- تقديم : ‘' الحياة ليست ما عاشها الإنسان ، لكن ما يتذكره و كيف يتذكره ليرونه ‘' غابريال غارسيا ماركيز صاحب الواقعية العجائبية السحرية . - كان يزور منزلنا فأقوم أنا و أخي الذي يصغرني قليلا بمضايقته، في الوقت الذي كانت أمي تستقبله وتسأل عن أحواله أتعلّق كالعلق على كتفه في حين يركب أخي ظهره ويطلق صيحات فارس يغير على قبيلة متأكد من نصر حامل، فتقوم أمي بنهرنا وتتوعدنا شرّاً حين يحضر الأب ، كنا لا نخافها وكانت تعلم ذلك، فيحاول الضيف تهدئتها من كوننا مجرد أطفال صغار سوف تعقل ذات يوم ، كان هذا التصرّف فقط معه من دون الزوّار الآخرين، فهو يثير انتباهنا شعره أشعت مغبر، لباسه مرقّع لحيته تعش فوضى عارمة، أخباره تصلنا نحن الأطفال فنزداد اهتماماً به، قيل إنه يغيب أياماً طويلة ولا أحد يعرف سبب غيابه أو مكان تواجده وقيل إنه من الدراويش وأن زوجته من الجن وليس من الإنس و كنا ننقل الأخبار غلى أمّها لكنها كانت تعظ على فتها و تحدب بسبابتها ما تحت عينها اليمنى و تقول لنا بلهجة الزاجر : عيب و حرام ما تقولان هل تريدان الذهاب إلى جهنم ‘' وكنا نعدل عن ذلك إلا حين ننسى و مع الأيام كبرنا وكبر ابن عم والدتي و ظلت زياراته لا تنقطع . هاته المرّة كانت والدتي تدعوننا إلى تقديم التحية له فترتبك و نلثم خذّه و نحن في قرارة أنفسنا نتساءل ترى هل نسى حماقاتنا اتجاهه ؟ وكان يعلم ما بداخلنا فيقول لأمي بلهجة موجهة عن قصد إلينا : ‘'لقد كبرا يا ابنة عمي .. دعواتي تبارك مسيرتهما إلى نجاح أكيد ‘'.ومع ذلك أهل الدشرة يتساءلون هل هو بهلول أم درويش أم مجنون فلا يقفون على عنوان .والغريب في الأمر أنه طالب اجتماع أهل الدشرة كلهم صغيرهم و كبيرهم عائلهم ومجنونهم، واندهش الأهلي منهم من وجد الجد و منهم من استخف بالأمر ومع ذلك اجتمعوا بساحة الحارة، فوقف بثياب رثة وذهن شارد و نظرات حالمة يتحسس بيده لحيته المدلاة بشكل غير متناسق فقال بصوت مرتفع : - الدشرة التي ترونها هادئة سيأتي عليها حين من الدهر فتشتغل خيامها وتبقر حيواناتها ويتفشى القتل بين الجميع .. صمت قليلا ثم أردف لما تيقن أن الجميع يتابعونه .. - ومع الأسف لن أكون موجوداً وسأذكر الدين لن يعايشوا الحدث الأليم لأنهم سيموتون قبل الأوان .. وبدأ يذكر الأسماء جعل الكثير يغضب ويلعن قبل أن يغادر المكان .. ثم رفع يده مبشّراً - لا تقلقوا يا أيها الدين سيعايشون الحدث لأن نيران هاته الفتنة سوف يطفئها فتى آت من أقصى غرب الدشرة وبالضبط قادم من إحدى الزوايا حاملا قرطاساً أصفر بيمينه وبركة والدته وتوصية النار بماء قليل إن أصله من زمزم لا ينضبط .- ثم التفت إلى والدتي قائلا : اشهدي يا ابنة عمي على ما أقول لأنك ستكونين حاضرة .. وبالفعل صدق وعد ابن عم الوالدة أما أمي فلا تزال لحد الآن تذكر الحادثة للقاضي والدتي كلما حرّكتها ذكرى ابن عمّها الذي فارق الحياة قبل أن تنشب النيران في الخيام و تتساءل في دهشة كيف أنه سبق الأحداث، وكيف تنبأ لما سيحدث أما الفتى الذي أطفأ نار الفتنة لا يزال يعيش فوق ربوة مرتفعة يصابح شمساً من البحر قيل إن الماء الذي لديه من زمزم لا ينضب تباركه الزاوية التي ينحدر منها و قبل عشقه الأهالي فهو بالنسبة إليهم – وهذا بشهادة إمام المسجد – الدم الذي يسري في عروقهم وأكد بعضهم إن روحه استحالت في أجسادهم سيما وأن قريتهم سادها الأمن و لم تعد القرى المجاورة تسوّل لها نفسها بفكرة التعدّي بل رأت من هاته الدشرة القلعة الآمنة، وأن ضرورة وجود الفتى الأصيل ملحة والدليل أن النيران التي نشبت في خيامها حدثت إثر غيابه ذات مرّة .فحضوره الآن يثلج الصدور فهو يفتح كل صباح قرطاسه فتنعت منه البركات واليمن يصل إليهم و والدتي لا تزال الحيرة ترافقها كون ابن عمها رحل إلى الأبد .- ورحل معه السرّ المحيّر الذي يقلق مضجعها ، ولكي تخفف من وطأتها تقول في نفسها : لله في خلقه شؤون ! ... .