يعرض هذه الأيام في باريس، فيلم رودان، النحات الفرنسي الشهير، ويتوقف طويلا عند العلاقة بين رودان وعشيقته النحاتة العظيمة والناعمة: كامي كلوديل التي شكلت معه تيارا خاصا في النحت، بل وتجاوزته، لكن غطرسته دمرتها بقوة ولم تترك لها أي متنفس، وأنهت عمرها في مصحة عقلية لم تخرج منها إلا بانتهاء الحرب العالمية الأولى. ننسى أحيانا أن مصائر البشرية شديدة القسوة ويصنعها أفراد يظلون في الظل إلى أن يأتي من ينيط اللثام عن المشهد الخفي لنكتشف المأساة الخطيرة المتخفية وراء غلاف الفن. فقد دمرها رودان بغيرته وجنون عظمته. ونتحدث بسهولة لفظية أن وراء كل عظيم امرأة، وننسى في اللحظة نفسها، أن نذكر في نفس السياق، أن وراء الكثير من النساء المنكسرات، رجال كبار وربما عظام، بمعنى الشهرة، غلبتهم ذكورتهم، فأجرموا في حقهن. قد تكسر شهرة الأول الثاني، وتظل النظرة إلى هذا الأخير تمر بالضرورة عبر الأول. فهو المرجع الأساسي والمحدد للقيمة. لنا في التاريخ نماذج نسائية كثيرة اشتهرت، ولكنها ظلت تحت سقف الرجل الأكثر شهرة. مثال على ذلك النحاة رودان والنحاتة الكبيرة كامي كلوديل القادمة من عائلة مثقفة، من أسر الفوكلوز العريقة، إذا كان أبوها شخصية مرموقة، وأخوها شاعرا معروفا. جمعتها برودان تجربة عاطفية كبيرة انتهت إلى أن تصبح عشيقته الأولى والأساسية في حياته، صاحبتها هزات عنيفة وقاسية انتهت بها إلى مستشفى الأمراض العقلية. نجاح فيلم برونو نويتان Bruno Nuytten في 1988 أخرجها من دائرة النسيان، واظهر تأثيرها الفني على رودان، أستاذها. كثيرا ما كانت يقينيات الذكورة قاتلة في مثل هذه الحالات. عاشت كامي كلوديل طفولة حية وديناميكية، وعاشقة لفنها الذي التصقت به بشكل حيوي: فن النحت. ساعدها والدها على الذهاب بعيدا في خياراتها، على الرغم من أن أمها التقليدية، ظلت تمانع وغير راضية على عملها. ثم التحقت كامي كلوديل بباريس لتطور فنها وتحصل على ورشة للعمل في جزيرة سان لويس. اشتغلت مع مجموعة من النحاتين الذين قووا من تجربتها بالخصوص ألفريد بوشي الذي كان أستاذها وتعلمت منه الكثير. وعندما استقر هذا الأخير في فيلا ميديسيس بعد فوزه بجائزة روما، أوكل مهمة مساعدتها ورعايتها فنيا لصديقه أوغست رودان Auguste Rodin، لأنه كان شخصية مرجعية في فن النحت. من هنا بدأت العلاقة بينهما والتي ستتحول من حالة وجدانية مجنونة إلي حالة تراجيدية. بسرعة يتداخلان لدرجة أن يصبح العمل مشتركا بينهما دليلا على قوة التماهي، حتى أن روادان قال عنها في مرة من المرات: الآنسة كلوديل أصبحت مرجعي ونموذجي الرائع. أستشيرها في كل شيء. في الصغيرة والكبيرة. لقد أثرت فيه كثيرا وبقوة عالية. فقد اشتغلا مع بعض في منتحوتة القبلة المشهورة عالميا. « le Baiser » والمنحوتة الضخمة التي حملت عنوان باب جهنم « Porte de l'Enfer » وغيرهما. لقد أصبحا شيئا واحدا وعميقا، لكن وحده كان يظهر في الواجهة. فقد أدخلت كامي كلوديل على أجساد منحوتات رودان الثقيلة، الكثير من العذوبة الإنسانية والنعومة الأنثوية. أنسنت كتله الصخرية. وقد أكدت لاحقا منحوتتها: لفالس « la Valse » موهبتها الخارقة وشجاعتها في التعامل مع الرخام أو المواد الصخرية أو التشكيلية. اعتمدت على الحركية ذات الدلالات الحميمية العميقة والتراجيدية أيضا. لكن العالم الخارجي، العاجز عن معرفة تفاصيل الجوهر، ظل ينظر إليها باستمرار على أنها تلميذة رودان ومساعدته فقط وانه هو السيد دوما في كل منجز، وليست المرأة الخلاقة التي أثرت في أستاذها. كانت دائما تحت ظل جناحيه ولم يعمل أبدا على إظهارها في خصوصيتها وبهاء مشروعها الكبير. لم يعمل على كسر هذه الكذبة الذكورية، بل استلذها كما يفعل الغالبية من الرجال المشهورين الذين يرفضون أن تُمس هذه الشهرة ولو قليلا المرأة المرافقة المتخفية في السر. مما اضطرها في النهاية إلى مغادرته والبحث عن نفسها خارجه. ولكونها امرأة في ذلك الزمن، فقد ظلت في عزلة كلية، ولم يعترف بها المجتمع الذكوري في تفكيره والمحنط والمؤسس على سلسلة من اليقينيات، ولم تتلق أي طلب رسمي من الدولة لإنجاز شيء ما يخرجها من الفقر، ومن قلقها ويعيدها إلى نحتها. ويقال إن رودان كان وراء هذا الحجر. صمت بشكل لا يقل إجراما عمن يغتال شخصا في عز عطائه، وكان بإمكانه مساعدتها، بأن يلفت نحوها الأنظار أو يقاسمها مشاريعه الثقيلة ويحفظ كرامتها. الفن لا جنس له، فقد كانت كامي كلوديل تشتغل على الجسد العاري مثلها مثل الرجال. وانتهت بتجسيد أحد أهم مشاريعها النحتية عبرت فيه عن دواخل امرأة وحيدة وفي حالة احتضار وانهيار عصبي كبير: نيوبيد الجريحة Niobide blessée، موضوعة المنحوتة بنيت على أسطورة نيوبي الأم الولودة في طابة، التي تضرب في الصميم إذ تحت تأثير أم أبولون، يقتل أبناءها وظلت تبكي حتى تحولت إلى صخرة يسيل منها الماء. في المنحوتة شيء من مأساتها. نيوبيد كانت أهم منحوتاتها التي وجدت في متحف بجاية بالجزائر، في الفترة الاستعمارية، قبل أن تنغلق على نفسها نهائيا. فأدخلت إلى مستشفى الأمراض العقلية بحجة الجنون مع أن صحافة ذلك الوقت أكدت على جريمة عائلية للتخلص منها، في صمت كلي للمحيط الفني. حتى أخوها الشاعر الكبير الذي ساعدته على السفر والخروج من دائرة البؤس في بلدها، نسي كل شيء ولم ير إلا جنونها. تحرك روادان أخيرا، لكنه للأسف، كما يحدث عادة في مثل هذه القصص التراجيدية، وصل متأخرا ولم يفدها في شيء. لقد قضت نصف حياتها والحرب العالمية الأولى في المصحة العقلية، العصفورية، حتى النهاية. كم من كامي كلوديل وضعت في جهنم النسيان أو المصحات العقلية ولم ينتبه لهن أحد بسبب الأنانيات الذكورية القاسية؟ وكثيرا ما يكون وراء كل امرأة منكسرة رجل بائس وصغير، مهما كان سلطانه وعظمته.