إلى أولئك الشباب الذين دفعهم حبهم وغيرتهم على بلدتهم إلى المبادرة بأعمال تطوعية، جديرة بالتنويه والإشادة، تعكس المكانة التي تحتلها في قلوب أبنائها، حيث قاموا بإعادة تهيئة بعض المواقع بالقرية القديمة وترميم مسجد سيدي سعادة العتيق، ذلك المعلم التاريخي، بالإضافة إلى نشاط ثقافي متميز تقوم به جمعية العلماء المسلمين، فرع البلدية، كان آخره تنظيم ندوة فكرية تناولت حياة ومآثر الشيخ المصلح بوحامد فرحات بن الدراجي، ويندرج هذا التكريم في سياق إحياء ونشر تراث علماء وأعلام المنطقة وكل الذين ينيرون درب الأجيال بشموع العلم، ومن أجدر منهم بالتكريم والتبجيل. كيف لنا ألا نغير على موطن الصبا، حيث ولدنا وترعرعنا وانفتحت عيوننا على الحياة، كيف لا تعود بنا الذاكرة إلى تلك الصور الجميلة التي ما تزال تسكن فينا، ترافقنا في مسيرة العمر، تزود قلوبنا بذلك النقاء الذي لا استغناء عنه ولا بديل له. كيف لا تشدنا الذكرى إلى تلك الأجواء المفعمة بالحب والصدق، الزاخرة بقيم الأخوة والاحترام التي تتجلى في أكثر من مشهد وصورة، لعل أبرزها ذلك التقدير الذي يحظى به الكبار سنا وعلما وجهادا وقرابة، لما يتميزون به من حنكة وحكمة، ولما يتحلون به من أخلاق وشجاعة. في الحنين إلى العمر الجميل قد تطول سنوات الغياب، لكن حنيني إلى بلدتي مازلت أحمله حتى الآن، وكأني في هذه اللحظة لم أغادر ''الدشرة'' و''المعتب'' و''الرحبة'' و''حارة القصر'' و''حارة الخنافرة''، كأني في ''الرقعة''، التي في أحضانها رأيت النور والتي احتضنت براءة طفولتي وأحلام شبابي- إني أحدق في نخلتي السامقة، في تلك الأشجار التي تجود بثمرها الطيب، في ذلك الماء الدافق من تلك ''العيون'' المباركة التي تروي قريتنا بالماء الزلال، ومن هناك يأتيني خرير وادينا ''واد كلبي'' في نغم متدفق، يحكي أسطورة عجيبة. في بلدتي، أول ما ترى نخلها الباسق وظل الاخضرار الممتد، ثاني ما ترى إنسانها المجبول على الكرم والأخلاق والعفة وعزة النفس، ثالث ما ترى، ذلك الكتاب المفتوح لسيرة أهلها الطيبين، صدقهم وقلوبهم المعجونة بالمحبة، أما رابع ما ترى فتلك المعالم التي تروي وقائع عن تاريخ سحيق. يقولون: ''عليك أن تزور البندقية مرة في حياتك ثم تموت مرتاحا''، إنه المثل العالمي الذي يجعل من تلك المدينة قبلة القلوب الباحثة عن الجمال وروعة المكان، لكن لكل واحد منا مدينته أو قريته أو دشرته أو موطن عشقه الأول والأبدي، الذي يشده إليه الحنين. إنها تلك الأرض، تلك الدار، تلك الساحة، ذلك الحي، إنها القرية التي نشتاق إليها شوق البالغين إلى صدور أمهاتهم أو طفولتهم التي انقضت. ها أنا أعود إلى طفولتي، إلى شبابي، وكأن الأمس البعيد ماثل أمامي بمشاهده الراسخة التي تأبى أن تزول، هنا ساحة كذا، هناك حارة كذا، هنا الباب الفلاني وهناك الباب الآخر، هنا مسجد سيدي سعادة العامر بالقرآن الكريم وبأصوات مسبحة مقدسة ساعات الصلاة، وهناك ضريح الولي الصالح سيدي يوسف، ومن هناك في تلك الربوة يطل علينا مقام الولي الصالح والعالم الجليل سيدي عبد الرحمان بولقرون يجاوره مقام الولي الصالح سيدي عبد الباقي. آه، أيتها الذاكرة، إن الصور تتزاحم، وكأنها ترفض أن تغيب أو يطويها النسيان، ها هو فلان وفلان وفلان، تلك الشخصيات الفاعلة والمؤثرة، كان لها صيت وصوت، تسكن أرجاء قريتنا وينطق كل شبر فيها بشهامة وكبرياء الرجال. كان الخريف وكانت هجرة الديار في خريف ذلك العام البعيد، كان المطر غزيرا، وإذا الغيث الذي تنتظره الأرض ليروي ظمأ الزرع والنخل، شاء له الخالق الكريم أن يصبح سيلا لا ينقطع، وبعد أن أفرغت السماء جعبتها وانقشع السحاب، كانت هجرة الديار، فالأبنية الصامدة، التي تنبئك بالوقت السحيق على تشييدها، قد اهترأ فيها بعض الحجر، تهاوت أسقف هذه الدار وتلك، لكن قريتنا المهجورة تأبى أن تستسلم أو تنهار، رغم عوادي الزمن، إن بها من المعالم ما يرمز إلى تاريخ سحيق، إلى حضارة غابرة كانت لها بصمتها وما تزال آثارها راسخة ترفض أن تحول أو تزول. إنها قريتنا، التي تسكننا، كنا نرتاح فيها راحة تشبه الألفة، رغم مرور الأعوام، لا تزال الأبنية صامدة في وجه الاهتراء والتآكل إلى درجة أنه يتهيأ لدارس المعمار أن دماغا جماعيا هو من هندس خريطة القرية، بساحاتها وأزقتها وشوارعها المتداخلة وأبوابها المتعددة، تتلاصق البيوت بعضها إلى بعض في عناق عجيب، وكان يمكن للواحد منا أن يعبر سطح بيته إلى السطوح المجاورة دون صعوبة، عوضا من دخول البيوت من أبوابها، فالبيوت تبدو كأنها بيت واحد، هي بيوت تتشابه، يقطنها أقارب وأصهار وأبناء بلدة واحدة، يعرف بعضهم بعضا، حياتهم متكافئة ومتضامنة. تلك الروح المبدعة تتجلى في الأشكال المعمارية للبيوت، بطوابقها المتعددة، وفي ذلك التلاحم الذي يجعل من القرية، رغم كبرها واتساعها، كتلة واحدة، متراصة البنيان ومتضامنة الوجدان. كانت البيوت، في تركيبتها وتلاحمها أشبه ما يكون بالقلعة التي، تسندها غابات النخيل المترامية الأطراف، بل إنها تبدو وكأنها بيت واحد لآلاف الأسر، تتواصل فيما بينها دون حواجز. وها هو دفتر الأيام يذكرني بتلك الأصوات الجميلة والحزينة التي، كانت تناجي أحبابا لها دفعتهم الظروف القاسية إلى الهجرة أو إلى ذلك المنفى البعيد، حيث أن العمال المغتربين في فرنسا قد يعودون أحيانا وقد تغريهم ديار الغربة فتطول غيبتهم لسنين طويلة، وحين يشيخون تقذف بهم الأيام إلى العودة. إني أتذكر كيف كنا نتلصص في ليالي الصيف، حيث تتحول السطوح إلى مراقد مفتوحة، على ما كان يستهوينا ويدغدغ أحلامنا المكبوتة، التواقة إلى همس الحب وآهات القلوب. في تلك الليالي التي، كان يموج في جوها نسيم الصيف وهسيس النخل وتتلألأ في سمائها الكواكب اللامعة، كان القمر الساهر يشاركنا خيالنا الصامت وكان الهوى يلعب بقلب كل واحد منا في وحدته ويريد أن يضم إلى قلبه، ولو في الخيال، قلبا يناجيه. وكان رفيقنا الحميم تلك الأصوات الرقيقة والجميلة لعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وشادية ونجاة الصغيرة، وفي تلك الأجواء كانت بداية حب كبير لسيدة الغناء العربي أم كلثوم. كان بيتنا واحدا من تلك البيوت، لكنه يختلف عنها في أنه كان بيتا كبيرا ومفتوحا، يتوسط بحرا ممتدا من أشجار النخيل، كان مؤلفا من باحة واسعة، محاطة بعديد الغرف، تعود لوالدي الحاج يوسف وأعمامي الخمسة وعمتي الوحيدة، رحمهم الله جميعا. في تلك الأجواء الزاخرة بنقاء المحبة، عرف القلب نبضه الأول، كانت الولادة وكانت الآمال المحلقة في عالم الأحلام، وكان انبعاث الوعي الذي يستمد أصالته من صمود وصبر شجرة النخيل التي تبادل أهلها حبا بعطاء وسلا تموت إلا وهي واقفة! في أحضان الزعاطشة هكذا كانت دورة الحياة في قريتنا، بسيطة، لا جديد فيها إلا فصل الخريف، حيث موسم قطف الثمار بعد سنة من الانتظار، فأشجار النخيل، بكسائها الأخضر البديع وظلالها التي تحتضن البصر والمشاعر، تجود في هذا الموسم بتمرها اللذيذ، دقلة نور، ذات الذوق الشهي واللون البراق والشهرة العالمية .الحياة في قريتي، كانت تبدو هادئة ساكنة، لا يميزها شيء مما هو طبيعي ومعتاد، هناك أفراح وهناك أتراح، لكن ما يرتسم في الذاكرة، أحلامنا المتواضعة التي لا تتجاوز حدود القرية وما يجري من أحداث في محيطها القريب. كانت الأيام تتوالى في هدوء، وكيف لا يأخذنا الحنين إلى ذلك الزمن الجميل، إلى بلدتنا العامرة بأهلها الطيبين، الحريصين على سمعتهم، لأنها أغلى ما في الحياة ولأنهم يقتدون بما جاء في الأثر: ''إذا ابتليتم فاستتروا''، فالخطأ قد يقع، لكن الردع بالمرصاد، ليس من حق المنحرف أن يجهر بانحرافه أو يفاخر به، بل عليه إن اكتشف أمره، أن يتقبل الجزاء ويختفي عن الأنظار شعورا منه بالخزي والعار. كنا ونحن صغار نقف لنتفرج على مشاهد القرية، خاصة خلال أيام رمضان المبارك، منها تلك المشاجرات أو العروض الهزلية التي تشبعنا مرحا وانبساطا، لن أنسى ما حييت عمنا جزار القرية، رحمه الله وطيب ثراه، وهو يشهر ساطوره مهددا ذاك الذي أغاظه وأفقده أعصابه وهو صائم، كان الناس يتجمهرون ويشجعون الرجلين على مواصلة العرض، لكن المشهد كان يتميز دائما بروح الفكاهة والغبطة والمرح والأخلاق والاحترام. وهل أنسى أيضا عمنا فلان وهو يقرأ ''ألف ليلة وليلة'' أو ''سيرة سيف بن ذي يزن'' أو ''عنترة بن شداد'' وقد تحولق حوله جمع من كبار السن وأعيان القرية، وكلهم انغماس في الاستماع والتلذذ بتلك القصص المثيرة. تلك الروح المرحة المقرونة بالإقبال على الحياة وتذوقها، لم تكن معزولة عن إرادة التحدي والمقاومة والبطولة والتضحية والحماس للعمل، حيث كان سكان القرية معمرين لأرضهم، حماة لها، بما يشهد لهم بالأصالة والعبقرية أفرادا وجماعات، كان كل واحد منهم يرعى ''غابته'' ويعتني بما احتوته من أشجار النخيل عناية الأب بأبنائه، اقتداء بحديث الرسول (ص): ''أكرموا عمتكم النخلة''، إذ ثمة العطاء والرزق الحلال. هل أحدثكم عن شهداء قريتي، عن مجاهديها، عن ذلك الشهيد الشاب الذي ترك عروسه تنتظر، دون وداع ولم يعد إلا وهو يحمل اسمه في سجل الخالدين، هل أعود إلى ثورة الشيخ الجليل عبد الرحمان بوزيان وجرائم الاستعمار البغيض، وها هي ''الزعاطشة'' - وهي أرضنا - لا تزال إلى اليوم تأوي في بطنها الرحيم آثار الدمار من بشر وحيوان وحجر، بعد أن دمر الاستعمار بمدفعيته الحاقدة تلك القرية الثائرة وأباد سكانها وأحرق غابات النخيل ونكل بقائدها المجاهد ففصل رأسه عن جسده وعلقه في إحدى البنايات بمدينة بسكرة ثلاثة أيام كاملة. من وحي الذاكرة في ذلك اليوم من سنوات القهر، بعد أن تم تهجيرنا من منزلنا، كانت جدتي - وهي رب الأسرة - بعد أن تفرق شمل رجال العائلة، إذ هناك من كان مطاردا وملاحقا ببطش الاستعمار وهناك من اضطر إلى الهجرة، كانت جدتي تواظب على تفقد دارنا المهجورة ورعاية ما نملك من نخيل، ما أن فتحت الباب حتى توقفت فجأة وتجمد وجهها، نظرت إلى حيث كانت تحدق، فرأيت شخصا يستند إلى الحائط، كان جسمه ينزف دما وكان يكتم ألمه في كبرياء. سارعت جدتي إلى نزع قطعة قماش من ثوبها وراحت تضمد وتربط جراحه، ورغم إلحاحي لم أجد إجابة عن أسئلتي عن هذا الرجل ومن يكون? في الغد عدت معها إلى دارنا، فإذا برجل آخر كان في الانتظار، وتم إلباس الرجل الجريح ملابس امرأة وامتطى دابة وذهبا معا إلى وجهة مجهولة، ولم أعرف السر إلا بعد مدة، حيث صارحتني جدتي بأن ذلك الرجل كان مجاهدا، مطاردا من القوات الاستعمارية. وما زالت ذاكرتي موشومة بتلك الصور التي تأبى أن تمحوها السنون، في يوم ما من أيام المحنة الاستعمارية، قابلت أحد الجنود المرتزقة التابعين للجيش الفرنسي، فتفوهت أمامه بكلمة بها ذم وقذف له، فإذا به يوقعني أرضا ويستل خنجره، ليضعه في رقبتي، في محاولة لترهيبي وأنا طفل صغير. إن توغلت في تاريخ بلدتي القريب والبعيد، كشفت لك طهارة أرضها المسقية بدم الشهداء وبحبر شيوخها وعلمائها وأوليائها الصالحين، منهم العلامة والمربي والشاعر الشيخ أحمد سحنون والشيخ الكاتب والمصلح بوحامد فرحات بن الدراجي، العضوين البارزين في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، هذان العالمان المبجلان أبيا إلا أن يحتضنا الوطن كله، لأنهما كانا في علمهما وسيرتهما البيضاء ينشدان الفضيلة، تلك هي رسالتهما التي أفنيا في سبيلها كل العمر. كنا، ونحن نخطو خطواتنا الأولى في محراب العلم، نبحث عن كنوز قريتنا من أعلام وعلماء وأولياء صالحين ومجاهدين، جادت بهم بلدتنا العزيزة، موطن العلم والأدب والجهاد، والكرم، كان شعر الشيخ الجليل أحمد سحنون يسكننا، لما يحمله من حلو الكلام وعذب البيان وصفو الجمال، وأيضا لأنه قدوتنا جميعا، ابن هذه الأرض الطيبة التي أنجبته وشاءت أقدارنا أن نولد فيها ونترعرع في أرجائها. ها أنا أتذكر.. في دشرتنا البهية، في أزقتها العامرة بالحب والأخوة، في مسجدها العتيق، في غابات النخيل، وارفة الظلال سخية العطاء، ترعرعنا في تلك الفضاءات المفعمة بروح التحدي، تحدي الجهل أساسا، كانت الكتاتيب المنتشرة في أرجاء القرية، تصدح بالقرآن الكريم، وكيف لنا أن ننسى أهل الفضل علينا، شيوخنا الأفاضل : سي سحنون وسي محمد زيدي وسي الطاهر بوعبدالله وسي أحمد سعيفي، وإمام مسجدنا سي علي حني، هؤلاء الذين أفنوا حياتهم في تحفيظ القرآن والحفاظ على اللغة العربية. ويحتفظ سجل الذكريات بمدرستنا، التي تحمل اليوم اسم الشهيد المثقف عبد الباقي معافي رحمه الله والتي كانت ركيزتنا الأولى في مدارج العلم، ويقتضي واجب الوفاء إسداء آيات العرفان لمعلمينا وأساتذتنا ولكل من علمنا حرفا، وتذهب الذاكرة إلى معلمنا الراحل سي العدواني، أصيل وادي سوف، الذي يعتبر عميد مدرستنا، ويعود له الفضل الكبير في غرس حب اللغة العربية فينا وتمكيننا من تربية قوامها تعاليم الدين الإسلامي والأخلاق وحب العلم، تلك المدرسة هي نفسها التي عشت فيها واقعة ترسبت في ذاكرتي ولا يمكن أن أنسى تفاصيلها مهما مرت السنوات، ففي أحد الأيام من أواخر ,1961 اختطت يد تلميذ، كنت أتقاسم معه نفس الطاولة، رسما شبيها بالعلم الوطني، وإذا به يقتاد إلى الثكنة العسكرية اللصيقة بمدرستنا ويخضع لاستنطاق رهيب، وبعد سنوات اكتشفت أن والد ذلك التلميذ، عمي عيسى رحمة الله عليه، كان مجاهدا كبيرا، مما يفيد أن ذلك الرسم لم يكن من الخيال. هل عرفتم من تكون حبيبتي كان ذلك هو الحال في بلدتنا الحبيبة، التي كانت عنوان بارزا للنقاء والأخلاق، إلي درجة تقترب من المثالية في السلوك، كانت نموذجا للتآخي والاحترام والنظافة، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من رباط متين ووشائج عميقة، ترتكز عليها دعائم المجتمع الآمن، لا فرق ولا تفضيل ولا تمييز، بل الجميع متحابون. تشهد السنون الماضية، وأتحدث هنا عن عشرية مضت أو أكثر، أن بلديتنا لم تكن بالصورة التي هي عليها اليوم، لقد كبرت عمرانيا وازداد عدد سكانها، لأنها معروفة بانفتاحها على ضيوفها وترحابها بمن يودون الإقامة فيها. كانت بلدتي صورة ناصعة لمجتمع متمدن، متخلق ومتضامن، حريص على إبراز ما يتوفر عليه من خصائص وما يتفوق فيه من خصال، وكان الحرص أيضا يتجلى في صد كل ما من شأنه أن يعكر صفو الحياة أو يجلب ما لا يليق بالأخلاقيات التي هي في حكم القانون، لكن ظروف الحياة تغيرت، فمن كنا نراهم القدوة والمثل و''السلطة'' بمفهومها الأخلاقي والردعي غادروا الدنيا ولم تكن ''الخلافة'' في مستوى السلف، بما تتوفر عليه من هيبة طاغية، كان الجميع يخضع لها احتراما وتقديرا. بلدتي، قريتي، أهلي أحبتي، مرتع صباي..إن كل واحد منا ترتبط ذاكرته بتلك الأرض التي احتضنت أحلامنا وكانت لنا السند والملاذ، لقد كان لنا كل ذلك في بلدتنا الحبيبة، التي نشأنا في ظلال نخيلها المعطاء وبركة أوليائها الصالحين، وإشعاع علمائها المبجلين وبطولات أبنائها في ثورة الزعاطشة وتضحيات شهدائها الأبرار ومجاهديها الأخيار وتعلق سكانها بالأمن والأمان.إن لنا في كل ذلك القدوة الحسنة، لكي نعيد الجمال والبهاء إلى جميلتنا الرائعة التي تتوق إلى أن نتعهدها بالرعاية والحماية. فلنكن في مستوى تاريخها المجيد وماضيها التليد، حتى تكون دائما بتلك الصورة الناصعة، صورة التآخي والسكينة والطمأنينة، صورة الحب الذي يلقي بظلاله على جميع سكانها وكل من جعل من أرضها مأوى ومستقرا.تتدفق الذاكرة بالحنين إلى قريتنا التي تسكن مكانها وتاريخها، تعود إلى هناك لتتذكر ذلك الفصل الضائع من عمر جميل، نعود إليه ويعود إلينا، وكأنه يحدد من جديد أين تقع بلدتنا داخل قلوبنا، التي أنهكتها سنوات المنفى، إنه الحنين ''إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر فيّ الطفولة يوما إلى صدر أمي''، هكذا قال الشاعر محمود درويش لأمه:''هرمت فردي نجوم الطفولة حتى أشارك صغار العصافير درب الرجوع لعش انتظارك''، آه يا أمي عليك رحمة الله، إنك متواجدة دوما بداخلي لا أرى نفسي بدونك أبدا.مرت خمس وأربعون سنة على ''عام النكبة'' -هكذا نسميها- لكن قريتنا ظلت متألقة شامخة وسط الدمار الذي أصابها، بفعل المطر، تبدو وكأنها تقاتل الإهمال والنكران حتى إن كنا قد ابتعدنا عنها لنظل أكثر اقترابا منها. هل هو نداء القلب إلى كل القلوب التي تنبض بحب تلك الأرض الطيبة، هو الذي يعود بنا إلى استعادة الذكريات الجميلة التي مضت أو لإحياء الحاضر المفعم بالأشواق، إلى حيث الذاكرة القريبة التي لم يروضها إيقاع الحياة المجنون، قد يكون ذلك وقد يكون صوت الحلم الطري والنظيف هو الذي يقاوم الغياب ويدعو بين الحين والحين إلى ترميم الذاكرة، لأن إعادة بنا ما انكسر يندرج في مسار ذلك الرباط الذي لم ولن ينقطع. فهل عرفتم من هي حبيبتي التي يخفق لها قلبي بحب مضى، لكنه يختصر كل الحب، حب يلغي حدود الزمن ويجعل من الماضي لحظة مشرعة على المستقبل، إنها بلدتي التي تسكن حدقة العين في ولاية بسكرة، إنها موطن صباي التي يترسب عطرها الزكي في ذاكرتي، إنها ليشانة التي يختزن لها القلب كل الحب والوفاء والحنين.