أُدخِلتْ مي زيادة، بشكل ظالم، إلى مستشفى الأمراض العقلية، العصفورية، وبقيت هناك بالقوة مدة تجاوزت السبعة أشهر، قبل أن يتم نقلها إلى مستشفى نيقولا رابيز، بالجامعة الأمريكية، لترتاح قليلا بعد أن تم كشف خيوط اللعبة. ذاقت مي في العصفورية كل ألوان التعذيب الجسدي والإطعام بالقوة، من أجل فك إضرابها عن الأكل، لكنها رفضت بشجاعة حتى أثبتت صحة عقلها وأخرجت من دائرة المجانين. اتهمت مي بالجنون وتم الحجر عليها، وعلى كل أموالها. وكان عليها، إن أرادت أن تعيش، أن تسيّر حالة الظلم والجنون المسلطين عليها. وراء هذا الاعتداء أفراد من عائلتها المباشرة، بالخصوص ابن عمها الدكتور الطبيب جوزيف زيادة الذي سلمته أمرها طواعية، بسبب حالة الكآبة التي كانت تعاني منها، ليقودها من القاهرة حيث كانت تقيم بحجة الاستراحة والاستجمام بعد وفاة والدها وجبران وأمها، إلى بيروت. وبعد فترة وجيزة اتضحت أركان الجريمة، إذ تركها في بيته في بيروت، تلتقي يوميا بباحث انجليزي مختص في الآداب الأنكلوساكسونية، للتخفيف من عزلتها. اتضح بعدها أن العالم المزيف لم يكن إلا مدير العصفورية الذي ظل يدرس ردود فعلها. وعندما أضربت عن الأكل لإخلاء سبيلها. كانت سيارة المستشفى هناك، فقيدت بجاكيت المجانين، واقتيدت أمام نظر الجميع إلى مستشفى المجانين، العصفورية. لعبت الصحافة دورا مدمرا لها. اذ بدل أن تقف مع قضيتها، عادتها وعملت على تثبيت تهمة الجنون. وجدت مي نفسها تحت رحمتها. زكت الصحافة المتواطئة أو الحاقدة عليها، جنونها ودفعت بالكثير من المتعاطفين معها إلى التسليم بالأمر الواقع، وكأن صفحتها امتلأت وكتابها أغلق نهائيا على نهاية فجائعية. وبدأ الصراع حول قضيتها. وجدت في النهاية ضالتها في الكتابة إذ بدونها كانت ستنتهي إلى الجنون الحقيقي والمؤكد. فدونت في يومياتها: ليالي العصفورية، كل تفاصيلها اليومية، والعذاب الذي ظلت تتعرض له. كان النص عبارة عن شهادتها ضد الظلم الذي تعرضت له. للأسف تم تغيير هذا النص لعوامل كثيرة أنست الذاكرة الجمعية وجوده لأسباب كثيرة منها فضائحية النص على المستوى العائلي، إذ وصعت آل زيادة في الواجهة، كعائلة ظالمة. غياب النص يخفي الجريمة في النهاية. ثم أن مي زيادة نفسها كانت تمزق كل النصوص التي كانت تثير غضبها، أو تعبدها إلى وضعية لا تحبها. المعروف عن مي زيادة أنها مزقت الكثير من نصوصها كما أعلنت هي نفسها. ويحتمل أن تكون ليالي العصفورية قد تعرضت لشيء من هذا. يقال في رواية أخرى لا تبدو أنها مؤسسة كثيرا، أن مي عندما عندما انتهت من إنجاز يوميات ليالي العصفورية، خبأته عند إحدى صديقاتها القريبات. وأن النص ما يزال حيا إلى اليوم، ستأتي صدفة من الصدف ويصبح في متناول العاملين في النقد الذين، على الرغم من جهودهم، لم يفلحوا في العثور عليه، وضمه إلى أعمالها الكاملة. قوة هذا النص هو أنه سيَري وحي وجزء نابض من مرحلة ربما كانت السبب في عزلتها النهائية قبل موتها. هناك نصوص أخرى تلت خروجها من العصفورية، لم تبق منها إلا العناوين، وغابت كوجود مادي فعلي. عندما غادرت مي العصفورية، بعد تدخلات كثيرة، من شخصيات تاريخية ودينية وأدبية وإعلامية وقضائية و عسكرية كبيرة ومعروفة في وقتها، لم تكن لديها أية رغبة في الحياة وكأن مرحلة من حياتها انتهت. قبل أن تغادر إلى مصر، ألقت في قاعة الويست هول الكبيرة، بالجامعة الأمريكية، محاضرة قيمة لم تتحدث فيها أبدا عن أزمتها كما كان متوقعا من طرف الحاضرين، فقد تخطتها نهائيا وركزت اهتمامها على دور الكاتب اليوم، وما عليه القيام به، في ظل حرب عالمية مدمرة كانت ترتسم في الآفاق. محاضرة كانت رهانها الأساسي لمحاولة العودة إلى الساحة الأدبية. أثبتت بشكل نهائي أنها بعقل ثابت وبرزانة عالية، وبدقة لامتناهية في الفكر. وانتهى فصل الجنون الكاذب نهائيا، لكن الجرح السري استمر في النزف. توفيت في القاهرة في 1941 في حالة عليا من الهشاشة والخوف من المبهم والعزلة، ودفنت معها يومياتها: ليالي العصفورية. مأساة كاتبة لا تشبهها إلا مأساة النحاتة الفرنسية كامي كلوديل التي دفع بها أخوها وأمها وصديقها النحات الفرنسي الكبير رودان، نحو مستشفى المجانين، وبقيت نصف عمرها هناك، حتى وفاتها. دفنت حاملة معها سر نص ليالي العصفورية. سيأتي حتما من ينصفها يوما.