كانت له مفاتيح وهران جميعها! ما من غريب يجتاز أبواب وهران العالية إلا ويسأل عنه : ... – هل تعرفه؟ إن لم تعرفه فقد ضاعت منك إحدى عجائب وهران السبع : البحر، وسيدي امْحمد، وسانتاكروث، ولاباستيل، و سيدي الهواري، و المدينة الجديدة، وبلقاسم بن عبد الله. ويكاد بلقاسم بن عبد الله أن يكون القاسم المشترك، بين كل هذه الكنوز الستة بالنسبة للوافد إلى وهران، من الأدباء والمثقفين القادمين من العاصمة، أو من مدن أخرى وقرى من الشرق والغرب والجنوب والشمال، و من الأدباء القادمين من بلدان العالم العربي . بقلب طيب وسريرة نقية يحتفل بك، وبابتسامة تكاد تكون ساخرة، تقنعك أخيرا أن العالم بخير على الرغم من كل شيء، وأن الحياة تستحق أن تُكابَد طريقُها غير المُعبّدة. يدعوك لزيارة قصيرة لمقر فرع اتحاد الكتاب، بوسط شارع العربي بن مهيدي، الذي يترأسه، تتمشيان في شارع خميستي لاختيار مقهى، يعدّل من نظّارته، ثم يقترب منك، ويهمس في أُذنك بصوت هادئ، يكاد يكون ضاحكا، بأخبار أكثر إثارة مما يستقيه من مصدره في وكالة الأنباء الجزائرية التي يعمل بها، أو من الإذاعة الجهوية التي ينتج بها برنامجه الشهير «دنيا الأدب «، الذي يشرف عليه منذ سنوات طويلة، رفقة الأديبة الأنيقة «أم سهام»، فيدهشك. يقرأ بحنكة العارفِ بالناسِ ملامحَك، يدرك أنه أقنعك وأذهلك، فيحدثك عن جريدة الجمهورية، التي يعرف أدق تفاصيل هندستها وتاريخها، يسردهما عند الحاجة، دون تكلف أو تبجح. وبصوته الهامس ذاك، وكأنه يفضي إليك بسرّ، يحدثك بفخر عن أفراد العائلة الكبيرة، عن المدير عيسى عجينة، وعن محمد صالح رئيس التحرير، وعن محمد عوان، وحميد سكيف، ومحمد كريم بن يمينة، ورويبي صالح، وميموني عبد القادر... وسيحدثك عن فرحته، لكونه أقنع شخصيا الروائي الطاهر وطار، بفكرة نشر روايته «العشق والموت في الزمن الحراشي» مسلسلة في الجمهورية، وسيشرف على نشرها يوميا، وبإتقان، رئيس القسم الثقافي ذاك الأديب الشاب بوزيان بن عاشور، الذي سيلتحق بالخدمة العسكرية، وسيتولى الأديب الشاب أمين الزاوي رئاسة القسم الثقافي، فيتسابق قراء الجمهورية في كل مكان على متعة قراءة رواية وطار. سيتابع لبرهة سربا من الحمام، يمر ضاجا بسماء خميستي. يعيد الاقتراب من أُذنك فيكلمك عن محمد نيار، وملحق الجمهورية الأسبوعي الثقافي. وربما جاء في سياق الكلام ذكر « أوراق الخميس»، التي كان يشرف عليها الشاب القصاص اللامع عمار بلحسن، رفقة حمزة الزاوي، وربما أفضى لك أن «النادي الأدبي» هي من بنات أفكار ذلك الشاب الذكي جدا عمار بلحسن، وأن الأعداد الأولى منه كانت رفقة الأديب الشاب الحبيب السائح. وما هي إلا لحظات، حتى يفتح أمامك صفحات الجريدة، المطوية بعناية، وبحرص شديد تحت إبطه، وفيها -طبعا- عدد جديد من أعداد «النادي الأدبي» الذي يشرف عليه منذ سنين عديدة. وأنت تتأمل هذا الوجه الذي يبدو سمحا مسالما، وهذا الصوت الهامس الهادئ، تدرك لماذا نجح أن يكون بلقاسم بن عبد الله( جامع الشتات) الثقافي في البلاد، والقاسم المشترك بين أعجوبات وهران السبع. كان صديق الجميع، يسارهم ويمينهم، أجيالهم المختلفة. أزاح عن الجامعيين أسوار النخبوية وبرانيس الفهماء والعلماء، وأدخلهم في الخطاب العام، من الدكتور عبد الله الركيبي، و أبو القاسم سعد الله، و ضيف الله،وعبد الملك مرتاض، حتى الجيل الجديد. أخرج جريدة الجمهورية من المحلية إلى الوطنية، بل والعربية، وأمطرت طلبات «الاشتراك» بها من جميع أنحاء البلاد. وكثر عشاق الجمهورية، بعد أن شاهدوا لأول مرة حديقة كبيرة، بأصناف عديدة ومختلفة من العصافير، تشدو في انسجام واختلاف، دون أن تلغي فصيلة منها أخرى. فتابع قراؤها كُتّابا بغض النظر عن توجهاتهم السياسية والأيديولوجية، فكأن بلقاسم بن عبد الله قد شيّد ( أنْدَلُسًا) صغيرة في الجمهورية، متسامحة متعايشة. نشر «حلزونيات» رشيد بوجدرة، و نشر لرزاقي، و حمدي، و حمري، وأزراج، و عاشور فني، و الغماري، و زتيلي، و بوديبة، و نطور، و أدونيس، وبنيس، و الطوبي، و بختي بن عودة.. لكن بلقاسم بن عبد الله، كان مهموما أكثر باكتشاف أسماء أدبية جديدة، ومرافقتها، وخاصة من الإناث. الحق يقال، فقد ساعد باهتمامه في ظهور العديد منها : - آلو مساء الخيييييير والرْبَحْ ربيعة.! إنها عادته في مد كلمة ( الخيييييير). يأتيني صوته المبتسم عبر الهاتف الأرضي، ليسألني إن كنتُ قد انتهيت من إعداد ركن «محاولات الأدباء الشباب»، الذي كنت أشرف عليه بالقراءة، والتوجيه، والردود على أقلام غضة، بعضها أصبحت أسماء وازنة في المشهد الأدبي. قمت بذلك لمدة سنوات قبل أن أسافر. أقرأها باهتمام، وأرتب الأسماء بطريقتي الخاصة، ولكن بلقاسم بن عبد الله يحلو له عند النشر، أن يضع أسماء الإناث أولا. كان يعتبر هذا الركن أساسيا جدا، وشديد الأهمية، لأنه رهان على الغد الأدبي. لابد و أن بلقاسم، كان يدرك أن فتاة جميلة اسمها ( علياء بوخاري )، ستأتي ذات غدٍ، وتتجلى، وتنعش «النادي الأدبي»، وتعيد اللحن إلى حناجر عصافيره النائمة، وبسحرٍ ما، ستوقظ الحياة في ( أندلسه) الصغيرة داخل الجمهورية. لا بد أن روحه المُرفرفة فوق وهران، وفوق مقر الجمهورية، تمطر الآن عطرا صباحيا، وهي تسمع علياء توقظني ككل صباح أحد باكرا: - صباح الخير يا قمر .. أنتظر الربيعيات بشغف!