ازدادت الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام الغربية حول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه الأيام بشكل لافت للانتباه بسبب الوضاع في سوريا و قضية تسمم الجاسوس الروسي . و لأن مصادر هذه الأخبار هم مسؤولون و سياسيون غربيون , فقد كان مضمون هذه الأخبار أحادي الاتجاه , يصب في انتقاد مواقف بوتين بل و تحميله المسؤولية في كل مشاكل العالم من النزاع المسلح الذي يدمي شرق أوكرانيا إلى الحرب الكونية التي تدمر سوريا و قضية جورجيا و قضية السلاح الكيماوي في بريطانيا و في سوريا . هكذا أصبح بوتين لدى الإدارة الأمريكية و أتباعها الأوربيين , القطعة المحورية في "رقعة الشطرنج الكبرى" التي رسمها زبيغينيو بريجانسكي أحد مستشاري الأمن القومي الأمريكي السابقين في كتاب تحت ذات العنوان , يرشد من خلاله الولايات المتحدةالأمريكية إلى الإستراتيجية الواجب اتباعها لتحتفظ بهيمنتها على العالم . و هذه الهيمنة مرهونة بالسيطرة على "رقعة الشطرنج الكبرى " كما سماها بريجانسكي و يقصد بها منطقة "أوراسيا " حيث تعتبر فرنسا ، ألمانيا ، الصين ، روسيا ، الهند أوكرانيا ، أذربيجان ، كوريا الجنوبية ، تركيا و إيران ذات أهمية حاسمة فيها, شريطة أن تكون في الحضن الأمريكي , و هو ما لم يعد في متناولها بعد أن رفضت روسيا أن تبقى أمريكا اللاعب الوحيد , عقب هيمنتها على العالم لعقود إثر انهيار الاتحاد السوفييتي , و هو ما عبر عنه مرارا الرئيس بوتين, منتقدا "محاولات كبح نمو روسيا بشتى الوسائل لضمان استمرار النظام العالمي الأحادي القطب الذي يمنح فيه البلد المهيمن لنفسه الحق في كل شيء و لا يمنح للآخرين إلا ما يسمح به هو, إذا كان يتماشى و مصالحه , و هو النظام الذي لا يناسب روسيا "التي قال :"أنها لا يمكنها العيش تحت شبه احتلال "... لقد أحدث بوتين بمواقفه هذه , خرقا واسعا في رقعة الشطرنج البريجانسكية , تحاول الإدارة الأمريكية ترقيعه باستمالة الجمهوريات السوفييتية السابقة إلى صفها بتحذيرها من الأطماع التوسعية لروسيا و عرض مساعدتها و حمايتها لها , و بالتالي محاصرة الدب الروسي , و إبقائه في قفصه تحت السيطرة الأمريكية الأطلسية بعد إضعافه بالعقوبات الاقتصادية و إنهاكه بنزاع مسلح مع أوكرانيا , و محاربته على كافة الجبهات , حتى الرياضية بمحاولة عزله عن المواعيد الرياضية الكبرى كما حدث في أولامبياد البرازيل و كذا من خلال الهجمات الإلكترونية , ثم إعلاميا عبر صدور قرار الاتحاد الأوروبي لموجهة وسائل الإعلام الروسية و وصفه وكالة سبوتنيك و قناة روسيا اليوم بأنهما الأكثر خطورة , علما أن بريطانيا سبقت إلى غلق مكتب القناة الروسية بلندن لمدة لنفس السبب و ما زالت تخضعها من حين لآخر لتحقيقات لمراقبة حياديتها . و هو الموقف الذي هددت روسيا بالرد عليه بالمثل .و قد أوفت به في كل مرة نفذ الغرب قراراته العقابية ضدها , حيث اختارت روسيا التصدي لسياسة استعمال القوة خارج الشرعية الدولية من طرف أمريكا و حلفائها الغربيين , علما أنها سياسة غالبا ما استهدفت العالمين الإسلامي و العربي. عدوان بمبرر أنساني و الغرض غير معلن ؟ و يرى الخبير الدولي في العلوم السياسية الأستاذ بن شنان مصطفى في إحدى محاضراته في هذا الصدد ,بأن تدخل الغرب و الحلف الأطلسي في شؤون العالمين العربي و الإسلامي , يعتبر عاملا معمقا لما يعرفه العالمين من مآسي و اضطرابات,فضلا عن أن جميع تدخلات الغربيين و الحلف الأطلسي ,في الدول العربية و الإسلامية , تمت خارج أطر القانون الدولي و ميثاق الأممالمتحدة , متعللين بالدوافع الإنسانية و حماية المدنيين من حكام دمويين و لأغراض غير معلنة , بعد تهيئة الرأي العام لتأييد مثل هذه التدخلات باستعمال وسائل الإعلام المختلفة و الدعاية المكثفة الموقظة للعواطف الإنسانية . و قد تعددت المحطات التي تدخل فيها الغرب و الولايات المتحدةالأمريكية خاصة, في شؤون المنطقة العربية الإسلامية بموافقة أو بدون موافقة المجتمع الدولي ,كافغانستان و العراق مرتين و ليبيا . و منذ نشأة فكرة التدخل في الشؤون الداخلية للشعوب لأسباب إنسانية في القرن ال 17 أضحى هذا النوع من التدخل في الوقت الراهن قاعدة لدى دول الحلف الأطلسي بتفعيل مبدأين جوهريين الأول الغاية تبرر الوسيلة والثاني استغلال القانون الدولي لتغطية سياسة استعمال القوة بعيدا عن القانون الدولي نفسه . حيث يمكن استعراض أمثلة عن التدخلات المختلفة التي مارستها دول الحلف الأطلسي ضد دول العالمين العربي و الإسلامي بدءا بحرب الخليج الثانية "لتحرير الكويت" وانتهاء بما يجري في ليبيا وسوريا وما خلفته هذه التدخلات من مآسي وضحايا وزوال الأنظمة وما تعرضت له الدول من تقسيمات .وغالبا ما يتم التغطية على هذه التدخلات في شؤون العالمين العربي والإسلامي بحملة من الدعاية لإيقاظ العواطف وتبرير اعتداءاتهم تحت غطاء إنساني لحماية السكان من "طغاة دمويين وحكام ديكتاتوريين وما شابه ذلك", و بتوظيف كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة و شبكات التواصل الاجتماعي مع التركيز بنسب تصل إلى 90 بالمائة على الآراء المؤيدة للتدخل من أجل " الحماية الإنسانية " وتقزيم الأصوات المعارضة لها. متبنين مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا ، كما لجأوا أيضا للالتفاف على القانون الدولي بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية التي لا يحال عليها سوى الضعفاء والمهزومين. و كان البروفيسور بن شنان مصطفى الخبير في العلوم السياسية, أحد منتقدي مخطط الأمريكيين لبناء الشرق الأوسط الكبير الهادف إلى فرض الديمقراطية بالقوة مرتكزين على معطيات خاطئة وتصورات غير واقعية عن العالم الإسلامي الذي ينظرون إليه ككتلة متجانسة موحدة تعيش حالة من الركود المنتج للإرهاب مما يستدعي حسبهم إلى إدخال الديمقراطية على أنظمته إما عن طريق الانتخابات أو عن طريق القوة .وأكد هذا الخبير أنه استشير من طرف قادة الحلف الأطلسي حول مشروع بناء الشرق الأوسط الكبير ,فأرشدهم إلى أن تصوراتهم حول العالم الإسلامي كلها خاطئة ,غير أنهم لم يأخذوا رأيه بعين الاعتبار, وأقدموا على تنفيذ ما خططوا له بالتدخل لتغيير أوضاع الشرق الأوسط بما يتوافق و نظرتهم الخاطئة , الأمر الذي أدى إلى كل هذه الفوضى في المنطقة العربية الإسلامية وما يترتب عنها من ضحايا و إزالة الأنظمة و تقسيم الدول و تشتيت الشعوب على أسس إثنية, مذهبية , قبلية و ظهور ميليشيات مسلحة همها الوحيد الاستحواذ على موارد الطاقة و مناطق النفوذ مثلما هي الحال في ليبيا التي تحولت إلى دولة فاشلة , و سوريا التي خربتها 8 سنوات من الحرب العبثية , و اليمن و معاناة سكانه.