جلسة استشراف مع الليبيين وأخرى مع شيخ نهضة تونس توجيه رئيس الجمهورية الدعوة لزيارة الجزائر إلى شيخ نهضة تونس بعد اللقاء الذي جمعه في الدوحة برئيس المجلس الانتقالي الليبي هي بداية لمد جسور مع الحكام الجدد في بلدين جارين، والبحث عن فرص تعزيز العلاقات وتجاوز الخلافات، والتصدي للتهديدات المشتركة، وربما لبحث فرص إعادة الحياة للاتحاد المغاربي· الزيارة شبه الرسمية للشيخ راشد الغنوشي للجزائر، وهي الأولى له لبلد عربي بعد فوز حركة النهضة في الانتخابات التأسيسية الأولى إثر سقوط بن علي، تحمل أكثر من رسالة طمأنة متبادلة بين بلد دشن الربيع العربي بوصول إسلاميين إلى السلطة في أول استحقاق ديمقراطي، وبلد سبق له أن تعامل مبكرا مع الإسلام السياسي الوسطي ممثلا في حركة حمس، تشارك في الحكومة منذ عقدين، وفي الائتلاف الرئاسي منذ قرابة العقد من الزمن· الشيخ الغنوشي الذي حل بالجزائر بصفته زعيما للحركة التي سوف تشكل أول حكومة منتخبة تعرفها تونس، لم يفوت الفرصة لتوزيع أكثر من رسالة طمأنة في اتجاه الجارة الجزائر والخارج، حين أكد أن الثورة التونسية ليست للتصدير، مضيفا أنه ”إذا كنا سنصدر الثورة، فيقينا ليس للجزائر، لأنها بلد يمتلك ما يكفي من تراث الثورة” كما طمأن أطرافا غربية بالقول: ”إذا كنا نسعى لتصدير شيء فإننا سنصدر نموذجا يدرأ عن الإسلام صفة الإرهاب، والتعصب، والتطرف، ومعاداة الديمقراطية، والحداثة، والفنون الجميلة”· طمأنة ”الأخ الكبير” الرسالتان واضحتان بما يكفي، خاصة أن الشيخ الغنوشي أبدى كثيرا من التواضع، حين وضع زيارته تحت عنوان ”الاستفادة من التجربة السياسية والديمقراطية التي سبق للجزائر أن خاضتها” غير أن الزيارة التي جاءت بدعوة من رئيس الجمهورية، واختيار رئيس حركة حمس لاستقبال نظيره التونسي، لا تخلو من رغبة عند أعلى سلطة في البلاد، من أجل استيعاب التغييرات الحاصلة في العالم العربي، وتحديدا في محيطنا المغاربي، وقد جاءت متسارعة وغير متوقعة، بدأت باللقاء الذي احتضنته العاصمة القطرية الدوحة بين رئيس الجمهورية ورئيس المجلس الانتقالي الليبي، ثم استقبال وزير الخارجية المصري، وما تبع الزيارة من تنسيق جزائري مصري في الملف السوري، وعلى مستوى العمل داخل الجامعة العربية، وأخيرا، إنعاش العلاقات الجزائرية المغربية، التي فتحت الشهية لاستشراف قرب إعادة الحياة للاتحاد المغاربي، كحاجة وضرورة، لتعديل موازين القوة داخل الجامعة العربية، ومن أجل تجديد التنسيق بين دول المغرب العربي، بعد التغيير الحاصل في دولتين مؤسستين: تونس وليبيا· التحرك السياسي والدبلوماسي نحو بلورة سياسة تتعامل بقدر من البراغماتية مع الأوضاع المستجدة في المنطقة، يأتي ليصحح الصورة السلبية المركبة التي نشأت على هامش الموقف الجزائري الغامض من الثورات العربية، وتحديدا من أحداثها في البلدين الجارين: تونس وليبيا، حتى وإن كانت الخارجية الجزائرية حاولت تبريره بواجب التناغم مع الموقف التقليدي للدبلوماسية الجزائرية، التي ترفض التدخل في الشأن الداخلي للدول، ولا تبني علاقاتها سوى مع حكومات شرعية قائمة· استشراف مواطن القلق من الوضع الليبي لا شك أن السلطات الجزائرية قد استشرفت منذ البداية صعوبة التعامل مع أحداث غير متوقعة، غامضة، يشارك في إدارتها أكثر من فاعل داخلي، إقليمي، ودولي، وأن الصورة لم تكن واضحة بما يكفي، حتى تجازف دولة بحجم الجزائر بمواقف متسرعة، وقبل أن تتعرف على القوى التي سوف تؤول إليها إدارة الحكم في البلدين الجارين الشريكين في الاتحاد المغاربي، وتحصل على حد أدنى من الضمانات، خاصة في ملفين حساسين بالنسبة للجزائر: الملف الأمني، الذي قد يتأثر من انفلات الأمن في البلدين، في منطقة تتعرض لنشاط متزايد لقاعدة الجهاد في بلاد المغرب الإسلامي، وملف التواجد العسكري الغربي: الفرنسي والأمريكي تحديدا، مع ما عرف عن الجزائر من معارضة شديدة لرغبة الأمريكيين في توطين قاعدة ”أفريكوم” في أحد بلدان شمال إفريقيا، والتدخل العسكري الفرنسي المتنامي في موريتانيا ومالي والنيجر· وفي كل الأحوال، وحتى قبل صدور تلك التصريحات المطمئنة على لسان الشيخ الغنوشي، فإن الجزائر لم تكن قلقة من التغيير الحاصل في تونس، مع توقعها حصول حركة النهضة على الأغلبية في البرلمان، لكنها كانت وستبقى قلقة من الأوضاع في ليبيا، لأنها منفتحة على التهديدين اللذين تخشاهما الجزائر، رغم حصولها على بعض التطمينات على لسان القادة الجدد في ليبيا الموقف من ”القاعدة” والقواعد الأجنبية وفي هذا السياق لا يبدو أن الجزائر هي وحدها من ينبغي أن يقلق من الوضع في ليبيا، فالشيخ الغنوشي الذي صرح ”بحاجة الحكم الجديد في تونس إلى الخبرة السياسية والديمقراطية الجزائرية” لا يبدو أنه سوف يكتفي بالاطلاع على طبيعة المخاوف الجزائرية في الجانب الأمني، بل سوف يستشرف لا محالة ما يمكن للجزائر أن تقدمه لتونس في هذا المجال، بحكم أن تونس هي أكثر عرضة من الجزائر لأي انفلات قد يحصل في ليبيا، وقد تحتاج لخبرة الجزائر في ملف مكافحة الإرهاب والقاعدة تحديدا، كما قد يستشرف فرص إشراك تونس في التنسيق الإقليمي الأمني مع دول الساحل والصحراء الكبرى الذي تقوده الجزائر، وتدعمه في الظاهر القوى الكبرى·