صادف هذا الأسبوع، إحياء مدينة أدرار، الذكرى السنوية لوفاة الشيخ سيدي محمد بلكبير رحمه الله، فلقد تناهى إلى سمعنا، ونحن صبية بقصرنا الطيني، ذكر الكبار لهذا الشيخ، وجريان اسمه على لسانهم، كما يرددون أسماء فقّاراتهم، التي هي المصدر الوحيد لرزقهم يومها، فلا يكاد يأتينا العائد من شيوخ القصر ورجاله من مدينة أدرار، دون حديثه عن زيارة الشيخ ومدرسته، هكذا نشأ فينا هذا الحب للشيخ، وانغرس في أعماقنا منذ الطفولة، إذ ليس سهلا أن يحصد المرء في حياته وبعد مماته، كل هذا الشلاّل المتدفّق، من محبّة الناس وتقديرهم له؛ وفوق هذا ومن تلقاء أنفسهم، يرتضونه واجهة روحية، ومرجعية فقهية، حتى غدا هذا الأخير رمزا اجتماعيا. بيد أنه ما كان ليكون للشيخ سيدي محمد بن بلكبير رحمه الله هذا الوصال والوداد، لو لم يكن صادقا في القول والعمل، زاهدا في الدنيا، محسنا للمساكين، ناصرا للمظلومين. ربما كنتُ محظوظا، عندما ساقتني الأقدار، للدراسة الثانوية بمدينة أدرار المركز، مطلع الثمانينيات، يومها كان مسجد الشيخ؛ هو الجامع العتيق والوحيد الذي تُصلى به الجمعة، على مستوى مدينة أدرار المركز، فمن الطبيعي، أن يكون واجهة كل وافد على المدينة، كما كانت مدرسته في تلك الفترة، تعيش عصورها الذهبية، بحكم أن الشيخ قد اخترقت شهرته الآفاق، وبلغ صيته الأمصار، فما إن تعبر قوس بوبَرْنوسْ، وأنت قادم من الساحة الكبرى، تريد التوغّل غربا، نحو سوق بودة، قد لا تمضي بعيدا في مشيك، حتى تبلغ مسامعك جهة الجنوب، أصوات الحناجر، وهي تجلجل تلاوة القرآن، عندها لن تتردّد في القول، بإنها الزاوية المقصودة. تتحدّث المصادر التي ترجمت للشيخ، أنه وُلد بقصر (لَغْمارة)، نواحي منطقة بودة(غرب أدرار)، سنة 1911، من أسرة مرموقة القدر والنسب، نشأ كغيره من فتيان القصور، دخل الكتّاب، فحفظ القرآن بداية على يد معلمه الطالب عبدالله بمسقط رأسه، وأخذ مبادئ العلم عن عمه، كما كان لخاله الشيخ محمد بن المهدي، الأثر البارز، في تكوين شخصيته العلمية، ولما كانت تمنطيط منارة العلم، قصدها، وتتلمذ على شيخها الجليل، الشيخ سيدي أحمد ديدي البكراوي رحمه الله، فغرف من بحر علومه، حتى أجازه ورضي عنه غاية الرضى، ليقوم بعدها برحلة روحية لتلمسان، بغية ملاقاة الشيخ بوفلجة بن عبدالرحمان، شيخ الطريقة الكرزازية، الذي أخذ عنه الأوراد، وكانت هذه الرحلة، مناسبة طيبة لمجالسة بعض علماء تلمسان، ومن ثمة سافر للمغرب، زار مسجد القرويين والمدرسة المصباحية بفاس، ليعود بعدها لأرض الوطن، ويستقر بمدينة (لعريشة) فترة معتبرة، للتعليم والتدريس والفتوى، ومن بعدها (المشرية) لمدة قصيرة. خلال فترة الأربعينيات، وبطلب من والده عاد لمسقط رأسه، ولم يلبث كثيرا، حتى دعاه أعيان مدينة تيميمون، فقدّموا له الدعم اللوجستيكي، بغرض فتح مدرسة تعليمية لأبنائهم، والاستفادة من علمه الوفير، غير أن تضييق الاستعمار الفرنسي عليه، جعله يفضل العودة لمسقط رأسه مجددا، بحيث مكث مدة يعلّم بها، حتى استوت له الأيام، فدُعي مجددا من طرف بعض أعيان مدينة أدرار، ليفتتح بهذه الأخيرة، مدرسته العامرة الشهيرة سنة 1949، وبفضل إخلاصه للعلم ونشره بين طلبته، أصبحت مدرسته محجا وقبلة لطلبة العلم من داخل الوطن وخارجه، كما شهدت مدرسته افتتاح المعهد الإسلامي سنة 1964 زمن (التعليم الأصلي) بوزارة التعليم، ولعلّ من أبرز تلاميذه، نذكر على سبيل الذكر؛ من الأموات الشيخ الحاج عبدالقادر بكراوي، والشيخ مولاي التهامي غيتاوي، والشيخ الحاج عبدالكريم مخلوفي، والشيخ العالمي، رحمهم الله، ومن الأحياء الشيخ الحاج سالم بن إبراهيم، والشيخ الحاج الحسان الأنزجميري، والشيخ الحاج عبدالله عزيزي، والشيخ الحاج المغيلي الأنزجميري، والشيخ الحاج عبدالكريم الدباغي حفظهم الله، وغيرهم من الأحياء والأموات كثر، ممن لو أتينا على جردهم، لما اتسع لذكرهم هذا المقال في مساحته المحصورة. الجدير بالذكر، أن شخصية الشيخ رحمه الله، تنقسم إلى عدة مستويات مهمة، أولها؛ العلمية، المتمثلة في التدريس ونشر العلم، ثانيها؛ الروحية، المتعلقة بالجانب الصوفي، ثالثها؛ الاجتماعية، الخاصة بالصلح الاجتماعي، ومساعدة المحتاجين وعابر السبيل، ومن الطبيعي أن تكون لهذه المستويات، انعكاسات حضارية، على الحضور الفاعل والوازن لهذه الشخصية الأيقونة.. نال شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة وهران، كما نال وسام الاستحقاق من فخامة رئيس الجمهورية سنة 1999. وقد ظل الشيخ على نهجه الواضح وخطه المستقيم، حتى وافته المنية سنة 2000، بحيث شهدت جنازته، حدثا غير مسبوق، نظرا للصدى العلمي والروحي والاجتماعي، الذي تركه الشيخ بين تلاميذه ومحبيه. هكذا عاش الشيخ رحمه الله، وانغمست فينا محبته، وزرع بيننا تلاميذه، وبالتالي حاز مقام الشخصية الأدرارية الأبرز في العصر الحديث.