بعد 42 عاما على تأسيسها، تواجه صحيفة "السفير" اللبنانية الواسعة الانتشار في لبنان والعالم العربي خطر التوقف عن الصدور، ما يسلط الضوء على ازمة غير مسبوقة يشهدها الإعلام في لبنان، البلد الذي طالما تغنى بانه منبر لحرية التعبير في المنطقة. وتعود ازمة الصحافة خصوصا الى الجمود السياسي وتراجع التمويل الداخلي والعربي، بحسب ما يؤكد اختصاصيون وصحافيون. واتخذت صحيفة "السفير" التي تأسست العام 1974، قبل سنة واحدة من بدء الحرب الأهلية (1975-1990)، الأسبوع الماضي قرارا بالتوقف عن الصدور ابلغته الى العاملين فيها، لتعود فتتراجع عنه وتقرر خفض عدد صفحاتها من 18 الى 12، فيما مصير 159 موظفا على المحك. وراجت شائعات اخيرا عن اقفال وشيك لصحيفة "النهار"، منافسة "السفير" والصحيفة الأعرق في لبنان (تأسست العام 1933)، فسارعت إدارة الصحيفة الى نفيها. لكن المعروف ان موظفي "النهار" لا يتقاضون منذ حوالى السنة رواتبهم بشكل منتظم. وكذلك هي الحال بالنسبة الى صحف ومحطات تلفزة أخرى، بينها مؤسسات تابعة لرئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، احد اكبر أثرياء العالم. ويقول طلال سلمان، مؤسس ورئيس تحرير "السفير" ذات الميول اليسارية، لوكالة فرانس برس، "لم يعد لدينا بارود"، مضيفا "نبحث حاليا عن شريك لتعزيز الرأسمال مع ضغط المصروف... سنبذل أقصى جهد ممكن وحتى آخر قرش". وبحسب سلمان، "لم تمر الصحافة في لبنان الذي لطالما كان رائدا على الساحة الإعلامية العربية، بأزمة بهذه الشدة من قبل. انها اسوأ الازمات على الإطلاق". موت السياسة، موت الصحافة وانكفأ لبنان منذ بدء النزاع في سوريا المجاورة عن الواجهة السياسية والإعلامية في منطقة غارقة في الحروب. وساهمت الازمة في سوريا في تعميق الانقسامات الداخلية وفي شلل المؤسسات. فشغر منصب رئاسة الجمهورية منذ ماي 2014، وتم ارجاء الانتخابات النيابية مرتين. وبرغم تكدس الازمات المعيشية، يعجز البرلمان او الحكومة عن الاجتماع او اتخاذ القرارات. ويقول سلمان "هناك خواء في الحياة السياسية في لبنان (...) ولا صحافة في غياب السياسة، ولا سياسة في لبنان". ويؤكد محمد فرحات، مدير تحرير صحيفة "الحياة" الصادرة من لندن، ان "ازمة الصحافة اللبنانية جزء من أزمة لبنان، وحياة الصحافة نابعة من السياسة، وفي حال ماتت السياسة ماتت الصحافة". وتنقسم وسائل الإعلام اللبنانية إجمالا حاليا، كما الخارطة السياسية، بين مؤيدة لقوى 14 آذار ومن ابرز مكوناتها تيار المستقبل بزعامة الحريري، وقوى 8 آذار وابرز مكوناتها حزب الله. ويوضح الأستاذ في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية احمد زين الدين "الصحافة العربية عموما واللبنانية تحديدا ليست صحافة جمهور ولكنها صحافة تمويل. (...)، تقوم على التمويل الذي يأتي من جهات سياسية او اقتصادية ودول اخرى". ومنذ حوالي عامين، تواجه صحيفة "المستقبل" وتلفزيون "المستقبل" المملوكان من الحريري صعوبات جمة في تسديد رواتب موظفيهم، وبلغ بهما الامر مرة الى التوقف عن الدفع لأكثر من عشرة اشهر متواصلة. ونشرت تقارير مختلفة تتحدث عن مشاكل مالية يعاني منها الحريري، وصولا الى تساؤل البعض عما اذا كان السياسي ورجل الأعمال، نجل رفيق الحريري الذي صنع ثروته في السعودية، قد خسر شيئا من دعم الرياض، في وقت تشهد العلاقات اللبنانية السعودية فتورا متناميا بسبب غضب الرياض من نفوذ حزب الله المدعوم من ايران على الساحة اللبنانية. ولا يقتصر الامر على الصحف، اذ طردت محطتا "ال بي سي آي" و"الجديد" التلفزيونيتان في العام 2015 عددا كبيرا من الموظفين. ويرى عميد كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية جورج صدقة ان احد اهم اسباب ازمة الصحافة يكمن في "تراجع المال السياسي والدعم من الانظمة العربية اللذين كانا يمولان قسما كبيرا من الاعلام اللبناني". ساحة الحريات وعلى مر تاريخه الحديث، حولت مساحة الحريات في لبنان الإعلام اللبناني الى اداة للصراعات الاقليمية. ودفع صحافيون حياتهم ثمن هذه الحرية، من نسيب المتني وسليم اللوزي ورياض طه وغسان كنفاني وصولا الى جبران تويني وسمير قصير. وتعرض طلال سلمان في 1984 لمحاولة اغتيال، واستهدفت صحيفته التي عرفت بتأييدها للقومية العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية خلال فترة الحرب الاهلية (1975-1990). وخلال تلك الحرب، كانت ليبيا والعراق وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية من ابرز الجهات الممولة للصحافة اللبنانية. وبرزت بعد الحرب كل من السعودية وقطر وإيران. ويقول صدقة "فقد الإعلام اللبناني تأثيره وتراجعت سلطته ما يعني تراجع الفائدة منه بالنسبة للانظمة العربية التي كانت تموله"، فهي لم تعد بحاجة الى وسيلة لبنانية لتمرير رسائلها بل تعمد مباشرة الى تمويل وسائل خاصة بها. وفي صيف 2015، أظهرت وثائق نشرها موقع "ويكيليكس" ان محطة تلفزيونية لبنانية مؤيدة لقوى 14 آذار حصلت على مساعدة سعودية بمليوني دولار، وهو "عشر ما كانت تطلبه" المحطة، بحسب الوثيقة. ويضاف الى تراجع التمويل السياسي، تأثر سوق الاعلانات التي كانت تساهم في تمويل المؤسسات الاعلامية بالازمة السياسية. ويقول رئيس المنظمة الدولية للاعلان - فرع لبنان ناجي عيتاني لوكالة فرانس برس ان شركات الاعلان باتت تدرك ان "اهتمام اللبنانيين بالصحف والمجلات التقليدية تراجع لصالح وسائل التواصل الاجتماعي او حتى التلفزيون". ووفق شركة ابسوس لابحاث الاسواق، تراجعت الاعلانات في الصحف اللبنانية 10,7 في المئة بين 2014 و2015. ويقول زين الدين "الصحافة اللبنانية لم تتأقلم مع السوق الاعلامي الجديد، ولم تستشرف الازمة"، مضيفا ان الحل في "اعادة تنظيم الصحافة لنفسها والتعامل مع التحولات الجديدة".