رغم كل الضغوطات الدولية التي تطالب بالكشف عن مصيرهم والافراج عنهم، فلماذا يصر الأسد على التمسك بالمعتقلين، وهل يساهم الوصول إلى حل سياسي في العام 2019 في حل هذا الملف أم أن النظام سيواصل المراوغة؟ لقد سعى نظام الأسد طوال السنوات الماضية إلى التعتيم على ملف المعتقلين، في وقت يواصل فيه تصفيتهم في سجونه وممارسة أشد أنواع التعذيب بحقهم، مع وجود معتقلين منذ بداية الثورة في 2011، يسعى للتمسك بهم وعدم إدخالهم في أي مفاوضات. وقال المحامي غزوان قرنفل لحرية برس: إن "النظام يسعى للتمسك بالمعتقلين القدامى الذي اعتقلهم منذ بدء الحراك السلمي في 2011 وعدم الافراج عنهم، فعلى سبيل المثال رغم اشتراط اتفاق كفريا والفوعة في تموز الماضي على إطلاق سراح 1500 معتقلاً في سجون النظام بينهم معتقلين منذ عام 2011-2012، إلا أن الأسد عمد للمراوغة وأفرج عن أشخاص تم اعتقالهم حديثاً، بينما ظل المعتقلون القدامى قابعين في سجونه يتلقّون أشد أنواع التعذيب وفق ما ذكرت تقارير دولية". وأضاف قرنفل أن "نظام الأسد لا يريد أن يُفرج عن الجيل السلمي الذي نادى بالحرية في بداية الثورة، كي لا يعود إلى الساحات من جديد، أو حتى لا يكشف أولئك المعتقلون للرأي العام الفظائع التي مارسها النظام بحقهم على مدار ثمان سنوات، لذلك فإن ملف المعتقلين ربما سيؤجله النظام إلى حين إنهاء موضوع التسوية السياسية التي تؤمن لبشار الأسد الاستمرار في الحكم، عندها يمكن أن يُطلق سراح من تبقى من أحياء منهم". لماذا يُرسل الأسد شهادات وفاة؟ وأفادت تقارير حقوقية في الفترة الماضية، بأن آلاف العائلات تلقت شهادات وفاة من السجلات المدنية، عن وفاة أبنائها في المعتقلات بحالات وفاة طبيعية، وقالت لجنة الأممالمتحدة التي شُكِّلت للتحقيق في جرائم الحرب بسوريا الشهر الماضي، إنَّ إصدار هذا الكم الهائل من إخطارات الوفاة يعد بمثابة اعتراف من النظام بأنَّه مسؤولٌ عن وفاة سجناء كان ينفي احتجازهم على مرِّ سنوات. وقال رئيس تجمع المحامين السوريين الأحرار علي رشيد الحسن لحرية برس: "قام النظام السوري بتسجيل المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب على أنهم توفوا جراء إصابتهم بسكتة قلبية أو دماغية أو مرض الربو، وأصدر شهادات رسمية بهذا الخصوص، وذلك كون المعتقلين الذين قضوا تحت التعذيب هم الشهود العيان على أفظع الجرائم التي ارتكبها، لذلك قام بقتلهم كي تذهب الأدلة معهم". وأضاف الحسن أن "نظام الأسد وافق على مضض لأول مرة إدراج موضوع المعتقلين خلال الجولة الثانية من مفاوضات أستانا قي شباط 2017، لكن الملف بقي يتأرجح دون حسم إلى أن بدأ النظام بإصدار شهادات وفاة رسمية للمعتقلين في سجونه، ليوصل رسالة للمجتمع الدولي مفادها أن هذا الملف لم يعد قابلاً للتفاوض وبالتالي إغلاق هذا الملف الشائك". في حين قال الاستشاري القانوني القاضي خالد شهاب الدين: إن "نظام الأسد أرسل أكثر من عشرة آلاف اسم معتقل للمحافظات السورية بأنهم متوفين دون أن يُسلّم جثة واحدة منهم، ورغم مطالبة لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا الأسد بتسليم جثث من ادّعى وفاتهم وفتح تحقيق حيادي بكل حالة على حدى والسماح بزيارة معتقلات الأسد، لكن الأخير قابلها بزيادة وتيرة الإعدامات وخاصةً في سجن صيدنايا". وأضاف شهاب الدين لحرية برس، أن "النظام السوري لجأ أيضاً لتطبيق أحكام المفقود في العمليات الحربية، (أي أن المختفي قسرياً فُقد بسبب الحرب ولم تتم تصفيته في السجون)، وذلك للتغطية على جرائم قتل مئات الآلاف من المعتقلين وحرق جثثهم بمحارق خاصة ودفنهم بمقابر جماعية سرية، لذلك لن يفتح النظام ملف المعتقلين والمختفين قسراً، إلا بقوة المجتمع الدولي وتغليبهم لتطبيق العدالة على المواقف السياسية البعيدة عن الإنسانية والأخلاق". لكن كيف يتم إعداد شهادات الوفاة بحق المعتقلين؟ في هذا الاطار قال المحامي غزوان قرنفل: إن "بشار الأسد يُرسل قوائم مع تقارير طبية إلى دوائر النفوس، التي لا تُسجّل أي واقعة وفاة إلا بموجب تقرير طبي يُحدد سبب الوفاة، لذلك يُصدر النظام تقارير طبية مفبركة بالتنسيق مع المشافي، ويُدوّن في التقرير الطبي أن المعتقل توفي بشكل طبيعي نتيجة أزمةٍ قلبيةٍ أو نوبة ربو، بينما هو في الحقيقة توفي تحت التعذيب". وتابع قرنفل قائلاً: "بعد ذلك يُرسل التقرير الطبي المفبرك إلى السجل المدني، فيقوم أمين السجل المدني بتأكيد حالة وفاة المعتقل، دون أن يكون له حق التحري عن صحة تلك التقارير"، مشيراً الى أن "قوائم المعتقلين المتوفين المرسلة إلى السجلات المدنية، هي شكل من أشكال الهروب من أي استحقاق قادم قد يدين الأسد". هل يُفرَج عن المعتقلين مع الوصول لحل سياسي؟ وتسعى مختلف الدول المنخرطة في الصراع السوري للترويج الى التوصل لحل سياسي في سوريا عام 2019، وتحاول روسياوايران توصيف الحل السياسي بأنه صياغة دستور جديد واجراء انتخابات شرعية، بينما تصر المعارضة السورية على أن يكون الحل السياسي وفق "مرجعية جنيف"، ويتضمن رحيل بشار الأسد والافراج عن كامل المعتقلين. وقال القاضي خالد شهاب الدين: "في حال تم التوصل الى حل سياسي هنا نسأل وفق أي مرجعية سيتم صياغة هذا الحل؟، فإذا كان وفق بيان جنيف 1 والقرار 2118 و2254، فبالاساس هذه المرجعية تفرض على نظام بشار الأسد إطلاق سراح المعتقلين تعسفياً والمختفين قسرياً فوراً وقبل الدخول في أية مفاوضات، إلا أن ذلك لم يحصل". وأضاف شهاب الدين أن "المجتمع الدولي صمت أيضاً عن تطبيق القرارات الدولية الداعية للافراج عن المعتقلين، وسمح لروسيا بفرض المسار الذي تريده وتهميش ملف المعتقلين والمختفين قسراً بالكامل، بل وتحريف مصطلح المعتقلين الى محتجزين أو أسرى، وبالتالي المساواة بين نظام الأسد الإرهابي والضحية". وأشار شهاب الدين الى أن "المؤسسات التي برزت لتمثيل قوى الثورة ومنها الائتلاف وهيئة التفاوض السورية والحكومات التي تشكلت، لم تولي هذا الملف الحد الأدنى من الاهتمام، وتنازلوا عن اعتباره ملف فوق تفاوضي، وأصبحت قضية المعتقلين آخر ما يتم مناقشته أو المطالبة بها، ونلاحظ أنه عندما تم ارسال قوائم الموت لم يتم عقد مؤتمر صحفي واحد من قبل أي من تلك المؤسسات التي تدّعي تمثيلها للثورة، وكان من الواجب عليهم تخصيص لجنة خاصة لمتابعة قضية المعتقلين والمختفين قسراً بشكل يومي". وتابع قائلاً: "في ضوء تلك المعطيات السابقة، فإن النظام السوري لن يُقدم في حال حصول حل سياسي عام 2019، على إطلاق سراح المعتقلين بل سيلتف وبدعم روسي وصمت دولي على ملف المعتقلين والمختفين قسراً، وسيكتفي بإطلاق سراح العشرات وسيُنكر وجود مئات الآلاف منهم في سجونه، وبأنهم مفقودين نتيجة العمليات الحربية". في حين قال المحامي غزوان قرنفل: إن "النظام لا يُقدم شيئاً بلا مقابل، ولن يطلق سراح من تجرأ بإبداء مناهضته له بسهولة، لذلك على المعارضة السورية عدم الخوض في أي ملف قبل حسم ملف المعتقلين بوصفه ملفاً حقوقياً وانسانياً وما فوق سياسي" . وأضاف قرنفل "عندما ترتسم ملامح حل سياسي حقيقي سيكون ملف المعتقلين ضمن مندرجاته، بل يُفترض أن يكون أُغلق هذا الملف قبل الوصول لحل سياسي، لكن في جميع الأحوال يُفترض بأي حل سياسي أن يكون عاماً وشاملاً لكل الملفات ( الانتقال الديمقراطي – العدالة الانتقالية والمحاسبة – اصلاح المؤسسات واعادة هيكلة الجيش والقوى الأمنية – المحددات الدستورية للمرحلة الانتقالية وغيرها من القضايا التي ثار الشعب السوري من أجلها)". بدوره قال علي رشيد الحسن: "نحن في تجمع المحامين السوريين الأحرار نرى أن أي حل سياسي لن يصمد مستقبلاً إن لم يكن مصحوباً بالضغط على النظام السوري والدول الراعية له، وأن هذا النظام المجرم لن يُفرج عن أي معتقل بل سيحاول تصفيتهم في السجون أو يراوغ بالكشف عن مصيرهم وإنهاء هذا الملف نهائياً". إطلاق سراح ثم اعتقال وفي كل فترة يدّعي النظام السوري الافراج عن بعض المعتقلين، ما يخلق بعضاً من الفرح والأمل لدى ذويهم بلقائهم مرة أخرى، لكن المصيبة أن كثيراً ممن أطلق الأسد سراحهم تم اعتقالهم مجدداً، ومنهم حتى قبل أن يصلوا الى بيوتهم. أبو رحمو من ادلب فقد إبنه الأكبر منذ مطلع 2012 بعد أن اعتُقل إثر خروجه في إحدى المظاهرات، وتحدث عن ما جرى لإبنه قائلاً لحرية برس: "بعد عدة أشهر من اختفاء ابني علمنا بعدها أنه نُقل من ادلب الى فرع 215 في دمشق، وبعد عام من بقائه في السجن الانفرادي عُرض على محكمة الإرهاب، واتهمه قاضي النظام بتمويل (المسلحين) رغم أن المظاهرات حينها كانت سلمية فقط، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات". وأضاف أبو رحمو "عقب انتهاء المدة تم إخلاء سبيله، لكنه فجأةً اختفى وهو في طريقه إلينا، وبعد دفع نصف مليون ليرة سورية لأحد الشبيحة، علمنا أن أحد الأفرع الأمنية أعاد اعتقاله رغم أنه قضى كامل فترة حكمه". المحامي غزوان قرنفل علّق على ذلك قائلاً: "أفرع مخابرات الأسد حوّلت سوريا الى غابة، فليس هناك تنسيق بين أجهزة الأسد الأمنية، حيث إن كل فرع أمني عبارة عن إقطاعية لرئيس هذا الفرع، وليس لديه استعداد للتواصل مع الفرع الآخر للتأكد من عدم ثبوت أي تهم على الشخص الذي تم اعتقاله مجدداً، وهذه العقلية موجودة لدى الأفرع الأمنية منذ عقود". معتقلون إلى إيران وفي المقابل لم يكتفِ الأسد بتعذيب المعتقلين وقتل معظمهم، بل عمد أيضاً الى ارسال بعض المعتقلين السوريين الى ايران، وفي هذا الإطار قال القاضي خالد شهاب الدين: "بالنسبة لإستمرار الأسد في ارسال معتقلين سوريين إلى طهران فهذا وارد، وخاصةً أن إيران باتت اليوم هي الآمر الناهي في سوريا الى جانب روسيا، وقد سمعنا سابقاً في عام 2012 من بعض المعتقلين الناجين من سجن صيدنايا، أنهم كانوا يسمعون بإرسال معتقلين إلى إيران وأنهم سمعوا حينها أن حسين الهرموش كان في السجن الأحمر في صيدنايا وتم نقله جواً الى إيران". وفي سياق متصل قال غزوان قرنفل: "ترددت منذ بداية الثورة هذه المعلومات ولم يتثنّ التأكد منها على وجه القطع، لكني لا أستغرب مثل هذا السلوك، فمن أنشأ المحارق ومارس الاعدام خارج القانون والقتل تحت التعذيب وغيرها من الفظاعات، ليس مستغرباً عنه ارسال معتقلين للمنافي لتصفيتهم او استبعادهم". وذكرت صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية في تقريرٍ لها قبل أيام، أن النظام السوري يواصل إعدام المعتقلين بوتيرةٍ أسرع وأشد قسوة، في ظل تسريع القضاة العسكريين وتيرة إصدار أحكام الإعدام، بحسب ما ذكره ناجون من سجن صيدنايا الذي يُعد أسوأ السجون سمعةَ في سوريا. وتحدَّث أكثر من 20 معتقلاً ممَّن أُفرِج عنهم مؤخراً من سجن صيدنايا، لصحيفة "واشنطن بوست"، إنَّ السجناء يُنقلون من السجون الأخرى بجميع أنحاء سوريا للانضمام إلى المعتقلين المحكوم عليهم بالإعدام في قبو صيدنايا، ثم يجري إعدامهم شنقاً في جنح الظلام، وإنَّ العديد من السُجناء يموتون حتى قبل الوصول إلى المشنقة، بسبب سوء التغذية أو الإهمال الطبي أو الاعتداء الجسدي، أو يموتون إثر تعرضهم للتعذيب النفسي. يذكر أن منظمات وشخصيات حقوقية ونشطاء أطلقت حملة تضامنية تحت عنوان "أنقذوا البقية"، للمطالبة بالكشف عن مصير الآلاف من المعتقلين لدى النظام، تضمنت ندوات وتوزيع منشورات للتعريف بأهمية قضية المعتقلين، وزرع الأمل في قلوب الأهالي بإنقاذ أبنائهم الذين لا زالوا في السجون، وتعتبر تلك الحملة متابعة لذات الحملة التي انطلقت مطلع عام 2015. ووثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقرير لها مؤخّراً، وجود أكثر مِن 118 ألف معتقلاً سورياً في معتقلات "نظام الأسد" بينهم 368 شخصاً اعتقلوا من قبل حواجز النظام السوري في تشرين الثاني الماضي، في حين كشف النظام مؤخراً عن مصير نحو ثمانية آلاف معتقل مِن خلال "قوائم الموت" التي أرسلها إلى السجلات المدنية في معظم المحافظات السوريّة، تؤكّد مقتلهم "تحت التعذيب" في سجونه.