كريم حجوج «أكتب إليكم، ولست أدري أتكون هذه الرسالة هي الأخيرة… الله أعلم وحده، فإن أصابتني مصيبة كيفما كانت فلا تيأسوا من رحمة الله. إنما الموت في سبيل الله حياة لا نهاية لها، الموت في سبيل الوطن ليس إلا واجبا، وقد أديتم واجبكم حيث ضحيتم بأعز مخلوق لكم، ولا تبكوني بل افتخروا بي»… هذا النص الرائع والخالد في سيرة ثورة التحرير كان عبارة عن آخر اتصال يجريه أول شهيد تعدمه فرنسا بالمقصلة… أحمد زبانة، أو أحميدة كما كان يلقبه رفاقه أيام أو ربما ساعات قليلة قبل أن ينفذ فيه هذا الحكم الجائر من طرف زبانية جهاز العدالة الاستدماري… في الذكرى الخمسين للاستقلال تعود قصة أحمد زبانة وتعود معها أيضا معانٍ كثيرة لذلك العهد الذي تحول فيه حب الجزائر إلى مصنع خاص يصنع رجالا ونساء من نوع خاص أيضا. احميدة كانت كنيته… شاب أسمر اللون لا هو نحيف يستخف بقده، ولا هو مبسوط الجسم يدهش عقول من حوله… تلف هامته أحيانا عمامة توتية تفكره بالبادية التي ولد فيها بقرية جنين مسكين التابعة حاليا لدائرة زهانة بولاية معسكر لكنه كان أيضا يرتدي «الجينز»، وبدلات شبيهة بتلك التي كان يرتديها المعمر الفرنسي «كاف غي» و«فرنانفيل» و«برنانونفيل» وأمثالهم الذين كانوا يستعبدون جزائريي المنطقة الوهرانية في الثلاثينيات والأربعينيات، والخمسينيات من القرن الماضي. كان أحمد زبانة الذي رضع لبن حب أرض اسمها الجزائر من مشاهد البؤس التي سلطها أحفاد نابليون بونابرت على بني قومه وجلدته، كأي مواطن جزائري على عهد أولئك المنتمين إلى طبقة الإنديجان على حد وصف القانون الفرنسي العنصري الذي رضي بأن تدخله ملته جميع الأنواع البشرية ونمادج المخلوقات بما في ذلك طائفة اليهود التي سمح لها بحمل الجنسية الفرنسية مباشرة بعد صدور قانون كريميو إلا لشريحة المالكين الأصليين لأرض الجزائر باعتبارهم ينتمون الى حضارة يطلق عليها اسم الحضارة العربية الإسلامية التي فشلت الحروب الصليبية في كسر شوكتها منذ عهد ناصر الدين صلاح الدين الأيوبي، فحاول أحفاد نابليون أن يعيدوا الكرة مجددا ليتأثروا لقائد جيوشهم قلب الأسد… فلم يكن لهم بد من اختيار أرض الجزائر التي غزوها في الخامس جويلية من سنة 1830 بتواطؤ مفضوح من عسكر الدولة العثمانية. وداعا زهانة… مرحبا زبانة ما يميز سيرة أول شهيد جزائري تعدمه المقصلة أن جميع البحوث التي أجراها مؤرخون ومهتمون حول السي احميدة، كما كان يلقب في الحي الشعبي للمدينة الجديدةبوهران، أن تاريخ ميلاده ليس مسجلا بصورة كاملة لدى مصلحة الحالة المدنية ببلدية زهانة التابعة لولاية معسكر حيث قيدت المصالح في العهد الاستعماري فقط السنة التي ولد بها وهي سنة 1926 وسط عائلة بسيطة مثلها مثل جميع العائلات الجزائرية. ويحتل الشهيد زبانة المرتبة الرابعة بين 8 إخوة حيث لم يمض على مكوث هذه العائلة الشيء الكثير حتى قرر والد الرحيل إلى عاصمة الغرب الجزائري حيث حل في بادئ الأمر بحي الحمري حيث استقر بضع الوقت قبل أن يقرر معاودة الانتقال إلى حي المدينةالجديدة بالقرب من مقر الولي الصالح سيدي بلال، وهو الحي الذي أمضى فيه الشهيد أحمد زبانة وتعلم فيه الشيء الكثير بفضل احتكاكه المتواصل مع أبناء وطنه الغارقين في ظلم الاستعمار أو مع أبناء المعمرين أثناء مزاولة الدراسة. وتبدي جميع الشهادات والمعطيات المتعلقة بحياة الشهيد أحمد زبانة أنه من ألمع التلاميذ في صفه الى أن نال شهادة التعليم الابتدائي في المدرسة الفرنسية ليجد نفسه وهو لم يبلغ بعد سن الرابعة عشرة مضطرا إلى التخلي عن مقاعد الدراسة لسبب وحيد يتعلق بالسياسة العنصرية التي كانت تتبناها الإدارة الفرنسية في ذلك الوقت ضد الجزائريين المصنفين في خانة الإنديجان الذين لا يسمح لهم القانون بتجاوز هذا المستوى التعليمي، فكانت هنا كما يقول عديد المؤرخين الصدمة الأولى التي يتلقاها الشهيد بعنف!! نحن هنا في نهاية سنوات الثلاثينيات، ما يعني أن حركة سياسية واجتماعية كانت آخذة في الانتشار بين جموع الجزائريين وبالطبع كان حي المدينةالجديدة بولاية وهران أو حي الحمري الشهيران وقتها من أهم التجمعات السكانية التي زحفت إليها الوعي الناشئ الذي كان يحركه العديد من أتباع حزب الشعب الجزائري او جمعية العلماء الجزائريين التي كانت تنشط وراء مدرسة الفلاح لتعليم القرآن الكريم بحي المدينةالجديدة، وأكيد أن هذه الحركية التي كانت تتغلغل في صفوف الشعب الجزائري كانت بعيدا عن أعين الاستعمار الفرنسي سمحت للشهيد الجزائري بأن يقف على أشياء جديدة ومعلومات مهمة أثارت في ذهنه مجموعة من التساؤلات التي ظلت تنغص عليه حياته منذ منع من مزاولة تعليمه خاصة لما تزامن ذلك مع تأسيس بعض الأفواج التابعة للكشافة الإسلامية بولاية وهران فاختار السي احميدة الانتماء الى واحدة من هذه الأفواج مثله مثل العديد من أترابه حيث تمكن في هذه المرحلة من تكوين لاقات قوية مع مناضلين معروفين من أمثال الشهيد حمو بوتليليس وآخرين أضحوا فيما بعد النواة الصلبة التي كان يتحرك بواسطتها حزب الشعب الجزائري بعاصمة الغرب لاسيما بعد الزيارة التي قادت في متنصف أربعينيات القرن الماضي رئيس حزب الشعب الجزائري الى وهران حيث ألقى خطابا مقتضبا حضره مئات الجزائريين بحي الحكري وكان الشهيد أحمد زبانة واحدا من هؤلاء. شهيد المقصلة الذي تشبع بفكرة الانخراط في الحركة المقاومة للاستعمار الفرنسي واصل في سياق آخر تكوين نفسه، تكوينا مهنيا حيث اندمج في أحد مراكز التكوين المهني لدة تزيد على سنتين حتى حاز شهادة الكفاءة المهنية في اختصاص التلحيم وصار لحاما محترفا ليس بغرض امتهانها لكن كما تبين فيما بعد فالرجل كان بصدد تكوين نفسه لمرحلة جديدة كشفت عنها تجاربه اللاحقة في مكافحة الاستعمار الفرنسي، وفي شهادة لأخي الشهيد أحمد زبانة السيد عبد القادر زهانة كان قد أدلى بها منذ عدة سنوات، فإنه في هذه المرحلة بالذات التي اصبح فيها الشهيد يلقب بزبانة بدلا من زهانة وهو اسمه العائلي الحقيقي. زبانة… الذي عاش أسبوعا من الثورة في نهاية الأربعينيات تحول الشاب المكنى زهانة أحمد، والملقب بالسي احميدة، الى واحد من أبرز المناضلين الذين كان الجناح المنادي بفكرة تفجير الثورة داخل حزب الشعب الجزائري يعول عليهم كثيرا في الناحية الغربية بعدما سطع نجمه بفضل القدرات الكبيرة التي أظهرها سواء في مجال التجنيد او التحرك فحمّله بعض القياديين البارزين في العاصمة مسؤولية الشروع في تشكيل لجان على مستوى العديد من مناطق الغرب الجزائري فأبلى في هذه المرحلة بلاء حسنا وزادت عزيمته أكثر من أي وقت مضى بعدما تأكد من أن غالبية الجزائريين وفي جميع المناطق التي انتقل إليها بالغرب تواقون لمشروع تحريرهم من الأغلال والقيود التي فرضها عليهم الاستعمار الفرنسي لأكثر من قرن من الزمان. ثم جاءت بعد هذه المرحلة قصة الهجوم الشهير الذي نفذته نواة المنظمة السرية على البريد المركزي بعاصمة الغرب نهاية سنة 1949 وهو الهجوم الذي شارك فيه العديد من المناضلين البارزين وقتها أمثال الرئيس الأسبق أحمد بن بلة، الشهيد حمو بوتليليس، حسين آيت أحمد، أحمد بوشعيب، المرحوم الحاج أحمد بن علة وآخرين، ولعب فيه الشهيد دورا بارزا ولو بصورة غير مباشرة كما يروي العديد من المؤرخين. وإذا كان صانعو هذه الملحمة من تحويل مبلغ مالي يقدر بحوالي 3 ملايين فرنك فرنسي قديم استعملت فيما بعد في شراء أسلحة ومعدات حربية لتفجير الثورة بدءا من 1 نوفمبر، فإن اللافت في الأمر أن هذا الهجوم أدى الى إصابة مصالح المخابرات العسكرية الفرنسية بهاجس كبير جعلها تجند أكبر شبكاتها الاستعلاماتية والجاسوسية من أجل الكشف عن هذه الشبكة فانتهى الأمر بالوصول الى تفكيك المنظمة السرية شهورا قليلة بعد هذا الهجوم. وكان من نتيجة ذلك إلقاء القبض على العديد من المناضلين البارزين في هذا التنظيم أمثال الشهيد حمو بوتليليس، الحاج أحمد بن علة الذي أصبح بعد الاستقلال أول رئيس للمجلس الوطني فضلا عن عدد آخر من المجاهدين كان الشهيد أحمد زبانة واحدا منهم. وخلال محاكمة هذه الشبكة الخطيرة برأي العدالة الفرنسية الخطيرة بدورها في التنكيل بأصحاب الحق، تمت إدانة الشهيد أحمد زبانة بثلاث سنوات سجنا نافذا بالإضافة الى حكم آخر يتعلق بنفيه 3 سنوات إضافية قضاها السي احميدة بكل من ولاية مستغانم، القصر وزهانة، ليصادف ذلك اندلاع ثورة نوفمبر سنة 1954، ولأنه كان ممنوعا من العودة إلى مدينة وهران فقد استقر الشهيد ببلدة أجداده زهانة وفضل بعد أن عين مسؤولا عن العمل الثوري هناك أن يقود العديد من العمليات العسكرية وفي ظرف 3 أشهر فقط نجح في ارباك مصالح الأمن الفرنسية بل وحتى عسكر الاستعمار خاصة بعد الهجوم الشهير على مستوى منطقة لاماردو في 4 نوفمبر 1954 حيث تمكن من جمع الأسلحة ومعدات أخرى قبل أن تتمكن مصالح الاستعمار الفرنسي من تحديد مكان تواجد فوجه في غار بوجليدة حيث دارت معركة حامية الوطيس بين الطرفين انتهت باعتقال الشهيد رفقة الأفراد الذين كانوا معه. وتوضح هذه المعطيات أن السي احميدة لم يكتب له العيش في مرحلة ثورة التحرير إلا أسبوعا واحدا فقط بعد أكثر من 20 عاما قضاها في التكوين والتحضير. اشنقوني فلست أخشى حديدا ها هي فرنسا تلقي القبض على من دوخها، وتأسر ذلك الهمام الذي أقض مضجعها فهل هي أخافته كما خافت منه؟ هل أربكته كما أربك هو مخابراتها وبوليسها وعسكرها؟ هل هي أنهت أسطورة خالدة تسمى أحمد زبانة؟ لم يكن السي احميدة شخصا عاديا ولا مناضلا كبقية رفاقه، بل لم يكن حتى من أولئك الذين يفكرون في العقوبة التي ستسلطها عليه العدالة الفرنسية، وهي كلها حقائق تؤكدها العديد من الشهادات لمحبوسين قضوا معه بسجن وهران قرابة 6 أشهر ظهر خلالها السي احميدة أكثر إصرارا وعزما على مواصلة مهامه حتى وهو داخل السجن، فقام بتنظيم المسجونين في أفواج وأمرهم ألا يستكينوا ولو للحظة واحدة. ومن الشهادات النادرة المسجلة لشهيد المقصلة أنه كان يمضي وقتا كبيرا في التنكيت حتى يرفع من معنويات رفاقه بل كان أيضا يأمرهم بعدم التوقف عن النشاط والحركة داخل السجن، إذ قلما كان رفاقه يجدون وقت فراغ داخل السجن حتى يوم 21 أبريل 1955 تاريخ انطلاق محاكمة البطل الوهراني بالمحكمة العسكرية التي حكمت عليه بالاعدام لينقل بعدها الى سجن بربروس بالجزائر العاصمة حيث تمت محاكمته مرة ثانية لتثبيت الحكم مرة ثانية، لينقل الى سجن سركاجي فكانت هذه آخر محطة يقطعها الشهيد بين سجون الاستعمار الفرنسي. وفي تاريخ 19 جوان 1956 تقرر الجمهورية الفرنسية باسم عدالة الاستعمار والاستدمار والاستعباد والظلم والحقرة والجريمة والإبادة تنفيذ حكم الإعدام في الشهيد البطل الرمز أحمد زهانة أو السي احميدة وكان ذلك في الساعة الرابعة صباحا وهو أول موعد لتشغيل آلة المقصلة على الجزائريين الثائرين في وجهها فكان شهيدنا أولهم… في هذه اللحظات يندفع حرس سجن سركاجي الى زنزانة الشهيد الذي كان يقرأ القرآن، يخرجونه بعضلاتهم المفتولة من خيرة الشعب الجزائري فلا يجدون أي مقاومة من رجل مشتاق للقاء ربه… رجل ليس ككل الرجال يأتي المقصلة مبتسما وعلى جنبه أكبر مسؤولي سجن سركاجي ويقابله وكيل الجمهورية لدى محكمة الجزائر، وقبل أن يوضع رأسه تحت المقصلة يتقدم نحوه أحد الائمة المرتزقين حتى يذكره بالشهادة، قيرد عليه الشهيد أحمد زبانة مبتسما، مرتاحا، هادئا… انظر يا شيخ أمثالك كنا نصلي وراءهم، أما الآن فإن أمثالك فهم من يجب أن يقفوا خلفي. لحظات بعد ذلك يجد الشهيد نفسه ملقى تحت المقصلة التي فشلت 3 مرات في قطع رأسه قبل أن تنجح في المرة الرابعة وكأنها كانت تدرك أن أحمد زبانة هو أصلب منها وأقوى من مالكيها، وأشرف ممن أمرها، وأزكى ممن شغّلها… فرحمك الله يا شهيد المقصلة. آخر رسالة للشهيد أحمد زبانة أكتب إليكم، ولست أدري أتكون هذه الرسالة هي الأخيرة… الله أعلم وحده، فإن أصابتني مصيبة كيفما كانت فلا تيأسوا من رحمة الله. إن الموت في سبيل الله حياة لا نهاية لها، الموت في سبيل الوطن ليس إلا واجبا، وقد أديتم واجبكم حيث ضحيتم بأعز مخلوق لكم، ولا تبكوني بل افتخروا بي. وفي الختام تقبلوا تحية ابن وأخ كان دائما يحبكم وكنتم دائما تحبونه، ولعلها آخر تحية مني إليكم، وإني أقدمها إليك يا أمي وإليك يا أبي، والى نورة والهواري وحليمة والحبيب وفاطمة وخيرة وصالح ودنيا وإليك يا أخي العزيز عبد القادر، وإلى جميع من يشارككم أحزانكم. الله أكبر وهو القائم بالقسط وحده. ابنكم وأخوكم الذي يعانقكم بكل فؤاده.