مع انطلاق الشوط الثاني من ثورة مصر، بحجم هائل من العنف، وحصيلة ثقيلة من الضحايا، برزت مخاوف إقليمية ودولية من تداعيات انفلات إدارة المواجهة بين شارع محبط وعسكر مراوغ، وانقسام شركاء الثورة بالأمس إلى معسكرات متناحرة، قد تفضي إلى تعطيل مسار الاستحقاقات الانتخابية، أو إلى تمديد مرحلة انتقالية يتفرد فيها العسكر· وتشهد ”ثورة” مصر انتكاسة خطيرة انزلقت فيها الأوضاع إلى المربع الأول، بتجدد مشاهد المواجهات الساخنة بين قوات حفظ الأمن والمتظاهرين من الشباب، أسفرت في أقل من 48 ساعة عن حصيلة ثقيلة من القتلى قاربت الأربعين، والمئات من الجرحى، وعودة ميدان التحرير لضبط الإيقاع العام كما كان في بداية الثورة مع فارق كبير، أن العسكر أصبحوا طرفا في قمع المتظاهرين، وتفككت صورة الجيش حامي الثورة، بينما رفعت شعارات بديلة تقول ”الشعب يريد إسقاط المشير”، في إشارة إلى المشير حسين طنطاوي، قائد المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية· الأمور على ما يبدوا قد انفلتت عقالها، وخرجت عن سيطرة العسكر، وإدارة حكومة عصام شرف التي بادرت إلى الاستقالة، وحتى من الأحزاب والزعماء الروحيين الذين طردهم الثوار الشباب الغاضبون من ميدان التحرير، مع انتشار رقعة الغليان والشغب إلى كبريات المدن والمحافظات المصرية، وبروز مؤشرات عن نماء قلق دولي من تداعيات خروج الموجة الثانية من ”الثورة” عن السيطرة، في بلد مثل مصر، تختلف الأوضاع فيه عن تونس، ولا يمكن التعامل معها بذات المفردات التي تعاملت بها المجموعة الدولية مع الحالة الليبية أو السورية· مخاوف من اختطاف العسكر ل”ثورة الثورة”
أسئلة كثيرة يطرحها الملاحظون، من داخل مصر وخارجها، حول الأسباب الحقيقية التي كانت وراء تفجير الشارع المصري بحدة لم تشهدها حتى في الأيام الأولى من ”ثورة 25 يناير”، والتي قد تقود في الحد الأدنى إلى تأجيل الانتخابات التشريعية المبرمجة في الشهر القادم، وربما تعطيل الرزنامة المتفق عليها بين الأحزاب والمؤسسة العسكرية الماسكة بالسلطة، ومنها الرئاسيات قبل ماي القادم، كان متوقع لها أن تشهد تسليم الجيش السلطة للمدنيين·· هاهنا ”بيت القصيد” في كل ما يجري الآن في مصر، ذلك أن القوى السياسية، وخاصة شباب الثورة، الذي بدأ يستشرف معالم عملية قرصنة واختطاف لثورته من قبل العسكر، لم يعد يثق في النوايا المعلنة للمؤسسة العسكرية بتسليم السلطة للمدنيين، مع التسويف الظاهر في محاكمة رموز النظام الساقط، والتمنع حيال إقصاء فلول النظام من المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، والتقاعس عن تطهير مؤسسات الدولة ومنها الأجهزة الأمنية من غلاة النظام الساقط، ناهيك عن الانفلات الأمني المقصود، وتلون مؤشرات الاقتصاد المصري باللون الأحمر·
الشارع المصري المنتفض مجددا، بدا هذه المرة أكثر انقساما، مع تخبط واضح للقوى السياسية التقليدية، التي باتت تخشى ”ميدان التحرير” أكثر مما يخشاه العسكر، وترى في تجدد الدعوات إلى المليونيات، وما يترتب عنها من صدامات مع القوى الأمنية والجيش، ترى فيها محاولة من قوى سياسية تعبث بالشباب، وتستثمر غضبهم، لتعطيل الانتخابات التشريعية، ومعها رزنامة الاستحقاقات الأخرى· فالقوى السياسية التقليدية ومنها الإخوان، هالها ما رأته من عزوف شباب ميدان التحرير عن الإنصات لخطاب التهدئة، وطرد الكثير من رموز الأحزاب من ميدان التحرير، واتهامهم بالتآمر مع العسكر على الثورة·
انفراط عقد الشراكة بين ”ثوار” التحرير
أكثر الأطراف حرجا من الانفجار الشعبي هو تيار الإخوان الذي لا يرى مصلحة في أي حراك قد يعطل، أو حتى يؤجل الانتخابات التي يفترض أن تفضي إلى حالة شبيهة بما حصل في تونس، ولأجل ذلك فإن الإخوان لم يشاركوا في الحراك، كما تحفظا عن الدعوة للمشاركة في مليونية أمس، وآثروا الدخول في مفاوضات مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحثا عن مخرج آمن، تقبل بموجبه استقالة الحكومة الحالية، والذهاب إلى حكومة إنقاذ وطني بصلاحيات واسعة تكون قادرة على إعادة الطمأنينة للشارع المنتفض، وتفوت الفرصة على الجهات التي تكون قد شجعت شباب الثورة على هذه القفزة نحو المجهول· كيف انتكست الأوضاع في مصر إلى الحد الذي بات فيه شركاء الأمس في الإطاحة برأس مبارك، يتبادلون أخطر التهم، مع حصول شرخ حقيقي بين شباب الثورة، المحبط بعد فشل قياداته في توحيد فصائله لخوض الانتخابات بقدر من الندية مع الأحزاب التقليدية، وبين الأحزاب التقليدية نفسها، المنقسمة حول مفردات الدستور القادم، وظهور إجماع حول وجود نوايا عند العسكر من أجل تمرير أحد الخيارين؛ إما قبول القوى المدنية بدسترة حالة تسمح بإعفاء المؤسسة العسكرية من أية رقابة برلمانية قبلية أو بعدية، واختصاص المؤسسة بسن القوانين الخاصة بها، واقتطاع متفرد لحصتها من الميزانية، أو الذهاب بالبلاد إلى حالة من الفوضى التي تمنع موضوعيا تنظيم انتخابات، تنقل السلطة نهائيا إلى المدنيين·
”كسر العظام” بين المدنيين والعسكر
أكثر الجهات تساهلا مع المؤسسة العسكرية تتهمها في الحد الأدنى بالقصور السياسي، وبالإيقاع المنخفض في تصديها لطلبات الشارع والقوى السياسية، غير أن المتابعين للمسار المعقد في مصر يرافعون عن موقف العسكر، باستدعاء الحجم الهائل من الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية التي يتعرض لها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، هي التي لم تسمح له بإدارة سلسة وآمنة كما حصل في تونس·· ذلك أن مصر ليست تونس، التي لن يكون لوصول الإسلاميين إلى السلطة فيها أي تداعيات على الوضع الإقليمي، كما أن ”حركة النهضة” كانت أكثر ذكاء من الإخوان في مصر، حين أنفقت الجزء الأكبر من جهدها لطمأنة شركائها من غير الإسلاميين، وسارعت إلى اقتسام الكعكة معهم، بينما اختار الإخوان في مصر، وفي أكثر من مناسبة، استعراض العضلات في المليونيات، وخذلوا أكثر من مرة شركاءهم في الحراك بمناورات، قرئ فيها ما يشبه التحالف الخفي بين الإخوان والعسكر· وإلى غاية ظهيرة أمس، لم تكن قد تشكلت بوادر انفراج في الميادين، الملتهبة بمواجهات عنيفة كانت مرشحة للتفاقم ليلا، مع الخوف من حدوث صدامات مباشرة بين المتظاهرين وقوات من الجيش، لكن الجميع بات على قناعة من إمكانية تأجيل موعد الانتخابات، وضرورة تشكيل حكومة إنقاذ وطنية، تنفتح أكثر على رموز شباب الثورة، وتحظى بصلاحيات واسعة تعفيها من إملاءات المؤسسة العسكرية، وتعيد صياغة رزنامة الاستحقاقات الانتخابية، وتلزم المؤسسة العسكرية بالتخلي الطوعي عن أي طموح في مأسسة إعفائها من رقابة مؤسسات الحكم المدني مستقبلا·