أما مع جورج لوكاتش فينتهي محمد الأمين بحري في إضاءة بالغة الأهمية إلى فكرة التضاد "بين القيمة والإفلاس، أو قل: بين الملحمة والرّواية، اللتين حدّد لوكاتش بدقة متناهية المسافة الفاصلة بينهما.. عبارة تعني أنّنا صرنا مخلوقات روائية بامتياز"، هذه المخلوقات الروائية هي التي نبشت في التاريخ وإديولوجيته المنسابة كنهر من أعالي المتخيل الإنساني لتنحت شكل الحكاية باعتبارها أساس الوجود الذاتي والمجتمعي، ولهذا يسِمها ب "ملحمة هجرتها الآلهة"، ولعل الانطباع الأول في معنى الهجر يوحي باليتم الدلالي، ومن ثمة بالفقر إلى الحميمية والحنين الوجوديين، لكن أيضا تشي المقولة في طياتها باندراج الوعي الإنساني داخل البنية التكوينية التحولية التي لا تقعد مقعد الثبات إلا لتتهجى ذاتها في تفاعل المخيال الذي يكشفه المعنى في الرواية، والنبل الذي ينضح من كينونة الملحمة، ولعل فكرة الرواية هي التي أوحت للوكاتش بمفهوم "التشيؤ" الذي يراه في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي": "نتيجة مباشرة لاستبداد النظام الرأسمالي المفكك للقيم الإنسانية"، ومنها المتخيل الدافع للبنية إلى الحركة والتحول والنظر الشفيف في المستقبل. سارتر /نهاية بنية وبداية أخرى: ينتهي محمد الأمين بحري إلى المحطة السارترية حيث يقف سارتر في مقام "نضال من أجل المنهج"، لكي لا يقف الإنسان "ضد نفسه"، ويصل إلى المأساوية والبؤس. يرى محمد الأمين بحري أن سارتر ابتدع "وضعية الحياد" لكي نعرف كيف توجد الحياة داخل الموت. وسارتر يقف بهذا المفهوم وحيدا بعد الحرب العالمية الثانية "يواجه مجتمعا بليدا باستقلالية تامة رآها مجتمعه آنذاك مروقا عبثيا" كما يقول محمد الأمين بحري، والوقوف ضد المجتمع يعني نهاية بنية وبداية أخرى، هذه البداية والنهاية لا تعنيان الزوال أو الانبثاق الماديين، بقدر ما تعني التحول داخل البنية حين تتضافر الشروط الموضوعية لخلق الفعل المجتمعي النابع من موقف الأفراد. سارتر يبدو في منظور البنيوية التكوينية من خلال رؤية لوسيان غولدمان مجدّدا وبنيويا تكوينيا، "ليصل إلى صلب موقف سارتر المطالب بمنهج علمي إيجابي داخل الماركسية"، وهو ما يكشف عن الاشتغال الفلسفي على البنية التي تتخشب وتنهار انطلاقا من انغلاقها المطبق على ذاتها، ولهذا تمثلها سارتر في كيفيات تكوينية لترميم الشرخ الفلسفي للرؤية الماركسية انطلاقا مما توصل إليه غولدمان، من أن "عمل سارتر كان حاملا لبذور فكر بنيوي تكويني ناضج". عود على بدء: يكشف كتاب محمد الأمين بحري على أن مسار البنيوية التكوينية هو مسار جدلي، يتقمّص ستار المجتمع / العالم كي يعيد تشكيل الحكاية من خلال الحوار الفلسفي القائم على الجدل في وعي من ساهموا في تثوير بؤر فلسفة "البنيوية التكوينية"، وأيضا المتلقين الذين ناوروا برؤاهم حول حركة الجدل المفهمي حول البنية، ولهذا كانت العتبات المؤسّسة مُدْرَجَة ضمن رؤية النّسق وجدل الكلي في رؤية هيغل، ثم تأسس الجدل حول الميتافيزيقا والواقع مع ماركس ليستمر انزلاق المادة في صيرورات الكمون الإنساني الهادف إلى ترميم فجوة التاريخ داخل المعنى في الوجود القائم على الانعكاس، ليستمر الجدل في بناء الحكاية التكوينية داخل أطرها الإنسانية وجمالية المخيال في تجليات الرّواية وصراع الشّخوص مع لوكاتش، هذه المفاهيم حسب ترتيب الكتاب تقود بالدلالة الإيحائية إلى استنباط الرؤية السارترية الوجودية في موقف سارتر من مجتمع منهك خارج لتوه من عبث الحرب، الموقف السارتري هو نهاية بنية وبداية أخرى.