إنّ المسرح مكان للكلام، والاستكشاف، والتفكير، والجمال، فن يلتقي بالآخر، فن الالتزام، فن يطرح الفعل في مواجهة العالم الذي ينتمي إليه، يتابع الأحداث، ويتخذ منها مواقف، ويحاول التأثير في مساراتها، ويرفض بقوة التخلي عنها. ونحن في غمرة سنة 2018، وقبل نحو شهر على افتتاح الدورة الثامنة لأيام مسرح الجنوب، إننا بحاجة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى مسرح راسٍ في الحاضر، يكون له معنى بعيدا عن العلب المغلقة، يتحدث إلى البشر، وإلى روحهم وأهوائهم وقوتهم. ليس الغرض من المسرح أن يكون مجرد مرآة لمجتمعنا يجد فيها المتفرج متعته وفرحه فقط، وإنما أن يعطي صورة أخرى لنواميس الإبداع وشذرات الأدب في الحاضر والمستقبل، بحيث يستطيع المتفرج أن يستثمر قرابته من تاريخه الحالي عبر محطات عديدة ونوافذ مشرّعة، وأبوابا مفتوحة، وأنماط حالمة تؤسس لمراكحات القادم. إنّ تثمين الحراك المسرحي في جنوبالجزائر يكون بوقفات مع الذاكرة، مع الراهن، مع الأفق، مع الجماليات الجديدة والإبداعات النابضة، مع تصنيع فرجة خارج الأسوار وفي الشوارع والبلديات والولايات، وهو مسار سيستقطب الجماهير وسيعيدها مجددا إلى فضاء الاحتفال والاحتفالية، خصوصا مع حرص الجزائر على تبوّأ الفن والثقافة لمكانتهما الحقيقية في التنمية الشاملة. إنّ الحركة المسرحية في الجنوب، ظلت مشتلة مفتوحة وفضاءً خصباً لاكتشاف التجارب المبتكرة، وإبراز التراث الشعبي المحلي الأصيل بألوانه المنوّعة والزاخرة عبر كوكبة نفيسة من التجليات، على غرار جمعية فرسان الركح للفنون المسرحية من أدرار، جمعية النصر لفنون العرض بورقلة، جمعية الدرب الاصيل الثقافية للأغواط، جمعية عشاق الخشبة للفنون الدرامية بالوادي، التعاونية الثقافية للمسرح فن وتكنولوجيا النعامة، وجمعية ركح الواحات الثقافية لورقلة، على سبيل المثال لا الحصر. وفي مقام خاص، يجدر بي التنويه بعطاءات أبناء المسرح لعروس الزيبان بسكرة، في صورة جمعيات البحوث الفنية، وأضواء للفنون الدرامية والمسرح الجوّال وآفاق للفنون المسرحية بسيدي خالد.
أرى أنّ مسرحيي الجنوب كسبوا عدة رهانات رغم المعوقات، وتأتى ذلك عبر مواضيع جذابة تقدّم دوريا بأسلوب مدروس ولغة سليمة وديكورات بسيطة لفسح المجال لمحتويات دلالية عميقة كثيمات الوطنية وعراقة الانتماء، كل ذلك لا تحسن الكلمات تصويره فتنفذ دون تأطيره، فلتسعفنا الصورة إن تمنّعت المعاني على الكلمات. مسرح الجنوب مغامرة ركحية ممتدّة، تبقى جزءً من ورشة مفتوحة متواصلة نحو المستقبل تفسح من خلالها المجال أمام المتلقي للتفكير والتفكيك والتحليل، وتمنح المتلقّي مساحات للسؤال، والإجابة في الوقت نفسه، مثلما تسعى للابتعاد عن المألوف في الأعمال والسعي للوصول إلى مستويات أكثر مغامرة. ..هكذا هي روح الحركة المسرحية في الجنوبالجزائري الكبير، ولتبقى هذه الروح متقدة في قلوبكم وأرواحكم