كتاب "جدل الثقافة: مقالات في الآخرية والكولونيالية والديكولونيالية" أحد تلك الكُتب التي ينطبق عليها مبدأ الندرة، فقد جاء الكِتاب ليؤكّد بأنّنا لا نقرأ دائما كتاباً يملك القدرة على قول ما هو أساسي. لقد أيقظ الباحث والأستاذ الجامعي وحيد بن بوعزيز ، الأسئلة الأساسية داخل مشهدنا الفكري والأدبي والاجتماعي والتاريخي، في الوقت الذي صرنا عاجزين – أو ربما بدافع من الخوف – عن طرح الأسئلة الحقيقية. وأنا أستعد للكتابة عن هذا الكتاب – وهي المرة الثانية التي أكتب عن جدل الثقافة – استوقفتني جملة كتبها المفكر الإيراني – صديق إدوارد سعيد – حميد دباشي في كتابه المهمّ " هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟ " يقول فيها: " بقي إدوارد سعيد مستيقظا عندما ذهب العالم للنوم". جُملة تختزل كلّ شيء، ببلاغة ذكية. من الجميل أن نقرأ تجربة على ضوء تجربة أخرى، لاسيما أنّ الباحث وحيد بن بوعزيز يدين لمشروع إدوارد سعيد الفكري والنقدي بالكثير، وما جعلني أستحضر مقولة دباشي هو أنّ كتاب جدل الثقافة تنطبق عليها هذه المقولة، ففي الوقت الذي كان الأستاذ وحيد مستيقظا – استيقاظ الأسئلة الجوهرية – ذهب النقد الأكاديمي للنوم – سبات الجامعة وغياب الحس النقدي فيما يُنتج من مؤلفات -. قد ينزعج البعض من هذا الإسقاط، وقد يعتبره البعض – وهذا احتمال له ما يبرّره في سياقنا النفسي الجمعي – أنّها مبالغة بلا أي معنى، لكن كتاب جدل الثقافة قد يمنح شرعية كبيرة لهذه المقولة، لأنّه مكتوب أصلا بيقظة فكرية كبيرة.نحن بأمس الحاجة إلى فكر يقظ، إلى كاتب يمتلك حسّ الضمير المؤرّق – بتعبير دباشي مرة أخرى. فالناقد الحقيقي هو شخص يعاني من الأرق، ووحدهم هؤلاء الذين يتنعمون بالنوم الهادئ لا يمكن لهم أن ينتجوا فكرا. سأعود إلى ملاحظة مهمة وهي حضور شبح إدوارد سعيد في كتاب " جدل الثقافة "؛ فحضوره تجاوز الحضور المرجعي – أي كمرجع أساسي في الكتاب – إلى حضور للصوت الأخلاقي داخل عالم زائل من الناحية الأخلاقية. حضر إدوارد سعيد كرؤية نقدية ثاقبة – وهذا هو الأهم – وقد تجلّى هذا في مقدرة الباحث على التعامل مع أسئلة الثقافة والاستعمار وما بعد الكولونيالية، وكذا في حفره الجريء في نصوص كُبرى، بوعي تثاقفي استطاع فيه أن يقرأ المتون الفلسفية والنقدية الغربية والعربية داخل رؤية واحدة هي تلك التي أطلق عليها إدوارد سعيد بالقراءة الطباقية.إننا أمام كتابة نقدية طباقية، مدت الجسور بين نصوص تنتمي إلى سياقات سوسيو – تاريخية مُختلفة. حضرت النصوص الكولونيالية في مقابل النصوص المضادة لها، كما حضر الفكر الغربي بترسانته المناهجية والمفاهيمية في مقابل فكر عالم ثالثاني، هذا الأخير حاول ألا يقع ضحية اللعبة المرآوية وهو يبحث عن صوته المختلف. كيف يُمكن أن نكتب عن عالم تتحكم فيه قيم لا أخلاقية ولا إنسانية؟ إننا بحاجة إلى كتابة ذات عمق أخلاقي بالأساس. أي كتابة ملتزمة بقيم إنسانية، تدافع عنها من أشكال الاستلاب. لقد وعى الكاتب أننا جزء – و أكبر ضحايا الامبريالية المتوحشة وأكبر ضحايا الدول الوطنية الحديثة - من هذا العالم اللاأخلاقي، واللاعقلاني، واللاإنساني. إننا إلى حد كبير ننتمي إلى نبوءة أورويل، أي إلى ذلك العالم الذي تحكمت فيه شبكة عنكبوتية عابرة للقارات من المنظومات الاقتصادية والسياسية والمعلوماتية غير رحيمة.إنّ من أكبر وظائف العقل الأداتي، هي تجفيف الإنسان من ملكاته النقدية. لم يعد أحد يجرأ على ممارسة النقد، نقد عوامل إنتاج مجتمعات مستلبة، وكائنات زومبية! إنّ المعركة من أساسها، هي رهان صارم ضد امبريالية الآخر، وضد هشاشتنا التاريخية. ما الذي نملكه من متانة معرفية لنجابه هذا المصير الموحش؟ هل نملك جدارة الحضور في التاريخ، بما هو حضور فاعل وقابل للتحوّل إلى منظومة معرفية لها جدارة إنتاج دوالها ومدلولاتها؟.يستعيد جدل الثقافة الروابط بين النص والتاريخ، بعد أن فرطت فيها النظريات البنيوية، وساهمت في ترحيل الثقافة – على نحو قسري – عن العالم. لهذا فإنّ اللجوء إلى النقد الثقافي هو ضرب من عودة النصوص إلى ساحة الوجود بعد انسحابها منه.تكمن أهمية النقد الثقافي في تصوره الجدلي للثقافة، وهذا ما عكف وحيد بن بوعزيز على تجسيده؛ ومن خلال هذه المقاربة النقد – ثقافية استطاع أن يُخرج الخطاب المعرفي من الرؤية المغلقة التي فرضتها النصانية من جهة، والتي سادت الجامعة الجزائرية لسنوات عديدة بتأثير من الأساتذة الذين تكونوا في الجامعات الفرنسية على يد آباء البنيوية والسرديات البنيوية الفرنسيين. لم يعد السؤال المعرفي حبيس النص وأسيجته النظرية، بل لم يعد النص – الأدبي تحديدا ( سيمورغ لمحمد ديب، حيث تركت روحي لجيروم فيراري، أدب الرحلة...إلخ) حبيس الرؤية العلموية للنظريات البنيوية، بل استعاد في مقالات جدل الثقافة علاقاته المتشابكة والمتصارعة بالتاريخ وبالثقافة. في هذه الحالة، يفقد النص الكولونيالي جوهره الدلالي إذا ما تمت مقاربته نصيا، بل طبيعة النص تفرض قراءته في علاقته بالتاريخ الاستعماري من جهة، وفي علاقته بتاريخ المستعمرات، هذا الأخير الذي هو أيضا نتاج لتفجر السرديات المضادة ( سرديات التحرير أو المقاومة). من هنا، فإنّ قراءة في نص جيروم فيراري استدعت إعادة تكييف المقولات السردية – التبئير مثلا – لتكون أداة لفضح المخفي في نص جيروم حول التعذيب في الجزائر. وبحد تعبير وحيد بن بوعزيز، فقد وقعت الرواية ضحية لتقنية التبئير، هذه الأخيرة كشفت الستار عما سماه باللاشعور الكولونيالي. سنلاحظ، من خلال هذه العينة التحليلية، بأنّ الجدل هو أساس القراءة النقدية، التي تحفر داخل طبقات النصوص، لتستنطق لاشعورها.لا يكتفي وحيد بن بوعزيز بتقديم المعلومات، فهذا يمثّل مُعطى ثانوي، فالأولوية في نظره تكمن في التدرّب على ممارسة التفكير الجدلي للحقيقة، بل إنّه لا ينظر إلى هذه الأخيرة كجوهر مُكتمل البناء، بل إنّها مشروع بصدد التشكّل عبر مسارات، قد تكون أحيانا مجهولة. لا يؤمن النقد الثقافي إلا بنسبية الحقيقة، فضلا عن أنّه يمارس خلخلة لما يمثّل مركزاً. اشتغل وحيد بن بوعزيز على خطابات معرفية وأدبية تنتمي إلى المدونة الكولونيالية، وأخرى تنتمي إلى السياق ما بعد الكولونيالي. ما يبدو طارئا عند قراءة مقالات كتابه هو " تحسس المنعطف الخطير الذي خلفه الاستعمار في نماذجنا العليا "؛ بمعنى أنّه يؤكّد على أنّ ثقافتنا، وربما حتى ازماتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، هي في جزء كبير منها، إحدى مُخلفات الاستعمار. إننا ننتمي إلى التاريخ الاستعماري، ولا يُمكن التأريخ لثقافتنا الراهنة، والكتابة عنها، إلا بعد الوعي بآثار الاستعمار على كينونتنا.هل نقد الخطاب الكولونيالي هو دعوة لتصفية الذاكرة الاستعمارية؟ ثمّ كيف إقناع هذا الآخر بأنّ الثقافة الأوروبية – الغربية هي أيضا نتاج " كينونات المعذبين في الأرض"؟ يكشف جدل الثقافة عن تلك الجِراح التاريخية في جسد الثقافة في العالم، وفي جسد الثقافات المحلية التي تعرّضت لسيطرة الرجل الأبيض. فلم يعد من الممكن للخطاب النقدي أن يظلّ صامتا – والصمت ضرب من التواطؤ – أمام هذا الإرث الثقيل من الذاكرة الاستعمارية. لكن، هل تخلّص العالم من فكرة الاستعمار؟ أي هل أنّ نهاية الاستعمار في شكله التقليدي، وضع حدا لعوامل اضطهاد الإنسان واستعباده؟ إنّ النظرة البسيطة إلى العالم الذي ننتمي إليه اليوم، تكشف عن أنّ العالم مازال مقسما إلى كيانات متصارعة؛ بين شمال إمبريالي، الوريث المباشر للاستعمار، يملك وسائل القوة ( المال، الاقتصاد، التقنية، القرار السياسي، السلاح، الإعلام)، وما تبقى من العالم، من دول وجدت نفسها تتخبط في أزمات هيكلية، وفي صراعات عرقية ودينية، مثلما هو الحال بالنسبة للدول العربية وبعض الدول الإسلامية، ودول إفريقيا السوداء، وكأنّ الاستقلال لم يكن إلاّ سحابة صيف عابرة!. إنّ جدل الثقافة – كعنوان – يذكرنا بعنوان لكتاب فكري مرجعي وصم القرن العشرين، إنه كتاب " جدل التنوير "، للمفكريين الألمانيين: ثيودور ادورنو، وماكس هوركهايمر، وقد صدرت الطبعة الأولى للكتاب سنة 1947، أي سنتين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وخروج أوروبا من جحيم الإرهاب النازي. إنّ كتاب جدل التنوير يطرح تساؤلات حول التنوير الأوروبي، وكيف اكتسب العقل جوهرا أسطوريا؟ إنّ سقوط أوروبا في براثن الفاشية والنازية هو نتاج هذا التحول الخطير في الطابع العقلاني للعقل، ونتاج لانحصار الفكر الحر والنقدي، واتساع – في المقابل – رقعة الظلامية والجهل والهيمنة والاستبداد باسم العقل. سيغدو الجدل – في هذا السياق – تعرية لهذا الانحلال الذي بلغه العقل، والتدمير المنهجي الذي تعرّض له.انسجم مفهوم الجدل، كما جسدته أفكار أدورنو وهوركهايمر مع المفهوم نفسه كما تمثله وحيد بن بوعزيز في جدل الثقافة؛ فهذا الأخير كشف عن البنيات المتوارية للعقل الكولونيالي فيما أنتجه من خطابات معرفية وأدبية. بل ولم يكتف بممارسة النقد الذي طال الخطابات الغربية، بل امتد إلى إبراز الطبيعة النقدية للخطابات المعرفية التي أنتجها ( فانون، الأشرف، بن نبي، إدوارد سعيد، هومي بها بها، سبيفاك...إلخ).