"إذا كانت أرض المشرق هي بلاد الأنبياء، فإن أرض المغرب هي بلاد الأولياء"، أو هكذا يقال عن الطرق الصوفية المتشعبة المنتشرة بكثافة بالمنطقة المغاربية. قبل أيام فقط قامت وزارة الصحة المغربية بترحيل مئات "المرضى" من ضريح "بويا عمر"، حيث يعتكفون هناك لطلب الشفاء لعل بركات الأولياء بالضريح تلبي لهم حاجتهم، ورغم انتقاد المنظمات الحقوقية المتكرر للدولة المغربية التي اتهموها "بتشجع الناس على العلاج بالخرافات"، إلا أنها لم تستطع إغلاق ذلك الضريح من بين مئات الأضرحة الأخرى الموجودة إلا مؤخرًا، ما ينم عن قوة الوجود الصوفي في الذاكرة الشعبية المغربية. بالتأكيد يتجذر التصوف بنوعيه الشعبي والروحي في الثقافة المغاربية منذ قرون، حيث كانت الزوايا تاريخيًّا بالفعل جزءًا رئيسًا في النظام الاجتماعي والاقتصادي آنذاك، كما أنها كانت تمثل قوة روحية وسياسية تجعل مختلف السلاطين يبغون رضاها بالعطايا والعناية، وفي فترة الاستعمار لعبت الزوايا دورًا محوريًّا في مقاومة المستعمر. محاربة التطرف بالصوفية ثم بعد ذلك عرفت خفوتًا في نهايات القرن الماضي، لكن مع بداية القرن الألفية الجديدة وما تمخض عنها من تحولات جذرية وأحداث صادمة عادت الطرق الصوفية بقوة إلى الوجدان الشعبي المغاربي، كمنبع للسكون الروحي بعيدًا عن السياسة وأهوالها، كما أضحى التدين الصوفي اليوم مطلوبًا بشدة من السلطات المغاربية لمحاربة خطر الفكر المتطرف الذي يهدد كيانها، لنتعرف على أبرز هذه الطرق الصوفية بالمنطقة المغاربية. الطريقة القادرية البودشيشية يقال إن اسمها استقي من الشيخ سيدي علي بن محمد الملقب بالبودشيشي لكونه كان يطعم الناس بزاويته أيام المجاعة طعام "الدشيشة"، وقد نشأت هذه الطريقة الصوفية أول الأمر في القرن الخامس الهجري مع عبد القادر الجيلاني. تنتشر الطريقة البودشيشية في المغرب، ولها أتباع من كل بقاع العالم، شهدت في السنوات الأخيرة مع شيخها سيدي حمزة نقلة نوعية في الانتشار والتميز، وأصبحت المواسم التي تقام بزواياها محط إقبال مئات الآلاف من المريدين منهم أطر ومهندسين، كما تحظى بعناية خاصة من قبل السلطة. عادة ما يدعي أهل التصوف أن طرقهم التربوية غير قابلة للوصف، وأن انكشافها عن طريق التجربة هو وحده يمكنك من معرفة أسرار كل طريقة، بيد أنه كما يبدو تنتهج الطريقة البودشيشية أسلوب التيسير والتحبيب كمنهج للارتقاء الروحاني، يشرف عليه حافظ السر سيدي حمزة. يقول شيخ الطريقة سيدي حمزة: "إن من أهل الله من يدعو إلى التخلي قبل التحلي، ومنهم من يدعو إلى التحلي قبل التخلي. ودعوتنا تبدأ بالتحلي ثم التخلي. ومعنى التحلي تذوق حلاوة كل عبادة، والنفوذ إلى أسرار كل قربة يتقرب بها إلى الله، وتذوق الحلاوة يقابله وجود المرارة أو انعدام الطعم، وما لا طعم له لا يترك إلا لما هو حلو، وما هو أحلى يقدم على غيره. وهكذا تتفاضل الأعمال حسب أثرها في ذوق الإيمان، إلى أن يجد المدعو نفسه قد تخلى عن كل عمل قبيح، وتلبس بكل عمل مليح، عن طريق الذوق والتجربة المعيشية، وليس بمجرد التخمين والتقليد". الطريقة التيجانية تنتسب الطريقة إلى أبي العباس التيجاني (1737- 1815)، الذي ولد بالأغواط في الجزائر، وارتحل متنقلًا لدراسة العلوم الشرعية بين فاس، وتلمسان، وتونس، والقاهرة، ومكة، والمدينة المنورة، وبغداد. التقى شيخ الطريقة التيجانية أبو العباس العارف ابن عربي الأندلسي بفاس وأخذ منه الكثير من علمه الروحي. تنتشر هذه الطريقة الصوفية حاليًا بقوة في المغرب والجزائر، ولها امتداد في المشرق وأفريقيا. يتنافس المغرب والجزائر حول من يملك الطريقة التيجانية، حتى أن السلطات السياسية للبلدين تروج لهذه الطريقة في البلدان الأفريقية مثل مالي والسنغال، كنوع من التوظيف للتصوف الديني في المصالح الإستراتيجية. الطريقة العيساوية يعود أصل الفرقة الصوفية إلى سيدي محمد بن سليمان الجزولي، وأخذت اسمها من أحد شيوخها المؤسسين وهو سيدي محمد بن عيسى المغربي. ممارسات غريبة وقاسية ولد سيدي محمد بن عيسى المغربي بفاس وعاش ومارس نشاطه التصوفي بمكناس، التي يوجد بها ضريحه "الشيخ الكامل"، هذا المقام الذي يحيي إلى يومنا هذا احتفالات شعبية تمزج بين الأمداح النبوية والأناشيد الصوفية والطرب بالبندير والنفير ورقصة "الجذبة". تتخلل مواسم الطريقة العيساوية ممارسات غريبة وقاسية تجمع بين التقاليد الشعبية المتجذرة والإيمان المطلق بقدرات أوليائها الخارقة، كما يختلط فيها الإيمان مع الطموح إلى إظهار صفات الشجاعة وقهر الطبيعة، وإرادة التعامل مع أرواح العالم غير المرئي، نذكر من هذه الممارسات التي ما زالت تقام إلى يومنا هذا في المواسم أمام العموم، حيث يتجمع أتباع العيساوية بلباسهم الشعبي وهم يرددون نداءات استعانة لأوليائهم المتوفين مع ضربات الطبل والبندير، فيتم قذف "خروف أسود" ليتلقفه الأتباع فيأكلونه حيًّا ويشربون دمه بعد أن يقطعوه فقط بأيديهم شدًّا وجذبًا كطقس للتقرب إلى أوليائهم! توصف الطريقة العيساوية بأنها موجهة للطبقات الشعبية الغارقة في الشعبوية والتقليد، وبأنها تتضمن طقوس سحر وشعوذة تخولهم القيام بأشياء غريبة، غير أن أتباعها ينفون ذلك ويقولون إن قواهم التي تأتي في لحظات "جذبهم" هي من بركات أوليائهم. الطريقة العلاوية تنتسب الطريقة إلى الشيخ أحمد العلاوي، تتميز هذه الفرقة الصوفية أن مريديها يتبعون الشيخ وهو حي ويأخذون منه طريق النور إلى سماء الروحانيات. تنتشر الطريقة العلاوية في الجزائر وتونس بالخصوص، ويقرأ أتباعها بشكل يومي وردًا دينيًّا تركه شيخهم أحمد العلاوي. وقد وصلت هذه الطريقة إلى مناطق بشمال المغرب عبر هجرات بعض المريدين المغاربة، حيث كان يهاجر المئات منهم إلى الجزائر للعمل في حقول المناجم والفلاحة لدى المستعمر، لينقلوا بعد ذلك تجربتهم الصوفية العلاوية الجزائرية إلى مناطق عيشهم بالمغرب. الزاوية القدورية الكركرية ويطلق عليها أيضًا الزاوية الدرقاوية، أسسها الفقيه والمتصوف أحمد بن قدور، الذي ارتحل متنقلًا لتلقي "العلوم الشرعية" عن طريق العديد من الفقهاء في منطقة سوس بالمغرب. وحين عودته بعد حين إلى مسقط رأسه تفرغ للتربية الروحية وتلقين أوراد الذكر للمترددين على زاويته بجبل كركر، وأقام زاويته الخاصة هناك، حيث ستتفرع إلى زوايا متشعبة بمدن أخرى. كانت إذن الزوايا بمنطقة المغرب العربي لها أدوار تاريخية واجتماعية واقتصادية بالإضافة إلى الوظائف الروحية التي تقوم بها. غير أنها أيضًا تخضع للتوظيف السياسي، سواء لمواجهة التطرف أو لمنافسة التدين المشرقي.