام لجنة الكونغرس حيث ربط تصاعد العداء للقوات الأمريكية بالإبقاء على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ونفس الرأي عبر عنه الرأي العام الأمريكي في سبر الآراء لمؤسسة ''زغبي'' التي تشير إلى أن 80 بالمائة من الأمريكيين يرون أن استمرار الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يضر بالمصالح الوطنية للولايات المتحدةالأمريكية، وعلى هذا الأساس تحركت إدارة أوباما لكسب ود العالم الإسلامي لكن بدون أن تفرض قوتها على الطرف الإسرائيلي بالرغم من أنها تملك الأدوات لذلك، مثل أن تذهب إلى مجلس الأمن وتفرض عقوبات على إسرائيل كما تفرضها على إيران أو أن تهدد موقف المساعدات التي تصل إلى 3 ملايير دولار سنويا في حالة تماطل أو رفض إسرائيل مناقشة المسائل الجوهرية مع الفلسطينيين. فإدارة أوباما لا يمكنها أن تستخدم هذه الضغوط وهو ما يزيد من تعزيز إسرائيل لأوراقها التفاوضية. إذن نبقى نتساءل عماذا يتفاوض الفلسطينيون؟ إنها مفاوضات عبثية كما تقول الجبهتان الديمقراطية والشعبية في فلسطين وكما تردد حماس والجهاد، لأنه ببساطة لا يمكن أن تذهب للتفاوض إذا تركت البندقية وركزت على غصن الزيتون، فالتفاوض يعكس بشكل واضح ميزان القوة في الأرض، وقوة الفلسطينيين في الانتفاضات والحروب اللاتماثلية، أما غير ذلك فستبقى إسرائيل تطبق ببراعة إستراتيجية الكتلة الحيوية إلى أن يرمي اليهود الفلسطينيين في البحر.