يجمع الملاحظون و الباحثون و الفاعلون في قطاع التربية و أولياء التلاميذ وكل من يهتم بالقضايا التربوية، أن المدرسة الجزائرية- بشكلها الحالي- تعيش أزمة عميقة كما تعرف اختلالات كبيرة، فقد أصبحت هذه المؤسسة التي– من المفروض- ، أنها تسهر على تنشئة الفرد معرفيا وثقافيا واجتماعيا، لا تؤدي وظائفها التربوية و التعليمية على أحسن وجه. و لعله من البديهي القول أن أسباب هذا الوضع المتردي، متعددة ومعقدة، و هو أمر طبيعي، كونه يعبر عن التجربة الفتية للمنظومة التربوية في البلاد، إذ مرت المدرسة الجزائرية، بمراحل متعددة، و شهدت عدة تحولات و برامج وإصلاحات، و لم تٌقيم و لم تتم مراجعتها إلا عندما بدأت الأزمة تتعمق و تٌثار الأسئلة الكثيرة حول نجاعة المناهج المعتمدة وعن خلفياتها السياسية والفكرية. و لعل النقاشات التي دارت وتدور حول كيفيات معالجة هذه النقائص، و هي حقيقية وكثيرة تركز كثيرا على مسائل محسومة أو في طريقها للحسم من خلال البناء التوافقي، على الأقل قانونيا وسياسيا و حتى عمليا في غالب الأحيان أي كل ما يتعلق بالهوية وباللغة. و الملاحظ أن هذه النقاشات تأخذ - و في غالب الأحيان - مسارا عقيما تتدخل فيه التلاعبات الأيديولوجية و السياسية و التضليل الإعلامي أكثر مما يتدخل فيه التفكير الجاد حول المسائل التربوية و البيداغوجية، وهي الأهم في إصلاح المدرسة، بل تقع هذه المسائل في مقدمة الأولويات. و قد تناولت الصحافة الجزائرية، بلغتها العربية أو بلغتها الفرنسية و بتوجهاتها المختلفة، هذه الموضوعات، التي شغلت و تشغل الرأي العام الوطني بإسهاب كبير. و تجدر الإشارة إلى أن السلطات الوطنية اجتهدت منذ بداية الاستقلال على جعل التعليم في متناول جميع أبناء الجزائر وسخرت لتلك الغاية جميع الوسائل المادية و كل ما تملك من موارد بشرية. و بالفعل فقد التحق العديد من الأطفال بالمدرسة و التمكن من التعلم، بعد أن تم حرمان أبائهم و أجدادهم من هذه النعمة خلال الفترة الاستعمارية. و في مجال التدريس، حققت الجزائر الكثير من الانجازات، إذ أصبحت نسبة التمدرس- و في ظرف نصف قرن - تتجاوز 97%، كما أصبح التعليم مجانيا و إلزاميا إلى حدود سن 16 سنة، و أضحى عدد التلاميذ يتعدى الثمانية ملايين، بل يقترب من التسعة ملايين. أما في مجال بناء الهياكل التربوية و المدارس و الثانويات، فقد تضاعف عددها منذ الاستقلال إلى الآن بعشرات المرات. و تماشى ذلك مع النمو الديموغرافي المتسارع للسكان و مع الإمكانات المتحصل عليها من الناحية الاقتصادية، أما عن التأطير التربوي و الإداري فقد تجاوز عدد المؤطرين أكثر من نصف المليون. و من المفيد التذكير أن هذه المكاسب الشعبية ظلت قائمة على الرغم من التحول السياسي و الاقتصادي الذي عرفته الجزائر مع نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، أي من النظام الاشتراكي إلى النظام الليبرالي. فديمقراطية التعليم وعموميته ثابت من ثوابت السياسة الوطنية المكفولة قانونيا وعمليا وسياسيا، كما تم تعريب التدريس لجميع المواد و جزأرة التأطير في كامل الأطوار التعليمية، من الأساسي إلى الثانوي. خطابات التهويل حول المدرسة و في هذا السياق برزت عدة خطابات حول المدرسة، و بخاصة لدى الفاعلين من رجال السياسة و الإعلام و لدى المثقفين و الباحثين، و تؤكد غالبية هذه الخطابات على أن المدرسة الجزائرية «أصبحت منكوبة» و أنها «أصبحت مصدرا للإرهاب»...؟، و ضمن هذا الزخم من الانتقادات، جاء إصلاح 2003 ليعالج هذه الأمور. ويبدو أن الصحافة الجزائرية المستقلة تطرح «مسألة الإصلاح المدرسي بوصفها هاجسا للمجتمع المعاصر، تتجسد فيه الانشغالات المقلقة و الآمال» و تضفي على وضعية المدرسة الطابع المأساوي و تسجل العديد من النقائص على جميع المستويات التربوية والتجهيزات والهياكل التربوية و نسب النجاح في الامتحانات و الرسوب الكبير للتلاميذ و نقص الكتب و الوضعية المزرية للمعلم. في المجمل تقدم الصحافة المستقلة صورة رديئة عن المدرسة، هي السبب في الإفلاس الشامل و في ذات الوقت الضحية لممارسات خاطئة، مما يستدعي المعالجة و الإصلاح. إن معاينة بسيطة للتمثلات القائمة حول المدرسة- كما تبرز في الإعلام و في الخطابات السياسية- تدعو للاعتقاد أن الفضاء التربوي تحول إلى ساحة للاقتتال حيث تستعمل كل المفردات التي تنبئ عن حرب قادمة لا محالة، مفرداتها التخويف والعنف الرمزي، وخطاب التهويل، و ما دام الأمر يتعلق ببناء الدولة الوطنية و ببناء الهوية الجزائرية، و كون هذه المؤسسة التربوية تسهم و بشكل كبير في ذلك من خلال ما تقدمه من برامج و مضامين من خلال ما تقدمه للتلاميذ من علوم إنسانية و اجتماعية مثل اللغة والأدب و التاريخ والتربية الدينية و المدنية، كان طبيعيا أن تجد هذه الاختلافات الفكرية و السياسية صداها في الفضاءات المختلفة. و لعله من المفيد التذكير أن المدرسة تقدم علوما أخرى من رياضيات و فيزياء وكيمياء وطبيعيات و تكنولوجيات... و هي علوم ذات طابع تقني لا تثير، في الأصل، الجدل مثلما تثيره العلوم الإنسانية و الاجتماعية الأخرى، كونها «حيادية» و «موضوعية» بشكل كبير. الخلفية التاريخية للنقاش حول المدرسة و لفحص هذه النقاشات التي -تكرر إلى حد الملل- و محاولة فهمها، يبدو أنه من الضروري العودة إلى تاريخ لحركة الوطنية و كيفية تشكلها، و ما هي أهم توجهاتها؟ و ما هي الصراعات السياسية والأيديولوجية التي عبرتها؟ و كيف انتقلت هذه الصراعات إلى الساحة السياسية في الجزائر المستقلة و ما هي تبعاتها على المجتمع؟ و كيف تم طرح المسألة اللغوية؟ و قبل الخوض في هذا التحليل، لا بد من الإشارة إلى أن الدراسات في التاريخ الثقافي و السياسي التي قدمها كل مصطفى الأشرف و محمد حربي و علي مراد وعدي الهواري و أبو القاسم سعد الله و خولة طالب الإبراهيمي و أرزقي فراد، و غيرهم قد تفيدنا كثيرا في معاينة هذه الجوانب التاريخية. و الواضح أن مثل هذه الصراعات الأيديولوجية و اللغوية ليست بريئة، بل تخفي في طياتها صراعات ذات طابع سياسي (التمكن من السلطة و على جميع المستويات)، وأيضا تضمر صراعات ذات طابع اقتصادي (أي السيطرة على الريع البترولي)، كما تدل بشكل قاطع على التردد الذي يطبع مواقف الفاعلين السياسيين - بمختلف توجهاتهم - في التوافق على نموذج سياسي واضح...، فكل تيار سياسي يحاول الاستفادة من المبادئ التي تم الإعلان عنها في بيان أول نوفمبر 1954. نشأت الحركة الوطنية بمختلف أطيافها في أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين، و قد انخرطت في عملية نزع الاستعمار و القضاء عليه، كل تيار حسب ما توفر لديه من إمكانيات و ظروف سياسية و تنظيمية و خلفية فكرية. و في هذا المسعى أخذت كل من الحركة الثورية (أي حزب الشعب الجزائري/حركة انتصار الحريات الديمقراطية) والحركة الإصلاحية أيضا (جمعية العلماء المسلمين)، حيزا كبيرا ولعبت دورا لا يستهان به، و بخاصة في المجالين السياسي(أي تحرير الأرض و الاستقلال بالنسبة لحزب الشعب) والثقافي (الحفاظ على الأصالة الثقافية: اللغة العربية و الدين الإسلامي بالنسبة للإصلاحيين)، أي الوقوف ضد الفرنسة الإقليمية والسياسية و اللغوية و الثقافية. وبطبيعة الحال كان هناك لكل الحزب الشيوعي الجزائري و للاتحاد الديمقراطي من أجل البيان (فرحات عباس) وحركات سياسية و ثقافية أخرى دور في الإسهام بشكل من الأشكال في بلورة الإشكالية الثقافية و السياسية للجزائريين، لكن كان للحركة الوطنية الثورية التي انبثقت عنها جبهة التحرير الوطني و الداعية للثورة المسلحة و القطيعة الجذرية مع النظام الكولونيالي الدور الحاسم في بلورة المفاهيم الوطنية، كما لعبت لحركة الإصلاح الديني والتربوي أيضا دورا كبيرا في تحديد هوية الجزائريين و التكيف مع الوضع للحفاظ على الأسس الحضارية للمجتمع الجزائري.. و في هذا الصدد، يجمع المؤرخون التي سبقت الإشارة إليهم أن العشرينيات من القرن الماضي كانت حاسمة في تبلور الوعي الوطني، و قد لعب المهاجرون سواء إلى فرنسا بالنسبة للحركة الوطنية الثورية، أو إلى المشرق العربي بالنسبة لرواد الحركة الإصلاحية، دورا بالغ الأهمية في التأسيس للمقاومة السياسية و الثقافية و الوقوف ضد المشاريع الكولونيالية، فالنظام الكولونيالي الذي اعتقد، في هذه المرحلة، أنه قد سيطر على كل مناحي الحياة السياسية والإدارية و الثقافية في البلاد، بعد أن أخضع بالقوة جميع الانتفاضات الشعبية منذ مقاومة الأمير عبد القادر (1832-1847) مرورا بالانتفاضة التي قام بها الشيخ بوعمامة (1899)، لم يكن يتوقع أن مقاومة الجزائريين لنظامه لم و لن تتوقف، إذ اتخذت أشكالا عديدة ومتنوعة، فانتقلت من المقاومة المسلحة إلى المقاومة السياسية. و في هذا السياق سعت نخبة من الجزائريين للتفكير في أحسن السبل للخروج من هذه الوضعية القاهرة، فكان حركة «الشباب الجزائري» في بداية القرن العشرين الذي طالبت بالحقوق السياسية و كانت لها علاقة وطيدة مع الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر، و التحق بهذه الحركة العديد من المثقفين الذين حاولوا التكيف مع الوجود الفرنسي. و لم يدم كثيرا هذا الطرح، إذ أن تأسيس حزب «نجم شمال إفريقيا»، و هي حركة ذات طابع عمالي وذات روح نقابية احتجاجية، جاءت بنظرة جديدة لتشكل قطيعة كبيرة مع الأطروحات السابقة. وعلى الرغم من عدم امتلاك مؤسسي هذه الحركة للخلفية الفكرية القوية التي تقودهم نحو رسم إستراتيجية سياسية واضحة المعالم، فقد كان لهم (مصالي الحاج و رفاق دربه) القدرة على مواجهة الهيمنة الفرنسية بالاعتماد على الشعبوية المرتبطة بالجذور الاجتماعية للجزائريين الفقراء المستضعفين، و على العفوي في التكيف مع الأوضاع الاجتماعية و الثقافية و على التمسك بالثقافة العربية و الإسلامية للجزائريين.