في قلوب النسوة شبّت حرائق. شبت الحرائق العظيمة في قلوب تلك النسوة.! هنّ يدركن أن "رحمة" أفضل نساء البلدة. وإلاّ.. لماذاتصبح قلوب الرجال مثل قطنة مبللة، كلما مرت على رصيف المحال، أو الخيال، أو تمايل اسمها في سياق الكلام !؟ . "رحمة" !! الرقة هي، طِيبة القلب هي. وإنها أدفأهن صوتا، وأوسعهن خاطرا، وأفتنهن مشية، وأكثرهن ابتساما، وأخصبهن، وأذكاهن، وأحنهن، وأودعهن. شبت الحرائق في قلوب النسوة. والرجال، ما الرجال !؟ . ربطوا الأكفّ على ضلوع تحتها ** بين النواظر والقلوب جدال. - تعالي معنا لنذهب قرب النهر نتنزه قليلا يارحمة.! قالت النسوة لتلك الآسرة ذات صباح. وفي المساء..وحين لفّت الظلمة كل شيء تحت عباءتها، عادت النسوة خفيفات خفيفات وقد تنفسن الصعداء. كن قد استدرجنها، ثم جرجرنها من شعرها الطويل، لا أحد يدري مالذي فعلن بها قبل أن يلقين بها في قاع النهر المزمجر الغاضب.. تناءى أنين "رحمة" وابتعد. كان ماء النهر يشربها، يغصّ بها يثمل فيفيض عن سريره . تنفست النسوة الصعداء. أضحت "رحمة" في مهب العدم. لا شيء. لا أحد. لم تعد أدفأهن صوتا، ولا أفتنهن نظرة، ولا أودعهن، ولا أخصبهن، ولاأحنهن، ولا يمر اسمها في سياق الكلام، ولا يميل خيالها في سياق المنام.. شربها النهر وانتهى الأمر والسلام .! ولما أصبح الصباح، عجب أهل البلدة من وجود شجرة غريبة بزهور حمراء، عرّشت فجأة على ضفة النهر، جذابة، سحارة. من أين جاءت.. !؟ تراكضَ نحوها أهلُ البلدة صغيرا وكبيرا يتسابقون إليها بفتنة. يشمونها دون أن يقطفوا زهورها قانية الحمرة زاهية العطر، فتنتابهم إثر ذلك حالة فرح عارمة. أما قلوب الرجال فأضحت مثل قطنة مبللة.! تبادلت النسوة تلك النظرات..مرارة! - إنها هي"رحمة".. بلا شك هي ..ألم نرتح منها؟! ألم يشربها النهر؟! وفي الليلة الظلماء، تسللت النسوة بسواطير ذات ألسنة حادة. وعلى مرأى من عيون النهر الساهرة قطعن شجرة الجنون الغريبة، ذات الزهور الحمراء القانية، ذات العطر المُسْكِر العجيب، ثم تنفسن الصعداء. - فليكُنْ.. قطعناها ثم اجتثثنا الجذر وانتهى الأمر.! تمتمت النسوة من بين الأسنان. تفتّح صباحٌ جديد، شديد الضوء على بيوت البلدة، فإذا بشيء غريب يحدث. تبدّى أن في كل بيت قد عرشت فجأة شجرة ساحرة آسرة العطر بزهور قانية الحمرة. تولع أهل البلدة بها. فلا همويتركون بيوتهم ولا هم ينامون ولا هم يشربون ولا هم يحلمون ولا هم يغنون إلا تحت ظلها. اشتد حنق النسوة. تبادلن تلك النظرات، وتحسسن ألسنة السواطير القاطعة. وفي أحد الأصباح، لم تصبح شجرةٌ واحدة في أي بيت من بيوت البلدة. قُطعت كلها تحت جنح الظلام وتبخر العطر صاعدا في السماء نحو نجمة بعيدة في الجهة الأخرى من الكون. الحق يقال.. غيظ النسوة كان شديدا فانطفأ . كانت سواطيرهن تقطر ألسنتها اللامعة الحادةُ تسيل زهورا حمراء قانية جريحة. أصبحَ الصباحُ ذات صباحٍ بأمر غريب على أهل البلدة. جميعا تلمسوا صدورهم، فتحسسوا بأطراف أصابعهم جهة القلب، فأصيب كل واحد منهم بالدهشة والعجب، مبهورا أمام المرآة حين شاهد كل واحد زهرة حمراء قانية مرسومة فوق نبض القلب تماما، وقد عرّشت فجأة على صدره مثل وشم قديم. وفي البلدة البائسة شاع فرح عظيم فجأة، فقد تبدى لهم أنه كلما وضع أحدهم كفه فوق الزهرة الموشومة فوق صدره جهة القلب، يشعر للتو بسعادة عظمى لا يعرف كنهها ولا يدرك سر نبعها. والرجال..ما الرجال؟! أضحت قلوبهم مثل قطنة مبللة بعطرٍ ساحر. - إنها هي ..لا بد أنها "رحمة"..! تمتمت النسوة من بين الأسنان وتبادلن تلك النظرات على غيظ مكتوم، وعلى أمر جلل سيأتي، وتحسّسْن ألسنة السواطير اللامعة القاطعة من جديد.